مقالات

كتب نور الدين ثنيو /افريقيا ما بعد الاستعمار

نور الدين ثنيو - كاتب وأكاديمي جزائري

كتب نور الدين ثنيو /افريقيا ما بعد الاستعمار

لم تعد افريقيا تتحمّل الخطاب الاستعماري، لأن عصره ولّى منذ زمن طويل. ولم يعد الخطاب الاستعماري يصلح لتغطية فضائح الأنظمة، التي جاءت نهاية الاستعمار منذ ستينيات القرن الماضي لأن عصر الانقلابات ولّى بدوره. فالاستعمار له تاريخه ومفرداته وسياقه، أما الإبقاء عليه وإمساك وعي الجماهير الافريقية به كمبرر للإخفاقات المتتالية في تنمية البلدان، هو مجرد خديعة تجري على صعيد سياسي عالٍ، ينم في نهاية المطاف عن حالات عجز في بناء الدولة الوطنية، التي تُوْصِل بين الشعب والحكم في صيغة سياسية وقانونية تؤكد الشرعية والمشروعية كليهما.
تاريخ افريقيا، أو القارة السمراء على ما كان يطلق عليها زمن الحروب والمعارك المعادية للاستعمار، تاريخ انقلابات متوالية لا تهدأ إطلاقا، ليس آخرها ما حدث هذه السنة، السودان 15 أبريل، النيجر 26 يوليو والغابون 30 أغسطس. والقاعدة على ما يؤكده السجل التاريخي لافريقيا منذ 1960 إلى غاية 2000 هي بمعدل أربعة انقلابات في السنة، ما يحيل الأمر كله إلى تناوب آلية الحكم عبر الاستيلاء على أهم مصادر الثروة، والاستغلال المفرط للخدمات وبناء الجاه والاسم و»الحق» في حيازة نصيب الجهات والعائلات والأحزاب لموارد البلد ومقدراته. وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أن سياسة الدوائر ليست لبناء الشرعية الديمقراطية كأفضل مُؤَمِّن ومُحَصِّن لمؤسسات الدولة، بل هي تعاقب دوائر الجيش والأمن على استغلال ونهب وانتهاك مقدرات البلد، بديلا عن مستعمر الأمس، بعد إحكام وعي الجماهير بخطاب محاربة ومعاداة الاستعمار.

وهكذا يجب أن نفكر في موضوع الصلة بين الاستعمار والقارة الافريقية، وهو غياب الصلة تماما، ليس لأن تاريخ الاستقلال أطول من تاريخ الاستعمار فحسب، بل لأن تاريخ ما بعد الاستعمار هو تاريخ حروب أهلية: الجزائر (1992)، رواندا (1994)، السودان (2023) وانقلابات لا تتوقف، أضحت من معهود الحياة السياسية والعسكرية في القارة الافريقية. وليس صحيحا أن هذه الحروب ناجمة عن مؤامرات قوى المتروبول السابقة، التي أعادت سياستها في صيغة الاستعمار الجديد، بل لأن هذه «الأنظمة الوطنية» عجزت عن تناوب الحكم، والسماح بوصول المعارضة الحقيقية إلى السلطة، وإدارة الشأن العام، بالقدر الذي لا تشعر الشعوب به بأن الدولة ليست ملكية لعائلة أو قبيلة أو عشيرة أو طريقة دينية أو حزب سياسي أو لشخص بعينه. مناهضة الخطاب الاستعماري للتستر على أعمال فادحة والإجهاز على أموال وموارد البلد، وفق نمط من الحكم يؤكد قواعد الاستبداد والطغيان وحكم الفرد العسكري، لأنه يملك السلاح والسلاح فقط. فهو من هذا الجانب يؤكد أنه يقاتل في غير زمن القتال، ويحارب في غير زمن الحروب ويتمادى في ذلك إلى من يوفر فرصة لأطراف أخرى تُقْدِم على حيازة نصيبها من الثروة، عندما يلحَق دورها في ذلك. وعليه، فغياب الديمقراطية بردع المعارضة الحقيقية عن الوصول إلى الحكم هو الذي يبطل فكرة «المؤامرة الاستعمارية»، ويعدم الادعاء الذي تستند إليه بعض الجماهير في تبريرها للانقلابات على أنها انقلابات على أنظمة عميلة، لأن القيادات المنقلبة الجديدة قادت انقلابها على قيادات عسكرية وأمنية، كانت بدورها مناهضة ومعادية تماما للنظام الاستعماري وعملائه في الداخل والخارج. مسألة الشرعية الديمقراطية مسألة وعي ومسألة ذات، أي شعور من داخل النفس الإنسانية وثقافة المجتمع والتربية المحلية من دين وتقاليد ونمط حياة ومدى قدرتها على التجاوب مع معطيات ومقتضيات الحداثة في محدداتها وتجلياتها، فقد كانت بعض الدول الافريقية التي تخطت إلى حد ما «المسوغ الاستعماري» هي تلك التي وصلت فيها المعارضة الحقيقية إلى الحكم، ونذكر في هذا المقام جنوب افريقيا والسنغال على ما هما عليه من تنوع واختلاف الحكم، وإخلاف الاستعمار أيضا، لكنها حظيت بحصانة سياسية وقانونية ونظامية أمَّنت لها مؤسسات الدولة إلى عهدها الجديد، الذي يطلق عليه الحكامة أو القيادة الراشدة. ففي مثال دولة جنوب افريقيا التي استوعبت مكاسب عهد الميز العنصري المعروف بالأبارتهيد، أي وجود صيغة لإمكانية العيش المشترك بين البيض والسود (80%)كأفضل سبيل إلى تجاوز الاستعمار البريطاني، الذي أشرف بدوره على عملية الانتقال واعتماد المصالحة الوطنية، التي أشرف عليها القس ديزموند توتو (1931-2021) بما تمتع به من ورع وثقة وارتياح في مساعيه، أهَّلَتْه عام 1984 للحصول على جائزة نوبل للسلام.. مثال جمهورية جنوب افريقيا، يؤكد إمكانية قيام الدولة الافريقية المكتملة الأركان والخصائص المستقلة بذاتها ولذاتها وليس لمن يتلاعبون بها. فقد كانت تجربة مناضل من طراز نيلسون مانديلا (1918-2013) كفيلة بأن تساهم بقدرة فائقة على بناء الدولة الوطنية، بعدما تعرض للسجن لفترة دامت ما يناهز ثلاثة عقود قضّاها بالكامل في غياهب وأقبية ودياجير دامسة، حُرم فيها من الحرية والسعادة وراحة البال، لكن تراكم ما يعادلها من جهة أخرى الثقة وروح المؤسسة والإخلاص للدولة، لأن مانديلا أخلص لنضاله وتفانى في التجرد من النزعة الوطنية الضيقة، ونأى بنفسه من وحل الصراعات السياسية الطاحنة التي تدمر مستقبل البلد. وهكذا، فقد كانت الشخصية الإنسانية التي بادلت الشخصية الاعتبارية على القدر والصعيد نفسه، وفرت ويسّرت إمكانية بناء جمهورية افريقيا الجنوبية بعد ما تولى هو ذاته الحكم 1994 إلى غاية 1999 وفق انتخابات نزيهة وشفافة، أسست فعلا للشرعية الديمقراطية، وحصَّنت البلد من أي انزلاقات وتجاوزات وانقلابات. ومثال هذه التجربة كان يمكن أن تقوم بها البلدان الافريقية كافة، لو التمست منذ البداية سبيل نكران الذات والإخلاص واحترام الأمة كأمة والدولة كدولة والمجتمع الدولي كمجتمع دولي، وليس فبركة خطاب إعلامي يتحدث على خلاف ما هو واقع ويبرر الانقلاب ويعلّقه على استعمار غير وارد وغير محدد.
عندما يتوحد الشخص مع الشخصية الاعتبارية تقوم فورا دولة المؤسسات. استوعبت جمهورية افريقيا الجنوبية كل ما هو موجود في الأرض والسماء والبحر، عبر دستور يعترف بـ12 لغة رسمية وعدد وافر من الأجناس والجنسيات والأصول والأعراق والديانات. كلٌ مرحب به في دستور الجمهورية، في الحاضر (كل ما هو قائم وموجود) والماضي (كل الآثار التاريخية، حتى لو كانت وثنية) والمستقبل (البحث الدائم عن صيغ للتوسع الاقتصادي في العالم)، مكنها في الأخير من ارتياد الدولة المكتملة الخصائص، توحي بالثقة، تحتضن كأس العالم لكرة القدم عام 2010 كأول بلد افريقي، وتضطلع بتأسيس صيغة البريكس BRICS مع كبار العالم كأول بلد افريقي أيضا. واليوم يعلق الأمل على افريقيا كمستقبل للعالم لو جرى الأمر على النحو الذي جرى في جمهورية افريقيا الجنوبية.
كاتب وأكاديمي جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب