وسام سعاده يكتب /اليسار الأكاديمي الإسرائيلي في المعركة
اليسار الأكاديمي الإسرائيلي في المعركة
وسام سعادة
كاتب وصحافي لبناني
توجّهت ثلّة من أكاديميي ومثقفي اليسار الإسرائيلي، إثر هجمات حركة حماس في السابع من أكتوبر، ببيان إلى “يسار الكوكب”، حملت فيه على “انعدام الحسّ الأخلاقي” في معترك اليسار الغربيّ، مشددّة على أنّ أولئك “الذين يرفضون إدانة أفعال حماس يُلحقون بالغ الضرر بفرصة أن يتحوّل السلام إلى خيار سياسي ذي أهلية ومحتضن”، ويخاطرون بتحويل اليسار إلى فئة منغلقة ومنبوذة، بدلاً من أن يكون لها إسهام، من موقع الانتصار للقيم الإنسانية الكونية، في كسر دوامة العنف والدمار.
طبعاً لن تكون هذه المرة لا الأولى ولا الأخيرة الذي ينقسم فيها اليسار، عبر العالم، بين منظارٍ “ضد الإمبريالية على طول الخط”، مع فئة مغالية فيه تضيف “أنها ضد الإمبريالية والصهيونية من أين عاجلتها الضربات ومهما كانت التكلفة” وبين منظار “ضد الاستبداد الشرقي والأصولية الدينية” قبل أي اعتبار آخر، وفئة فيه تتطرف وتضيف، “ولو بحاملات الطائرات الأمريكية” (أو هراوة الأنظمة، إن كان التهديف على الأصولية أولى).
والمشكلة آذاك تتبدى، في الصعوبة النظرية كما العملية، من موقع اليسار، للجمع بين مناهضة الامبريالية والاستبداد الشرقي والأصولية الدينية معاً، ثلاثتهم وبالفعل، في زمن ما بعد نضوب الشيوعية وبهتان الاشتراكية الديمقراطية.
لكن البيان موضع الإشارة موجه بالأساس من اليسار الأكاديمي في إسرائيل ليسار الكامبوسات “الووكي النزعة” في الغرب، والغاية منه طلب الإدانة الواضحة لحماس. وفي الأساس صاغ هذا البيان ثلاثة: إيفا اللوز، عالمة الاجتماع المولودة في فاس المغربية، والتي تدرّس في كل من الجامعة العبرية وباريس، والروائي دافيد غروسمان، ومؤرخ الأديان آفياد كلاينبرغ المشتهر بكتابين مرجعيين، “الإله الحسّي” وتاريخ القدّيسين”.
دُبِّجَ ونُشِرَ هذا البيان مع بداية ارتسام الحملة التدميرية لقطاع غزة، وما تفتحت عنه من شهوة ترانسفير لسكان القطاع. وتزامن شيوعه مع حملة عاتية قامت في فرنسا ضد الظاهرة الشعبوية الأبرز في يسارها في السنوات الماضية جان لوك ميلانشون، كونه أدان سواءً بسواء كلا من حماس وإسرائيل، بدلاً من أن يُخَصِّص اللحظة لإدانة أفعال حماس فحسب.
أن تدين حماس وإسرائيل معاً، فهذه سترمى فيها بالتصهين عربياً، في حين أنك ستضبط، لو فعلتها، متلبساً بجريمة التواطؤ مع حماس فرنسياً.
قبل هذا البيان كان لإيفا اللوز كتاباً رصدت فيه، ببراعة، انطلاقاً من الحالة الإسرائيلية، وبالاستعانة بمفاتيح الفلسفة السياسية، كيف تُجنّد “الانفعالات ضد الديمقراطية”، وكيف تُشاد “ديمقراطية أمنية” مبنية على إدارة الخوف والتخويف وليس على التعاقد الاجتماعي الحرّ، مقرونة بنظام آبارتيد قاهر للفلسطينيين.
لكن يبدو أن اللوز كان تتوقع من سكان القطاع المحاصرين أن يهزجوا بنتف من “نقد العقل المحض” لعمانوئيل كانط، وأن يثمر قمع إسرائيل لعرفات و”فتح” ازدهار كتائب سبينوزية في غزة.
بعد عمليات حماس، لم تتوان عالمة الاجتماع عن مقارنة الفصيل الإخواني بالنازية، بل حدّدت “تنزيُن” حماس منذ أن صعد فيها نجم محمد الضيف، معتبرة أنّ القصد الإباديّ لليهود لدى الحركة يفرض على المجتمع الإسرائيلي خيار مقاتلة وجودية لها، خاصة أنها انتقلت إلى طور التنفيذ. صارت الملحمة آذاك بين أولاد الناجين من المحرقة وبين آفاتارات هيملر المتأسلمين. أما أن يكون الرد على “بوغروم” حماس بعملية تطهير إثني، فهذه ليست في حسبان اللوز، أو هي تعيد التسبب بذلك لحماس، مثلما أن حماس تحمّل ذلك للحصار. ما يغيب في الحالتين هو استقراء السياق العام للصراع، وليس تتابع الأفعال التي كلها ردات أفعال على ما سبقها.
المغفل في هذه المطالعة للوز السؤال: اذاً، هل كان بنيامين نتنياهو على حق في كل ما قاله وسعى إليه منذ سنين؟ أم أن سياسة نتنياهو ضالعة في تدهور الوضع على هذا النحو؟ يمكن، الانتقاء بين هاتين الإجابتين، يصعب في المقابل أن يكون نتنياهو على حق وعلى باطل في وقت واحد.
في كتابها، “الانفعالات ضد الديمقراطية”، لم تتردد اللوز في المفاصلة، ضمن التاريخ الليكودي نفسه، بين “شعبوية استيعابية” أناطتها بمناحيم بغين وبين “شعبوية اقصائية” تستثمر في “سياسات الضغينة” وربّانها نتنياهو. لكن، كيف يمكنها الآن أن تقيم حدّاً فاصلاً بين يساريتها وبين اليمين المتطرف ما دامت حماس، بعرفها، قد فرضت على الجميع “المقاومة الوجودية” إياها التي فرضت لمّ شمل الهاغاناه مع الإيرغون؟
توجّهت ثلّة من أكاديميي ومثقفي اليسار الإسرائيلي، إثر السابع من أكتوبر، ببيان إلى “يسار الكوكب”، حملت فيه على “انعدام الحسّ الأخلاقي” في معترك اليسار الغربيّ، مشددّة على أنّ أولئك “الذين يرفضون إدانة أفعال حماس يُلحقون بالغ الضرر بفرصة أن يتحوّل السلام إلى خيار سياسي ذي أهلية ومحتضن”
ما تفتيه اللوز ورفاقها أنّ موقفاً يسارياً أممياً واضحاً في إدانة حماس سيساعد اليسار الإسرائيلي على تقوية حجته، فينقذه بالتالي من “تكبيل” نتنياهو له. لكن، ألا يعني ذلك نقل حالة التكبيل هذه كي تشمل اليسار، عبر العالم، برمته، من فوق ما هو مكبّل بنقائض استقلاليته المختلفة، ومن ضمنها انمحاء برنامجه لصالح رؤى الخليط القومي – الإسلامي في البلدان العربية؟
حريّ بالحساسية الأخلاقية أن تدفع الجميع في العالم إلى نبذ ثقافة “تبجيل العنف”. لكن نبذ تبجيل العنف لا يكون بشيطنته الخرافية. عنف البشر من صنع البشر، لا هو فوق الأنثربولوجيا ولا فوق التاريخ. ضبط هذا العنف في مستطاع البشر أيضاً. قوانين الحرب من الآليات المأمولة لذلك، وحث الجميع على التقيّد بها مطلوب وأكثر. في الوقت نفسه، عندما يستهين طرف بكل قوانين الحرب، هل على الطرف الثاني أن يتقيّد بحذافيرها؟
هل لليسار أن يطرح على نفسه هذا السؤال، أم عليه أن يقمعه، ويلتزم بدعوة الطرف الأضعف للالتزام بقوانين الحرب من طرف واحد؟
ليس لأي يساري جديّ خارج إسرائيل مصلحة في أن يشتد فيها ساعد اليمين المتطرف إلى هذا الحد، لكن، هل – ولو تجنّد كل يسار العالم لمدّ اليساريين في إسرائيل سواء عرّفوا عن أنفسهم كصهيونيين أم “ما بعد” أم لا، بما أوتي من مؤازرة معنوية مطلوبة، هل بإمكان ذلك أن يقيم لهذا اليسار فيها قائمة في أمد منظور؟ المسكوت عنه هنا هو المفارقة التالية: في حين ستمثل أي حيوية جديدة للحركات الإسلامية المقاتلة وطأة جديدة لكل يساريي العالم، ويساريي البلدان العربية قبل سواهم، فإن الحظ الوحيد المتبقي لليساريين في إسرائيل هو أن يُحبط نتنياهو أمام غزة… على يد حماس. بل أن هذه هي النقطة الموضوعية لاستحالة التلاقي مع ما يطرحه اليسار الأكاديمي الإسرائيلي اليوم!
في كتابها، تُذكّر إيفا اللوز بأن إسرائيل محكومة منذ 1977 باليمين في معظم سنواتها. بالتالي، لا وجاهة للحديث عن “تداول للسلطة” ضمن المؤسسة الصهيونية بين يمينها ويسارها، بل عن انتقال الهيمنة على هذه المؤسسة من اليسار قبل انتخابات 1977 إلى اليمين بعد ذلك. وهي تربط تدهور الحال المزمنة لليسار مع النقلة باتجاه الاقتصاد النيوليبرالي من جهة، وانتعاش “سياسات الضغينة” من جهة ثانية، وبخاصة مع صعود الأحزاب الإثنية – الدينية، حيث تتوقف ملياً أمام نموذج “شاس” عند المزراحيم، وإلحاقه المطلبية الاجتماعية بهوية دينية متزمتة ومتطيرة وفئوية، والكيفية التي تمكن نتنياهو، من الاستثمار في سياسات الضغينة وشتات أحزابها الدينية، بحيث أن روحية الحنق هذه لم تعد اندفاعتها “من تحت إلى فوق”، بل أخذت منحى تناهشيّاً بين فئات المجتمع المختلفة، بما يمدّد من إدارة الليكود للدفة.
كيف كانت ترى إيفا اللوز والحال هذه استفاقة لليسار في إسرائيل من بعد كل هذا؟ بمراكمة في الوعيين الأخلاقي والاجتماعي بما يشمل اليهود والعرب جميعاً، ومن أين لوعي كهذا ليبدر؟
مؤرخ تاريخ الأفكار الإسرائيلي زئيف سترنهل، الذي كان ينظر له كقامة في اليسار هناك إلى حين رحيله عام 2020 كان أكثر رؤيوية وتشاؤماً. إذ رأى أن الصهيونية العمالية ومنذ مجتمع “الييشوف” ما قبل قيام الدولة، اختلّ فيها التوازن مبكراً، بين ما هو قومي وبين ما هو اشتراكي وكوني، وأنّ هذا اليسار تشكل من أساسه على قاعدة شحيحة الارتكاز على تركة التنوير والعقلانية – الكونية.
مع هذا، ظلّ سترنهل يصنف نفسه من الفئة القليلة ضمن اليسار الصهيوني، الفئة التي خسرت الرهان باكراً. وهو ظلّ مكابراً على السمة الكولونيالية للمجتمع والدولة، لكنه على الأقل اعتبر أن الانحراف عن تركة التنوير يبدأ بديفيد بن غوريون، وليس بانتخابات 1977 وبغين ونتنياهو.
الانعطافة نحو اليمين ظاهرة كوكبية شاملة. لكن ليست عديدة البلدان التي تراكم انتخابات تنافسية محصورة بين اليمين وبين اليمين المتطرف، على حساب أي يسار كان، سواء كان له طعم أو لون أو من دون. إسرائيل، التي يهيمن عليها الليكود منذ 45 عاماً على نحو جلي، والتي لا تعرف كيف تستقل عن شخص نتنياهو، من هذه الفئة.
هل ما زال من الممكن فيها إعادة تنبيت يسار، هي التي كانت أكثر من أي دولة سواها “بنت اليسار”، حتى لو بمعناه الصهيوني الذي يصعب على اليسار من المقلب العربي رؤيته يساراً، والذي أقام سترنهل بينه وبين تركة التنوير والكونية طلاقاً منذ تولاه بن غوريون؟
قطعاً لا ينحصر الانسداد العالمي اليوم باليسار الإسرائيلي وحده، ولن يخرج اليسار في أي مكان من العالم من ثنائي الطفولية والهرم الذي يصيبه إلى استعادة الروح النضرة الفتية إلا بالقطيعة الثلاثية، مع الإمبريالية ويسارها، ومع الاستبداد الشرقي ويساره، ومع التيارات الدينية ويسارها.
إنما المدخل لذلك لا يمكنه أن يكون أخلاقياً إلا بالشكل الذي يرتبط فيه مجدداً بسؤال الفلسفة السياسية بامتياز، من أفلاطون وأرسطو والفارابي إلى كارل ماركس: “تحصيل السعادة”. هل ما زال لليسار من طاقة وشغف، وسط كل هذا التخريب والدمار، على تحصيل السعادة، أم هو يرتدع من خوف ليلوذ بآخر؟ وهذا أيضاً ما فعلته إيفا اللوز، ولو أنها كانت تسعى في كتبها لأن تتجنب ذلك.