د. محمود الذوادي يكتب / عداءُ الغَرب للعرب في ميزان نَظرية الرّمُوز الثقافيّة
عداءُ الغَرب للعرب في ميزان نَظرية الرّمُوز الثقافيّة
د. محمود الذوادي
عالم في الاجتماع من تونس
أحدث هجوم طوفان الأقصى على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 ظواهر عديدة عربيا ودوليا. نقتصر هنا على إلقاء الضوء على موقف الغرب العدائي للمسلمين (عرب وعجم) ومنه على آثار طوفان الأقصى في قطاع غزة. يُعتبرُ هذا الموقف من الأمور الثابتة في سلوك الغرب نحو المسلمين. فالقول إن هذا السلوك أمر ثابت يعني أنه معلم راسخ ومتواصل في جوهر الرؤية الغربية للمسلمين. فهي حقيقة لا يكاد يقر بها الكثير من النخب السياسية والثقافية ذات التعليم والثقافة الغربيين لغة وفكرا في العالم العربي. يفسر تكوينهم اللغوي والثقافي صمت بعض الأنظمة السياسة العربية والنخب الثقافية على ما يجري من إبادة للأطفال والنساء في غزة منذ أسابيع، وهو سلوك يفسره بسهولة علماء النفس والاجتماع. نفصل القول في هذا الموضوع بمنظور مختلف يتمثل أساسا في نظريتنا للرموز الثقافية.
يسمي الفلاسفة والمفكرون الاجتماعيون الإنسان كائنا مدنيا/اجتماعيا بالطبع. ونريد أن نحاجج بأن مقولة نظريتنا تعلن أن «الإنسان كائن ثقافي بالطبع» في المقام الأول. إذ يصعب بدون ذلك أن يكون هذا الإنسان أصلا مدنيا بالطبع. فالإنسان كائن ثقافي بالطبع بسبب مركزية ما نسميها «الرموز الثقافية» في هويته. وتعنى الرموز الثقافية تلك السمات الثقافية التي يتميز بها الإنسان على كل من الأجناس الأخرى والآلات الحديثة ذات الذكاء الاصطناعي. فاللغة المكتوبة والمنطوقة والمعرفة/العلم والفكر والأديان والقوانين والقيم والأعراف الثقافية..هي سمات رئيسية مميزة للجنس البشري. لقد توصلنا أخيرا إلى استعمال مصطلح مرادف للرموز الثقافية أطلقنا عليه البعد الثالث للإنسان. جاء ابتكارنا لهذا المفهوم من تشخيص جديد لهوية الإنسان. وقع تعريفُ طبيعة الكائن البشري عموما في ديانات وفلسفات والمنظومات الثقافية المتعددة في الشرق والغرب على أنها تتكون من جسد وروح، أي أنها ثنائية التركيبة. ونظرا لمركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان رأينا أنه يجوز إضافتها لإتمام الوصف الوافي للطبيعة البشرية لكي تصبح ثلاثية الأبعاد في الصميم.. سنستعمل في هذا المقال المصطلحين كمرادفين.
يحتاج الحديث عن علاقة المسلمين بالغرب المسيحي إلى الإشارة إلى الخلفية التاريخية التي ربطت بينهما. فمن جهة، لقد غزا المسلمون ما يسمى اليوم إسبانيا والبرتغال حيث أقاموا حكمهم وهيمنتهم لقرون عديدة. وحاولوا التوسع أكثر في أوروبا خاصة على أيدي الأتراك. ولاشك أن المخيال الغربي (تصوره وحالته الذهنية والنفسية) أصبح منذ ذلك التاريخ متوجسا وخائفا وعدائيا للمسلمين. إذ هم القوة التي هددتهم في عقر دارهم. ينبغي أن يساعد هذا العامل تفسير العداء الخاص الذي يكنه الغرب إزاء المسلمين بالمقارنة مثلا مع موقفه نحو الهنود والصينيين.
ومن جهة ثانية، فقد هُزم المسلمون في الأندلس وطردوا منها شرّ طرد فسجلوا في مؤلفاتهم هيامهم بالأندلس ولوعتهم عليها وغضبهم على ما تعرضوا له على أيدي المنتصرين الإسبان. فولّدت تلك الأحداث المؤلمة عندهم مخيالا حاقدا على الإسبان وعلى الغرب بصفة عامة نتيجة لذلك وللحروب والاستعمار الغربي لهم في العصور اللاحقة الحديثة.
إن تحالف المجتمعات الغربية مع إسرائيل منذ تأسيسها لا يكفي تفسيره فقط بالعوامل الجغرافية الاستراتيجية التي تجنيها بعض القوى الغربية من ذلك. بل يجب أيضا إعطاء دور مركزي للمنظومة الثقافية الغربية
ترى نظريتنا للرموز الثقافية أن اشتراك الأمم والمجتمعات والجماعات فيها يسهل التقارب والتحاور بينها. فالاشتراك أو التشابه بين تلك التجمعات البشرية في الرموز الثقافية يعزز بالتأكيد الاستعداد والتحمس والقدرة على التقارب والتحاور على المستويين الفردي والجماعي بين ثقافات المجتمعات والحضارات البشرية. هناك ثلاثة عوامل ثقافية رئيسية تقوي من إمكانية التقارب والتحاور بين بني البشر:
1ـ معرفة لغة الآخر تسهل فتح أبواب التقارب والتواصل بين الأفراد والمجموعات البشرية. فمعرفة لغة الآخر هي تأشيرة خضراء للدخول من البوابة الواسعة للاحتكاك به والتعرف عليه. ومن ثم، فحـوار الثقافات بين العالم الإسلامي والعالم الغربي يتطلب في المقام الأول من الطرفين معرفة لغات بعضهما البعض. وهذا العامل اللغوي ضعيف الحضور والانتشار في المجتمعات الغربية على المستوى الشعبي وحتى النخبوي. وربما ينطبق هذا أكثر على المجتمع الأمريكي ليس بالنسبة لفقدانه لمعرفة لغات العالم الإسلامي فحسب بل أيضا في ضُعف معرفته للغات الأجنبية بصفة عامة.
وعلى العكس من ذلك، فإن لنخب وشعوب العالم الإسلامي معرفة واسعة ومتمكـنة أحيانا بلغات المجتمعات الغربية المتقدمة وفي طليعتها اللغتان الإنكليزية والفرنسية. أما المجتمعات الغربية المتقدمة فليس لها ما يحفزها على نطاق شعبي واسع على تعلم ولو لغة واحدة من لغات العالمين العربي والإسلامي الرئيسية (العربية والفارسية والتركية والأردية). إذ طالما يقتصر الأمر في أغلب الأحيان على تعلم بسيط لبعض لغات العالم العربي والإسلامي لعدد محدود جدا من الأفراد من العلماء والمستشرقين والدبلوماسيين ورجال الأعمال والاستخبارات.
2 ـ التعرف على ثقافة الآخر: للنخب والطبقات الاجتماعية العليا والمتوسطة في المجتمعات العربية الإسلامية معرفة لا بأس بها أو متميزة في ثقافة وعلوم المجتمعات الغربية المتقدمة بحيث يصبح البعض من نخب المتعلمين والمثقفين المسلمين أكثر إلماما ومعرفة بالثقافة والعلوم الغربية من ثقافة وعلوم مجتمعاتهم. وهو وضع يجعل الكثيرين من هؤلاء يشكون من معالم الاغتراب اللغوي والثقافي ومن ثم التعاطف البارز مع والانتساب القوي إلى الثقافة والعلوم الغربية على حساب الثقافة والعلوم الإسلامية مما يؤدي إلى الانبهار بلغات الغرب وبثقافته وعلومه إلى تحقير وإلغاء التحاور مع الذات وهي ظاهرة سماها عالم الاجتماع الماليزي الراحل سيد حسين العطاس «العقل السجين».
3 ـ الدين: يمثل عامل الدين هو الآخر قطبا جذابا يشجع ويدفع الأغلبية المسلمة إلى التحاور والتواصل مع الغرب المسيحي. إذ يؤمن المسلمون بأن المسيحيين هم من أهل الكتاب، وبالتالي فالمسلمون يؤمنون بعيسى نبيا ورسولا. أما بالنسبة لموقف أغلبية المسيحيين الغربيين من الإسلام فهو موقف سلبي على العموم.
إن تحالف المجتمعات الغربية مع إسرائيل منذ تأسيسها لا يكفي تفسيره فقط بالعوامل الجغرافية الاستراتيجية التي تجنيها بعض القوى الغربية من ذلك. بل يجب أيضا إعطاء دور مركزي للمنظومة الثقافية الغربية الحاملة لصداقة ضعيفة نحو ثقافة وحضارة العالمين العربي والإسلامي المنطوية على كثير من نقص المودة لهما. فالعداء الثقافي الغربي عداء ذو تاريخ طويل كما رأينا.
فيمنح هذا الواقع الثقافي مشروعية لسلوكيات الأفراد والمجتمعات الغربية الاستعدادَ الكبير للمساندة الدائمة إلى إسرائيل على حساب الحقوق العربية وخاصة حقوق الشعب الفلسطيني الذي يبقى الشعب الوحيد المحروم في العالم من حق التمتع بكرامة الاستقلال.
عالم في الاجتماع من تونس