
فلسطين: حين تُمنحُ الذاكرةُ خلودَها
اللغةُ، في الحقيقةِ، أساسٌ يُضارِعُ البلادَ؛ مِن حَيثُ الخُلودُ؛ فكِلْتاهُما خَالدةٌ، لا تَنْتفي بالتَّقادُمِ. فهُمَا تَحمِلانِ ذاكرةً تأنَفُ النِّسيانَ، وتَرسُمُ دُروبَها المُوصِلَةَ نَحو تاريخٍ لا يَذْوي؛ رُغمَ ما يَعتَريهِ مِنْ عَقَباتٍ وَصَدماتٍ وصفعاتٍ بين مَرحَلةٍ وأخرى. لكنّ هذه الأمورَ، على مَرارتِها، تَمْنَحُ الذّاكِرةَ انتِباهًا إلى شارداتٍ تعملُ على تَوثيقِ أواصِرِ الأحداثِ، مِنْ خلالِ الكتابةِ الواصِفَةِ والاعتِصامِ بَحبلِ المَوصوفِ، وتَرسيخِ أطنابِ الفِكرةِ بالسَّردِ المَاتعِ، دونَ أي مانعٍ يَقِفُ حَدًّا مُرتَعِشًا بَينَ السُّكوتِ والبَوْحِ. فالكِتابةُ، بالضَّرورةِ، هُروبٌ من الخارجِ إلينا؛ إذ نَجِدُ ذاتَنا المَرجُوّة في سُطورِنا المَكتوبةِ؛ نحنُ نكتبُ هُويَّتَنا حينَ نكتبُ عن البِلادِ!
في كتاب “جُذوري عميقةٌ في فلسطين”، نجدُ الكاتبَ إبراهيم عبيد، وهو من الكُتّابِ الفلسطينيين المَهْجَرِيّين، يُؤثِّثُ لانتمائه بالتأريخِ المُوَزَّعِ بين أسلوبين سَردِيَّيْنِ: السيرة الذاتية والسيرة الغيريّة؛ إذ إنه يدمجُ بينهما بأسلوبٍ منسجِمٍ يمنحُ القارئَ الحافزيّةَ المستمرةِ للحفرِ أكثرَ في ذاكِرةِ الكِتابِ والكاتِبِ؛ في آنٍ مَعًا. إنَّ المتأمِّلَ عُنوانَ الكتابِ يجدُ أنّه يشكِّلُ عَتبةً مُهِمةً ذَاتَ أبْعادٍ دَلاليّةٍ عَميقةٍ: الجُذورُ تحمِلُ دَلالةَ الرُّسوخِ والثباتِ وعدم الانزياحِ، والذي يزيدُ من عمقِ الكلمةِ الأولى، التي هي مبتدَأ في السياقِ النّحْويِّ، الخبرُ المتمثلُ في كلمة “عميقةٌ”، فهو خبرٌ في النحوِ، صفةٌ في الدلالةِ، إذ تصبحُ الجملةُ أكثرَ تماسُكًا، ذاتَ كينونةٍ لا تَنْمَحي؛ يتبعُها حرفُ الجرِّ “في” الذي يُفيدُ الظّرفيّةَ المكانيّة، ويحملُ في مضمونِهِ دَلالةَ العُمقِ، فالجذورُ تقعُ في الاسمِ المجرور بعد “في” ألا وهو “فلسطين”، التي يتجسَّدُ فيها وَطَنُ الكاتبِ، وتحملُ أوجاعَه وأفراحَه، وجروحَه ودواءَها، وذاكرتَه التي نجدُ أنها لم تتعبْ، ولم يُصِبها غُبارُ البُعدِ، رغم الهجرةِ منذُ أمدٍ بعيدٍ؛ فالكاتبُ، كما يظهرُ مِنْ وَصفِهِ للأحداث، بكُلِّ تفاصيلِها، وبأدقِّ الوصوفِ، يرسمُ خارطَةً تامّةَ الأبعادِ؛ كأنه لم يفارقْ بلادَه، وهو في الحقيقةِ لم يفارقْها أبدًا؛ إذ غادرَها جَسَدًا، وبقيَتْ روحُه ووجدانُه وعشقُه راسِخًا كالجُذور في فلسطين.
إبراهيم عبيد، في كتابِهِ، يحمِلُ الذاكرةَ على عاتقَيْه، ويحاول ناجحًا أن يتدرجَ بكل الحقائقِ، وبمعلوماتٍ نقرؤُهَا للمرةِ الأولى، فكتابةُ التاريخِ ليستْ بالمهمةِ السّهلة، لكنها مُغامرةٌ حامِيةُ الوَطيسِ، يخرجُ منها الكاتبُ مُنتَصِرًا، فالحقيقةُ انتصارٌ، والكتابة عن الوطنُ عودةٌ إلى الهُويّة وتحقيقٌ للذات.
د. محمود البنّا -شاعر وناقد من الأردن ّ
التحميل
https://drive.google.com/file/d/1d7VHwKiJsen-QO5CePgLO1gy7GPqQPsR/view?usp=sharing