مقالات

الصراعات المعلقة : النموذج المستقبلي لاوكرانيا بقلم الاستاذ الدكتور وليد عبد الحي

بقلم الاستاذ الدكتور وليد عبد الحي

الصراعات المعلقة : النموذج المستقبلي لاوكرانيا
بقلم الاستاذ الدكتور وليد عبد الحي
يشير القياس الكمي لعدد الحروب الدولية بين 1950 الى 2023 ان 74 حربا دولية اشتعلت في مناطق متفرقة من العالم ، أي ان المعدل السنوي هو ان هناك حربا واحدة كل عام(سواء حربا جديدة او استمرار لحرب قائمة) ، لكن الملاحظ ان الحروب بين الدول تتناقص بينما الحروب داخل الدول تتزايد ولو بوتيرة بطيئة ، كما ان الحروب الداخلية تتحول احيانا الى دولية، وعند النظر في اشكال تسويات هذه النزاعات بخاصة الكبرى منها والممتدة(Protracted) ، يتبين ان عدد النزاعات التي تنتهي بوقف اطلاق النار دون حسم الصراع يتزايد بشكل واضح، فمنذ عام 2010 تزايد عدد النزاعات التي تم الاتفاق فيها على وقف اطلاق النار “لأسباب انسانية” بشكل واضح، لكن عدد النزاعات من ناحية أخرى تزايد بخاصة في الفترة من 2015 الى 2019 ، حيث وصل النزاعات في هذه السنة الى 54 منها 35 نزاعا داخل الدول.(طبعا يتم حساب النزاع الجديد والممتد كل سنة).
وصحيح ان كل نزاع دولي (داخلي او خارجي) له خصوصياته ، لكن الاتجاه العام يشير الى أن تحقيق انتصارات واضحة لا لبس فيها يتراجع بشكل واضح، واصبح تعريف الانتصار ملتبسا الى حد بعيد، فمثلا من انتصر في كل عواصف ما سمي بالربيع العربي؟ من انتصر في افغانستان او العراق او الصراع على تايوان او صراع ارمينيا واذربيجان او …الخ، وهو ما يعني : ان الانتصار الباهر والواضح في الصراعات بخاصة التي يكون احد اطرافها قوة عظمى اصبح امرا ملتبسا.
ان التذرع بالعوامل الانسانية لوقف اطلاق النار هو اقرار بعدم جدوى استمرار القتال لان النصر لا يلوح في الافق.
من جانب آخر، فان الترابط الاقتصادي والتقني الى حد ان 38% من تجارة العالم هي عبر اقليمية ، وان العقوبات الاقتصادية اصبحت تؤذي طرفي الصراع( الشركات الاوروبية التي غادرت روسيا بسبب الحصار خسرت منذ بداية الحرب الروسية الاوكرانية حوالي مائة مليار دولار)، وهو ما حول النزاعات الدولية من ” نزاعات صفرية” الى نزاعات ” غير صفرية” في معظمها، فكيف للولايات المتحدة ان تحارب الصين من ناحية وهي شريكها التجاري الاول من ناحية ثانية؟ كيف لها ان تحارب روسيا وهي تعلم حاجة العالم لقمحها ومخاطر الحرب النووية وضغوط النتائج العكسية للحصار على اقتصادها ذاته؟ هنا يتجلى المنظور الصفري للصراعات الدولية، والتي بحكم بنيتها لا توصل لنصر حاسم في الغالب.
لذلك ، يبدو لي( اذا استبعدنا طبعا المتغير قليل الاحتمال عظيم التاثير او البجعة السوداء) ان الحرب الروسية الاوكرانية تسير في اتجاه ” وقف اطلاق النار ” كخطوة اولى تقترحها اغلب الاطراف الساعية للوساطة، وقد يتم استخدام الاعتبارات الانسانية (القمح، و14 مليون اوكراني مهاجر او نازح، وقسوة الظروف الحياتية بخاصة في اوكرانيا التي تراجع اجمالي ناتجها المحلي خلال عام ونصف بمعدل 33%، اضافة الى أن حوالي 40% من محطات توليد الطاقة في اوكرانيا اصبحت خارج الخدمة، ناهيك عن تدمير واسع النطاق في الموانئ والمطارات والسكك الحديدة والمصانع ومراكز التموين وتخزين الحبوب بل وشلل النقل البحري.
وما يعزز هذا الاحتمال ، ان الآمال الاوكرانية في زحزحة ذات دلالة للجيش الروسي من المناطق التي سيطر عليها تراجعت بشكل كبيربخاصة بعد ان تبين ان الروس استغلوا تلكؤ الاوكرانيين في الهجوم لتدعيم وتحصين مواقعهم التي رابطوا فيها، ، بل أن الروس يحققون بعض النهش في بعض المواقع الاوكرانية الجديدة، بخاصة ان توزيع القوات الاوكرانية اصبح مشكلة لا سيما وان طول الجبهة بين الطرفين يتجاوز الالف كم امتدادا.
لكن الحساب الروسي ايضا اعتوره بعض الخلل، فبعد صد الهجوم على كييف من قبل الاوكرانيين في مارس 2022، استعاد الاوكرانيون حوالي 3آلاف كم2 في سيبتمبر تلاها نكسة خيرسون بعد ذلك بشهرين، لكن يبدو ان ذلك هو اقصى ما يستطيعه الاوكرانيون مهما تدفقت عليهم المساعدات والاسلحة.
ويبدو ان المراهنة الغربية على انهاك الاقتصاد الروسي عبر سلسلة اجراءات الحصار كانت متواضعة الآثار وبشكل واضح قياسا للنتائج المتوخاة، فمعدل النمو واسعار الروبل وحجم التجارة بقي قادرا على رفد ساحة المعركة ، بل ان الصدمة الدبلوماسية التي واجهتها روسيا في البداية بدأت تذوي تدريجيا ، كما ان الموقف الاوروبي بدا يميل للتثاؤب من ايقاع الأزمة الاوكرانية ، كما ان الفرح الطفولي الذي غمر بعض الدوائر الغربية عند بروز الازمة بين الحكومة الروسية ومجموعة فاغنر انتهى لخيبة أمل الى الحد الذي شعر البعض ان ظلال العقل المخابراتي لبوتين يُطل من نسيج هذه العملية.
لكن المشهد الروسي ليس ورديا في كل جوانبه، فالخسائر البشرية في القوات الروسية – رغم تباين كبير في تقديرها- مرتفعة حتى في اقلها تقديرا ، بل ان الخروقات للمياه الاقليمية والاجواء الروسية من قبل المسيرات الاوكرانية الى حد الوصول للكرملين بدأ يلقي بظلاله على بعض ” النزق الروسي”.
ماذا يعني ذلك:
1- ان وقف اطلاق النار هو الخطوة القادمة الارجح ، لانها هي نقطة البداية في كل المبادرات المطروحة صينيا او افريقيا او حتى تركيا وسعوديا ، وهذه الخطوة تمثل نقطة مهمة لروسيا لتثبيت وجودها وتعزيزه والذي لن تتراجع عنه مهما اقتضت الظروف ، وستراهن روسيا على الامتصاص التدريجي للموقف الاوكراني واحتمالات التغير الداخلي، بينما قد يجد زيلينسكي نفسه امام ضغوط متتالية اوروبيا وامريكيا بل وداخليا للحفاظ على ما تبقى على اقل تقدير، او لكي لا يظهر بانه هو من يعطل التسوية السلمية التي لا بد ان يتم البدء بها.
2- بعد القرار بقرار وقف اطلاق النار(وقد يتخلل ذلك بعض المماحكات بين الطرفين-) قد يتم الدخول في مفاوضات واقرار تدريجي وتجميلي بالحدود الجديدة ( في المناطق الاوكرانية في لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون اضافة للقرم) وقد يتكرر نموذج التقسيم الذي عرفته كوريا بعد حرب 1950-1953 عند خط عرض 38( خط هيوجيونسون) أو نموذج تايوان مع الصين او ما يجري في فلسطين ، ويصبح المؤقت دائماً، وهو ما اسميناه الصراعات المعلقة أي التي لم تحل ولكنها معلقة…ربما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب