دراسات
متى يصبح الشعب الفلسطيني رقما صعبا يتعذر تجاوزه د. غانية ملحيس
د. غانية ملحيس--------بانتظار غودو
متى يصبح الشعب الفلسطيني رقما صعبا يتعذر تجاوزه
د. غانية ملحيس
لا يحتاج الشعب الفلسطيني إلى المعجزات ليستعيد وجوده الفاعل على الخريطة السياسية والجغرافية العربية والإقليمية والدولية.
فالمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ليس أول مشروع استعماري استيطاني غربي ينشأ في فلسطين، التي تتموضع في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري بين مشرق المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة ومغربها. والتي تقع في مركز العالم عند ملتقى قاراته الثلاث (آسيا وإفريقيا وأوروبا)، وتشرف ،بذلك، على خطوط التجارة والملاحة والمواصلات والاتصالات الدولية. وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة. وتحتوي على احتياطيات – هي الأكبر عالميا – لمصادر الطاقة الأحفورية الرخيصة، التي تشكل عصب الاقتصاد الدولي. وتسكنها شعوب متعددة الأعراق والإثنيات والألوان والأديان والطوائف والمذاهب. تنتمي إلى أمة واحدة تتشارك الجغرافيا والتاريخ والثقافة والحضارة. تسيدت العالم لقرون طويلة، وأسهمت منجزاتها في إثراء الحضارة الإنسانية. وما تزال شعوبها قاطبة – رغم واقعها المرير وإقحامها واستنزافها في صراعات وحروب بينية وأهلية – تؤمن بوحدة المستقبل والمصير .
يضاعف من أهمية فلسطين، بالإضافة إلى موقعها الجيو – استراتيجي الفريد خصائص رئيسية مهمة أبرزها : قدسيتها كمركز إشعاع حضاري باعتبارها مهد الديانات السماوية الثلاث،التي يدين بها ثلثا البشرية. وصغر حجمها الجغرافي والديموغرافي . ما جعل استعمارها واستبدال شعبها العربي الفلسطيني الأصيل بمستوطنين أجانب، هدفا مركزيا ثابتا في سياسات ومخططات القوى الدولية المتنفذة المتنافسة على القيادة العالمية. ليس لذاتها، وإنما لأهمية توظيفها كقاعدة استعمارية أجنبية متقدمة، والانطلاق منها للسيطرة على عموم المنطقة الجيو – استراتيجية التي تلعب السيطرة عليها دورا محوريا في ترجيح موازين القوى الدولية .
فقد سبق المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني القائم حاليا في فلسطين . استعمار استيطاني إفرنجي مماثل تم انشاءه قبل عشرة قرون واستظل، آنذاك، بالدين المسيحي /المشروع الصليبي/ واستدام بقاءه قرابة قرنين . ويصادف هذا الأسبوع الذكرى الثمانمائة وست وثلاثون لهزيمته وتحرير القدس في 2/10/1187 م. فاستعصت فلسطين،آنذاك، على الزوال، واستعصى شعبها العربي الفلسطيني على الفناء .
صحيح أن عدونا الصهيوني يفوقنا قوة وقدرة وحداثة. وصحيح ،أيضا، أن الشعب الفلسطيني الصغير والأعزل والمتخلف بالمعنى الحداثي-وليس الحضاري- بالغ الضعف مقارنة بعدوه :
– الذي يمتلك قوة عسكرية فائقة. وسلاحا نوويا خارج إطار الرقابة الدولية.واقتصادا متطورا. ووجودا استيطانيا أجنبيا يهوديا وازنا. وبنى تنظيمية ومؤسسية متطورة. ومنظومة قانونية عنصرية شاملة تمكنه من إحكام سيطرته على الجغرافيا والديموغرافيا في كامل فلسطين الانتدابية.
– ويمتلك احتياطيا ديموغرافيا يهوديا متنفذا في مختلف دول العالم
– ويحظى بحماية ودعم القوى الدولية المتنفذة .
– وينعم، أيضا، بتواطؤ النظام العربي الرسمي وخنوعه، واستعداده للتضحية بالشعوب العربية. ولا يتوانى -من أجل إدامة بقائه- عن القيام بدور الوكيل الاستعماري المكلف بعزل ومحاصرة شعوبه داخل حدود قطرية مصطنعة.تكريس تجزئة الأمة،وتمنعها من استعادة التكامل الأفقي والعمودي الذي كان قائما بين اقتصاداتها، وتعمق ارتباطها التبعي بالمراكز الاستعمارية المتقدمة. بل ولا يتورع عن ارتكاب المجازر ضدها وتوظيف اختلافات مكوناتها الإثنية والعرقية والقبلية والعشائرية والدينية والطائفية والمذهبية، وإقحامها في حروب بينية وأهلية تستنزف قواها، لإدامة السيطرة عليها . والحيلولة دون نشوء قوى أصيلة وازنة/وطنية وقومية وإقليمية/ مؤهلة لاستعادة حرية الأمة وسيادتها ووحدتها .
– ويتحصن، كذلك، بجاهزية الأنظمة العربية للتخلي رسميا عن الشعب الفلسطيني ، كما تخلى أبناء يعقوب عن أخيهم الأصغر يوسف.
– ويستقوي، أيضا، بعجز النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني وانقسامه. وانغماس أقطابه في صراعات بينية على المصالح والنفوذ. وبإخفاق الطبقة السياسية الفلسطينية وعجزها عن توفير نظام سياسي فلسطيني بديل مؤهل لقيادة الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، وتعبئته وزيادة مناعته في مواجهة عدو عنصري فاشي يحتكم إلى المعادلة الصفرية لحسم الصراع.
لكن الصحيح أيضا -كما يدلل التاريخ الإنساني المدون- أن اختلال موازين القوى لصالح الغزاة الأجانب وحلفائهم وعملائهم لم يحل يوما دون تفوق قوة الحق على حق القوة مهما طغت. عند تمسك أصحابه بإحقاقه مهما طال الزمن وعظمت التضحيات.
فقد سبق وهزم المشروع الاستعماري الاستيطاني الإفرنجي/ الصليبي/ وآل إلى الزوال، وبقيت فلسطين-كما كانت منذ الأمد وكما ستبقى حتى الأزل- وطن الشعب الفلسطيني.
تماما كما لم يحل اختلال موازين القوى دون انتصار الشعب الجزائري في 3/7/1962 على الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي دام 132 عام .
ولم يمنع هذا الاختلال انتصار الشعب الفيتنامي على القوة العالمية الأعظم -الولايات المتحدة الامريكية- في 30/4/1975.
ولم يحل ،أيضا، دون انتصار شعب جنوب افريقيا على نظام الفصل العنصري في 30/6/1991، رغم تفوقه واستقوائه بحلفائه في المستعمرة الصهيونىة والقوى الغربية المتنفذة.
فقد انتصروا جميعا على الغزاة الأجانب الطامعين في بلادهم، رغم الفوارق الهائلة في موازين القوى :
– عندما امتلكوا الوعي المعرفي بعدوهم وأهدافه ومكامن قوته وسبل تحييدها، ومواطن ضعفه وفرص تعميقها .
– وعندما أدركوا موجبات هزيمته ومستلزمات الانتصار عليه .
– وعندما وفروا الشروط الذاتية والموضوعية، وبنوا القدرة الوطنية الذاتية، وعززوا المناعة المجتمعية، وأسسوا للنهوض على صعيد الفكر والرؤى والتخطيط والبرمجة والتنفيذ في المجالات كافة/ العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتنظيمية والإدارية والمؤسسية/. وطوروا تحالفاتهم مع القوى المحلية والإقليمية والدولية المعادية للاستعمار والمناهضة للعنصرية، والمدافعة عن تساوي الحقوق الإنسانية الأساسية في الحياة والحرية وتقرير المصير .
– وعندما تبينوا طول أمد الصراع، وأداروه بكفاءة، وراكموا الإنجازات التي حققتها الأجيال المتعاقبة، وتمكنوا من رفع كلفة استمرار احتلال بلادهم لتفوق عوائده بما يتعذر مواصلة احتمالها. فاستحقوا النصر وبلغوه .
وأعتقد أننا جميعا ندرك أن وجود الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري في بلادنا المأهولة بأصحابها الأصلانيين، المصممين على بلوغ حقوقهم الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف، يخضع لذات القواعد، ويحتكم إلى الحتمية التاريخية بزواله.
وجميعنا نعي،أيضا،بأن بقاء هذا الكيان وتوسعه رهن،فقط، باستمرار تفوق العوائد التي يحققها لمنشئيه ورعاته على تكاليف دعمه. وأن اختلال هذه المعادلة يعرضه للزوال.
كما أعتقد أننا جميعا نعلم أن الحتمية التاريخية ليست ذاتية الحركة، وأن تحققها يحتاج إلى تفعيل.
وأن نجاح الكيان الصهيوني في البقاء ومواصلة التوسع خلال الخمس وسبعين عام الماضية، يعود أساسا إلى إخفاق الفلسطينيين والعرب في تفعيلها بجهد مؤثر واع وجاد ومتصل لهزيمته. وتقصيرهم في توفير الموجبات الضرورية للانتصار عليه. ما وفر للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، وما يزال، الفرص المواتية التي يحتاجها لمواصلة المواءمة بين دوره اليهودي الخاص، ودوره الإمبريالي العام، ومكنه، بذلك من :
* تأسيس إسرائيل كمركز جغرافي مسيطر للحركة الصهيونية العالمية. وتكريس هويتها كدولة استيطانية حصرية لليهود، بمواصفات غربية وديموقراطية، تمكنها من اجتذاب ولاء يهود العالم، وتمنع انصهارهم في مجتمعاتهم الأصلية، وتحفظ تمايزهم عن الأغيار للإبقاء عليهم كاحتياطي استراتيجي لتجنيدهم عند الحاجة للوفاء بدوريها الخاص والعام .
* توفير ملجأ آمن ومزدهر لمستوطنيها اليهود ومن يتم تهويدهم، لضمان استقطابهم واستقرارهم وبقائهم وتطورهم في موطنهم الجديد.
* تعزيز مكانة يهود العالم، ودعم تمايزهم لتعطيل انصهارهم في مواطنهم الأصلية.وتعزيز امتيازاتهم، وتقوية نفوذهم وزيادة تمثيلهم في مواقع صنع القرار في بلادهم لتأمين الدعم والرعاية الدولية المتواصلة للمستعمرة الصهيونبة .
* بلورة هوية وطنية وقومية يهودية إسرائيلية، بتفعيل بوتقة الصهر وتقليص تأثير الفوارق الثقافية والحضارية بين مستوطنينها اليهود، لإدامة التماهي والتطابق بين الصهيونية واليهودية وإسرائيل .
* الإبقاء على التعبئة العامة والجاهزية العسكرية للحفاظ على وجودها كدولة يهودية. والوفاء، بذلك، بدورها الوظيفي المزدوج: اليهودي الخاص والإمبريالي العام، بكلفة سياسية واقتصادية وعسكرية يمكن احتمالها .
وجميعنا يتفق على أن الإخفاق الفلسطيني والعربي في منع تحقق المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري بداية ، ووقف توسعه لاحقا، رغم جسامة التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني والشعوب العربية على امتداد أكثر من قرن . ناجم في الأساس عن تضافر وتفاعل مجموعة من الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية،الذاتية والموضوعية، التي سبق تناولها في آلاف المقالات والكتب .
ولا أجد شخصيا حاجة لمواصلة تكرارها، وخصوصا ما يتعلق منها بالمسؤولية الدولية والعربية عن نكبة الشعب الفلسطيني، التي ما تزال تتابع حلقاتها للقرن الثاني على التوالي.
ليقيني بأن تغيير المصير الفلسطيني لن يتأتى إلا :
* عندما يتغير الفلسطينيون أولا ويستعيدون ثقتهم بانفسهم ، وبقدرتهم على صنع مستقبلهم.
* وعندما يتأهبون للنهوض ويشرعون بتوفير موجبات ذلك على صعيد الفكر والرؤى والمناهج والآليات التنظيمية والمؤسسية والقيادات.
* وعندما يبلورون مشروعهم التحرري الإنساني النقيض للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري . ويدركون بأن هزيمته ممكنة ، وأنه رغم الدور المركزي المناط به، لا تتأتى بجهوده وحده، وإنما بمشاركة كافة قوى التحرر المعادية للاستعمار والاستيطان والصهيونية والعنصرية والاستبداد /الفلسطينية والاسرائيلية واليهودية والعربية والعالمية / .
* وان بناء المستقبل لا يعنى استعادة الماضي بإعادة عجلة الزمن للوراء. وإنما بالتعامل الخلاق مع الوقائع التي أفرزها الصراع، وأسفرت عن ربط مصير يهود إسرائيل ومستقبلهم بمصير ومستقبل الشعب الفلسطيني.
* وعندما يحددون بوضوح :
– المستقبل المرغوب بلوغه / نقطة الوصول/.
– والواقع القائم الذي ينطلقون منه / نقطة الانطلاق/
– والخطط والبرامج والأولويات والمهمات التي يتعين تنفيذها في مختلف مناطق تواجد الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه /كل حسب ظروفه /. بما يضمن تكامل وتتابع الإنجازات وتراكمها، للانتقال من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول بالسرعة الممكنة والكلفة المناسبة. / آخذين بالاعتبار أن بلوغ المستقبل المستهدف عابر للأجيال .
– والحلفاء الذين يتشاركون معه المصالح والأهداف، ويشاركونه الجهد لبلوغ المستقبل المرغوب.
ورغم أن الغالبية الساحقة من يهود إسرائيل ما تزال تعجز عن إدراك حقيقة ترابط مصير ومستقبل يهود إسرائيل بمصير ومستقبل الشعب الفلسطيني بنصفه المقيم داخل الوطن ونصفه الآخر في مواطن اللجوء .
وأن كافة نخبهم من مختلف التيارات العلمانية والدينية ، ما يزالون أسرى لذات العقيدة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية العنصرية.التي ترى بالشعب الفلسطيني نقيضا وجوديا ينبغي التخلص منه بالإبادة والاقتلاع والتهجير والتغيب. وتوظف الدين اليهودي والأساطير بوعد الخالق لشعبه المختار -الذي اصطفاه على سائر خلقه – ومنحه حقا حصريا في الأرض الموعودة، يبرر حروب الإبادة والتطهير العرقي التي ما يزال يشنها ضد سكان البلاد المقيمين فيها لآلاف السنين المتصلة. ويكفل،بالتالي، استثناءه من نفاذ الاتفاقات والقوانين الدولية والإنسانية التي يتوافق عليها باقي البشر لتنظيم علاقاتهم على كوكب الأرض.
وما يزال غالبية يهود إسرائيل وجميع زعمائهم ينكرون حقيقة وجود الشعب الفلسطيني، الذي يبلغ تعداده في منتصف العام 2022 نحو 14 مليونا و300 ألف نسمة وفقا لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. ويتجاهلون حقيقة أن حوالي نصف الشعب الفلسطيني نحو 7 ملايين و100 ألف نسمة يقيمون في فلسطين الانتدابية. ويشكلون 50.1% من إجمالي السكان المقيمين فيها.ويتوزعون ما بين الأراضي المحتلة منذ العام 1948/ نحو مليون و700 ألف نسمة / والضفة الغربية بما فيها القدس / 3 ملايين و200 ألف نسمة/ وحوالي مليونين و200 ألف نسمة في قطاع غزة. فيما يشكل اليهود 49.9% .
والأغرب أن ذلك التنكر والإنكار لوجود الشعب الفلسطيني، لا يقتصر على السواد الأعظم من يهود إسرائيل العلمانيين والقوميين والأصوليين المتدينين المأفونين بداء العنصرية . وإنما يشاركهم فيه علماء وفلاسفة ومؤرخين مرموقين ، أمثال البروفيسورة أنيتا شابيرا، الحائزة على جائزة إسرائيل. والفيلسوف يوفال نوح هراري ، وغالبية اليسار الصهيوني وجميع قادة الاحتجاج ضد الانقلاب القضائي.
فجل ما يخيفهم في الصراع المحتدم داخل المستعمرة الصهيونية -وفقا لأنيتا شابيرا :” عجز الصهيونية العلمانية -التي وظفت الدين والمفاهيم المسيحانية في مرحلة التأسيس لتشجيع الحملة الصهيونية بتكريس علاقة الشعب اليهودي بالأرض وإحياء الأمل بالعودة إليها- واخفاقها في كبح جماح التيارات المسيحانية ومنع صعودها بين المجتمع الديني “، الذي نمى وتطور في المستعمرات الاستيطانية الصهيونية التي تم نشرها في باقي الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1967 بغية تأمين سيطرة إسرائيل على كامل فلسطين الانتدابية.
فتفاجأوا بأن هذه القوى التي تم حمايتها وتنميتها وتعزيز قوتها طوال نصف قرن لإرهاب الشعب الفلسطيني الأعزل ومصادرة أراضيه وممتلكاته، وهدم مساكنه ،والتحكم بحركته، ومحاصرته داخل معازل لإخضاعه بالقوة واجباره على الاستسلام والقبول بمقايضة حقوقه الوطنية باحتياجاته المعيشية. قد تمردت وتجاوزت دورها الوظيفي بعد فوزها في الانتخابات التشريعية أواخر العام الماضي وإحكام سيطرتها على الحكم – واستخدمت هياكل السلطة والقوة- التي راكموها طوال 56 عام – داخل الخط الأخضر/حدود إسرائيل وفقا لخطوط الهدنة لعام 1949/ واستهدفت، أيضا، اليهود الإسرائيليين. فشرعت بالانقلاب القضائي لتحقيق مشروعها التوراتي باستبدال الدولة اليهودية الغربية / العلمانية/ بدولة الهالاخا / الشريعة/ .
وما يقلق نوفال هراري وقادة المعارضة من الانقلاب القضائي يتعلق أساسا بمخاوفهم من إمكانية فقدان الحماية الدولية التي تعفي إسرائيل ومواطنيها من نفاذ القانون الدولي والإنساني بذريعة استقلال القضاء فيها. وما قد يؤدي إليه انتهاء الفصل بين السطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في إسرائيل من انكشاف يهود إسرائيل وقادتها وجنودها وخضوعهم للملاحقة من قبل المحاكم الدولية، ومساءلتهم عن حروب الإبادة وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية التي يواصلون ارتكابها ضد الشعب الفلسطيني في كامل فلسطين الانتدابية للعقد الثامن على التوالي .
فالشعب الفلسطيني غير مرئي بالنسبة لهم وللسواد الأعظم من يهود إسرائيل . وحتى بالنسبة للعلمانيين واليساريين الإسرائيلين الذين يقودون للشهر العاشر على التوالي حراكا ضد الانقلاب القضائي، يدافعون عن الديموقراطية الإثنية التي تقتصر على اليهود فقط . والتقدميين منهم ينظرون لفلسطينيي العام 1948 كأقلية ذات حقوق فردية. ولم يستوقفهم استثناءهم من المواطنة في قانون القومية. وعندما يتحدثون عن حقوق الانسان يتم ذكر الفلسطينين في ذيل القائمة بعد النساء والأثيوبيين والمثليين .
واللافت أن غالبية يهود إسرائيل العلمانيين المحتجين الذين يملؤون الميادين والساحات كل سبت، يحرصون على التبرؤ من الفلسطينين وتجاهل مظالمهم . ويغضون النظر عن رعاية حكومات إسرائيل المتعاقبة للجريمة المنظمة في المدن والقرى والأحياء العربية، وتزويد مرتكبيها بالسلاح والمال وحمايتهم طالما بقي الضحايا من العرب. وعندما يحتجون على وحشية الشرطة التي يوجهها وزير الأمن القومي المستوطن ايتمار بن غفير ضد المحتجين اليهود، لا يلفتهم على الإطلاق ارتفاع معدل جرائم القتل في المجتمع العربي في إسرائيل، وتسارع وتائرها منذ توليه وزارة الأمن القومي وحدوث 196 جريمة قتل ضد المواطنين العرب وإفلات جميع مرتكبيها.
بل إن الصهاينه العلمانيين يحرصون أثناء فعاليات الاحتجاج على إقصاء اليهود الإسرائيلين الذين يطالبون بإنهاء الاحتلال والانفصال عن الفلسطينيين من أجل الحفاظ على يهودية إسرائيل وديموقراطيتها.
ولا يتعلمون حتى من التجربة الماثلة امامهم . فلا يستوقفهم التكامل الوظيفي بين ايتمار بن غفير وبتسلإيل سموتريش، الذي أسندت إليه مسؤولية الإدارة المدنية في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967. ويستخدم صلاحياته كوزير للمالية في توجيه موارد الخزينة العامة لتمكين وتمويل وتسليح اليمين القومي الديني الفاشي . ويتغافلون عن أن استمرار السماح للفاشيين الصهاينه بالاستهداف العنصري للفلسطينيين لن يقتصر عليهم وحدهم . بل سيطال، أيضا، يهود إسرائيل بالتوازي إن نجح الانقلاب القضائي، وبالتوالي إن تعثر إنجازه .
وعلى الرغم من قتامة الواقع الفلسطيني القائم وتنامي الاختلال في موازين القوى في غير صالحه.
تتوفر أمام الشعب الفلسطيني فرصة تاريخية غير مسبوقة لإعادة فرض حضوره النشط محليا وعربيا ودوليا . يتيحها :
– تصدع وحدة المجتمع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ،وتعاظم الاهتمام السياسي والاعلامي غير المسبوق بما يجري في إسرائيل، التي تحكم سيطرتها على كامل فلسطين الانتدابية .
– تزايد اهتمام يهود العالم على اختلاف توجهاتهم الفكرية والعقائدية وانتماءاتهم السياسية والحزبية بمتابعة مجريات وتطورات الصراع الجاري بين التيارات اليهودية الاسرائيلية العلمانية والقومية والدينية. ويراقبون عن كثب تنامي سيطرة اليمين القومي الديني الفاشي على كامل فلسطين الانتدابية وسعيه لإقامة دولة الهالاكا / الشريعة/ ، التي تطرح للنقاش العام موضوع تعريف اليهودية ونجحت الصهيونية في تلافيه والتهرب من حسمه على مدى أكثر من قرن . وتعاظم نزعته الاستقلالية، وتداعيات ذلك على دور إسرائيل الخاص كملاذ آمن لمواطنيها اليهود، وكمركز جذب ليهود العالم ، وتهديده، بذلك، لإمكانية استمرار التماهي بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل.
– تنامي اهتمام الغرب عموما، والأمريكي والأوروبي الداعم والمؤيد لإسرائيل خصوصا ، باتجاهات تطور الصراع الداخلي الاسرائيلي، وانعكاساته على طبيعة إسرائيل كامتداد للحضارة الغربية. وتأثيره المستقبلي على دورها الإمبريالي العام كقاعدة استعمارية غربية متقدمة مكلفة بالحفاظ على المصالح الاستراتيجية الغربية في عموم المنطقة.
– تعاظم الوعي الحقوقي العالمي، وتزايد الإدراك بترابط النضال الإنساني لإحقاق الحقوق الإنسانية المتساوية للشعوب في الحياة والحرية وتقرير المصير .
– تزايد اهتمام الرأي العام العالمي والمنظمات الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية بجرائم الإبادة والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها نظام الفصل العنصري الاسرائيلي في كامل فلسطين الانتدابية.
– المتابعة الحثيثة والتغطية الواسعة لوسائل الإعلام المحلية والعربية والإقليمية والدولية / المرئية والمسموعة والمكتوبة/ ولوسائل التواصل الاجتماعي لوقائع الصراع الداخلي الاسرائيلي وتطوراته .
والفرصة المتاحة لا علاقة لها بدعوة فلسطييي العام 1948 للمشاركة في الحراك المناهض للانقلاب القضائي -كما يطالب البعض- رغم وقوعهم في دائرة الاستهداف الأولى . فالصراع الجاري بين التيارات الصهيونية العلمانية والقومية والأصولية لم يلغ الإجماع الصهيوني على اعتبار الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته نقيضا وجوديا ينبغي التخلص منه بالإبادة والتهجير. وفي مقدمتهم مواطني الدولة من فلسطيني العام 1948. الذين تواطأ عليهم جميع الصهاينه العلمانيين والدينيين والقوميين واقتلعوهم من أراضيهم وممتلكاتهم.وشردوهم خارج وطنهم. وأخضعوهم لحكم عسكري تواصل ثمانية عشرة عاما، 1948-1966 . وما يزالون يمنعون المهجرين الفلسطينيين من مواطني إسرائيل من العودة إلى ديارهم ومدنهم وقراهم / اقرت وكفر برعم والدامون والطيرة وطبريا وقيسارية / . واستثناهم قانون القومية من المواطنة. وما يزال فلسطينيوا النقب في القرى الفلسطينية غير المعترف بها / وعددها 45 قرية/ يتعرضون للعقد الثامن على التوالي للتطهير العرقي . ويكفي الإشارة إلى ان قرية العراقيب قد تعرضت للهدم 218 مرة منذ قيام دولة إسرائيل .
والفرصة التي أعني وتتوفر أمام الشعب الفلسطيني وقواه الحية وخصوصا داخل فلسطين، تتعلق بكسر حالة السكون القائمة الناجمة عن عجز النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني واستكانته وتعويله على النظام الدولي المتواطئ والمسؤول عن نكبة الشعب الفلسطيني لإنصافه.
وبتجاوز الأطر والنخب القيادية العاجزة والتأسيس للنهوض بإطلاق مبادرات جماهيرية للتصدي الجماعي للمخاطر الوجودية المتنامية التي تواجهها التجمعات الفلسطينية المختلفة على امتداد فلسطين الانتدابية، وتشكيل لجان شعبية مناطقيه للدفاع المدني تعمل على :
– تنظيم مسيرات أسبوعية جماهيرية حاشدة في كافة أماكن التواجد الفلسطيني داخل مناطق 1948 -بالتوازي والتزامن مع حركة الاحتجاج اليهودي ضد الانقلاب القضائي – ضد انتشار الجريمة المنظمة التي تستهدف المجتمع العربي. وضد تواطؤ الحكومة الاسرائيلية، والمطالبة بكشف المجرمين ومحاسبتهم. والمطالبة بتدخل وحماية دولية في ظل امتناع الحكومة الاسرائيلية عن القيام بمسؤولياتها اتجاه مواطنيها الفلسطينيين. فذلك هو السبيل الأنجع لطرح قضيتهم أمام الرأي العام الإسرائيلي والعربي والإقليمي والدولي.
– تنظيم الفلسطينيين داخل الاراضي المحتلة منذ العام 1967 مسيرات أسبوعية جماهيرية حاشدة في كافة المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية -بالتوازي والتزامن مع حركة الاحتجاج الإسرائيلية ضد الانقلاب القضائي – للمطالبة ب:
– وقف اقتحامات جيش الاحتلال ومستوطنيه للمدن والقرى والأحياء الفلسطينية .
– ووقف الإعدامات الميدانية للشباب الفلسطيني.
– ووقف استهداف الصحفيين
– ووقف استهداف الاطفال الفلسطينيين بالقتل والاعتقال .
– ووقف الاعتداء على رجال الدين والمصلين واقتحام وتدنيس المقدسات الإسلامية والمسيحية.
– ووقف مصادرة الأراضي وهدم البيوت.
– ووقف اقتلاع الأشجار وإتلاف المحاصيل
– ووقف سرقة المياه
– ووقف الاعتقال الإداري
– وإطلاق سراح الأسرى .
– والمطالبة بتدخل دولي فاعل لحماية الشعب الفلسطيني في ظل إخلال إسرائيل/ القوة القائمة بالاحتلال / بمسؤولياتها القانونية اتجاه الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال .
وتكمن أهمية التزامن والتوازي بين فعاليات حركة الاحتجاج الاسرائيلي والفلسطينى ضد ذات النظام العنصري الاسرائيلي رغم اختلاف المطالب والشعارات بتعزيز قوة كلا الجانبين لزيادة الضغط ومحاصرة اليمين الفاشي من جهة . ولجذب أنظار المجتمع الدولي وتعريفه بحجم المخاطر التي يواجهها الفلسطينيون ويهود إسرائيل معا .
ولاستنفار قوى التحرر الفلسطينية والإسرائيلية والعربية واليهودية والعالمية، وتوحيد الجهود لرفع كلفة استمرار النظام الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري، ورفع أعباء دعمه الأمنية والاقتصادية والسياسية والديبلوماسية والقانونية والأخلاقية، وتقويض قدرته على القيام بدوره الوظيفي بشقيه الخاص والعام .
ندرك أن الطريق لهزيمته ما يزال طويلا وشاقا ومكلفا . لكننا نعلم يقينا أن عهد الاستعمار قد ولى إلى غير رجعه . وأن نهاية آخر استعمار على هذا الكوكب قد بدأ مسار الأفول . وأن مهمة جيلنا بذل كل الجهد الممكن لتسريع وتائره لإحلال الأمن والسلام الذي تتوق له شعوب المنطقة والعالم .