كيف تشتري إسرائيل سكوت جمهورها وصمت العالم؟

كيف تشتري إسرائيل سكوت جمهورها وصمت العالم؟
ستبقى الدول الغربيّة تواصل التفرّج على الجوع، والخراب، والقتل، والاقتلاع، وعلى أطفال غزّة الذين يُدفنون وتُدفن معهم الهويّة الأخلاقيّة الإسرائيليّة، دون أن تُحرّك ساكنًا..
.
في سؤال: لماذا يصمت الإسرائيلي، بل ويتعاطف مع جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يرتكبها جيشه وحكومته ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منذ زهاء السنتين، دون أن يتحرّك فيه ساكن سياسي أو إنساني، اللهم سوى مظاهرات ذوي الأسرى الإسرائيليين التي تقتصر فحوى شعاراتها وأهدافها على معاناة “الرهائن تحت القصف في أنفاق حماس”، دون الالتفات للفلسطينيين الواقعين “عراة” تحت القصف الإسرائيلي المباشر بعد أن دُمّرت بيوتهم، يُقتلون ويُهجّرون ويُجَوّعون حتى الموت.
في هذا السؤال، كان جوابنا التلقائي أننا أمام مجتمع استيطاني استعماري تتوحّد فيه مصالح المستعمرين الأفراد بمصالح السلطة المستعمِرة، ويستفيدون جميعًا من عدوانيتها وتوسّعها واستيطانها وحروبها، من خلال التشارك في غنائمها ومغانمها ومردوداتها الاقتصاديّة والسياسيّة، ويزداد هذا التوحّد كلّما استشعر هذا المجتمع المزيد من الخطر على مشروعهم الاستعماري المُربح الذي يسمّونه “خطرًا وجوديًّا”.
وهم، على عكس المجتمع الأميركي الذي تحوّل بعد مرور مئات السنين على استيطانه الاستعماري إلى مجتمع “طبيعي”، ولذلك رأيناه يخرج في مظاهرات عارمة مُندّدة بالحرب الإجراميّة التي خاضتها بلاده على فيتنام، ونراه اليوم يخرج، أسوة بغيره من المجتمعات الغربيّة، لِيُندّد بحرب الإبادة على غزّة، فإنهم لم يتحوّلوا إلى مجتمع طبيعي، لأن الصراع على مشروعهم الاستعماري لم يُحسم مثلما حدث هناك، لسببين: الأول يرتبط بطبيعة هذا المشروع المختلفة، والثاني يرتبط بطبيعة السكّان الأصليّين والمقاومة العنيدة للشعب الفلسطيني المتواصلة منذ مئة عام وأكثر.
وفي سياق الاستفادة الماديّة العينيّة من حرب الإبادة على غزّة، والتي تُسهم في كتم أصوات هذا المجتمع واصطفافه الأعمى وراء حكومته اليمينيّة الدينيّة المتطرّفة، تساعدنا مقالة كتبها المؤرخ آدم راز، وعالم الاجتماع آساف بوند، على فهم هذه العلاقة المركّبة وإدراك بعض ديناميكيّاتها الداخليّة، حيث يكشف المقال أنّ الدولة تدفع لجندي الاحتياط، لقاء كلّ يوم “تطوّع” في الخدمة العسكريّة في غزّة، 29 ألف شيكل، وهو مبلغ يُنافس، كما يقول الكاتبان، الأجر اليومي للعاملين في مجال “الهايتك”، الذين يحظون بالأجر الأعلى في سوق العمل الإسرائيلي.
هذا الأجر المرتفع الذي تدفعه الدولة، برأي الكاتبين، هو ليس لقاء الحصول على قوّة عمل عسكريّة لتنفيذ سياستها فقط، بل لقاء الحصول على أمر آخر لا يقلّ قيمة: يتمثّل بالشراكة وكسب الدعم والمصداقيّة الواسعة للحرب، إذ إنّ “عملة” خدمة الاحتياط تلك تخلق منظومة مصالح يقع في شباكها جمهور يتّسع باطّراد، الأمر الذي يجعل جندي الاحتياط، الذي يحظى بعشرات آلاف الشواقل شهريًّا، لا ينتقد الحرب، وأن تتحوّل عائلته وأصدقاؤه وزملاؤه إلى شركاء غير مباشرين في “المشروع الحربي”… ويصمتوا عن انتقاد هذه السياسة وتداعياتها.
أمّا في سؤال صمت العالم على الإبادة الجماعيّة للشعب الفلسطيني، ومواصلته توفير الغطاء والدعم اللازم لاستمرارها على مدى السنتين الماضيتين، فجوابنا كان دائمًا أننا أمام منظومة استعماريّة تقودها أميركا، تعتبر إسرائيل ذراعها الضارب وقاعدة ارتكاز لها في المنطقة العربيّة، وهي لهذا السبب تواصل دعمها لها في كلّ الأحوال، حتى حين ترتكب جرائم ضدّ الإنسانيّة وحرب إبادة.
في هذا السياق أيضًا، خاض الباحث في الشأن العسكري الإسرائيلي يغيل ليفي، في مقال نشرته “هآرتس”، في تفاصيل التدخّل أو عدم التدخّل الدولي لدى تعرّض شعب من الشعوب لحرب إبادة، فأشار إلى مسؤوليّة المجتمع الدولي في منع الإبادة الجماعيّة، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانيّة، والتطهير العرقي، في حال فشلت الحكومة المحليّة في منعها، وذلك باستعمال الوسائل الدبلوماسيّة والإنسانيّة وغيرها لحماية الجماعة التي تتعرّض لمثل هذه الجرائم، بما فيها فرض العقوبات الاقتصاديّة واستعمال القوّة العسكريّة.
ليفي يعطي أكثر من مثال على التدخّل الدولي عسكريًّا لمنع “الإبادة الجماعيّة”، أو ما كان يُعتقد أنّه “إبادة جماعيّة”، أحدثها في 2011 بعد اتخاذ قرار في مجلس الأمن باستخدام القوّة العسكريّة ضدّ ليبيا، بادّعاء حماية سكّانها من “جرائم” حكومتها، وكلّنا يذكر كيف قصفت طائرات الناتو العاصمة طرابلس وأطاحت بنظام القذافي.
والمثال الثاني في 1999، عندما تجاوز حلف “الناتو” مجلس الأمن، وشنّت قوّاته غارات جويّة على صربيا لمنع “التطهير العرقي” ضدّ الألبان في كوسوفو، هذا علمًا أنّ عدد القتلى الألبان، كما يقول، بلغ عشية شنّ هذه الهجمات 2000 مدني فقط، مقابل 30 ألف قتيل مدني، و350 ألف جريح، ومليوني مهجّر في غزّة، وهي أعداد كافية وجديرة بأن تجعل زعماء الناتو ورئيس الولايات المتحدة يلقون خطبًا ناريّة حول المسؤوليّة الأخلاقيّة للحلف، ويُذكّروا بالمحرقة النازيّة.
لكن في حالة إسرائيل، فإنّه ما من مسؤول غربي قد يفكّر بتدبير أقلّ من ذلك بكثير، مثل فرض حظر جويّ عليها أو نشر قوّات دوليّة لفضّ الاشتباك في غزّة، ليس لأنّ إسرائيل تحظى بحماية الولايات المتحدة فقط، كما يقول، بل لأنّها تُعتبر جزءًا من العالم الغربي، وجزءًا من “الجدار الحديدي” في وجه العالم الإسلامي، ويجب أن تكون محلّ شفقة بسبب صدمة السابع من أكتوبر والتداعيات التي تثيرها ذكرى المحرقة.
لهذه الأسباب، ستبقى الدول الغربيّة تواصل التفرّج على الجوع، والخراب، والقتل، والاقتلاع، وعلى أطفال غزّة الذين يُدفنون وتُدفن معهم الهويّة الأخلاقيّة الإسرائيليّة، دون أن تُحرّك ساكنًا.