الصحافه

الغزاويون يداوون جراحهم بشموخ… ويدفنون أحبابهم… ويثقون في أن النصر المبين قريب

الغزاويون يداوون جراحهم بشموخ… ويدفنون أحبابهم… ويثقون في أن النصر المبين قريب

حسام عبد البصير

القاهرة ـ  عادت الحرب التي يأمل من خلالها نتنياهو أن تؤجل نهايته السوداء، التي ليس في وسعه النجاة منها، ولو سفك دماء مزيد من الضحايا في فلسطين المباركة، والمبتلاة بأمة شيعت ضميرها، وأهملت مساءلة حكامها، فغدوا لا يكترثون بمحاكمة التاريخ لهم ولا التفريط في الواجب. ولا يحتاج المرء مزيدا من الشواهد على أن قرار نتنياهو وأعوانه من القتلة، استئناف الحرب دليل على شعورهم بالهزيمة، وان رعاياهم لن يقبلوا بمثل تلك النتيجة التي ستقود كبيرهم للسجن حتما. والتقى الرئيس السيسي، نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، على هامش أعمال الدورة الـ28 لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المُتحدة الإطارية لتغير المناخ، في دبي.. تناول اللقاء متابعة التباحث بشأن القضايا الدولية والإقليمية، لاسيما تغير المناخ، وكذا التصعيد في قطاع غزة، إذ تبادل الرئيسان وجهات النظر في ما يتعلق بالتطورات الأخيرة، واستعرض الرئيس في هذا الصدد رؤية مصر بشأن ضرورة وقف إطلاق النار، والتوسع في إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، فضلا عن الجهود المصرية لاستقبال المصابين الفلسطينيين وإجلاء الرعايا الأجانب. ودعا أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية، إلى ضرورة ردعَ الاحتلال الإسرائيلي وإلزامه بالانصياع للإرادة الدولية في تحقيق وقف فوري ومُستدام لإطلاق النار، وبدء عملية سلام جادة وحقيقية، تُفضي لإنهاء هذا الاحتلال العنصري البغيض، سبيلا وحيدا لأمن واستقرار المنطقة. وطالب أبوالغيط بوقفة جادة وحقيقية من الأطراف الدولية الفاعلة للتصدي للمُخططات الإسرائيلية، ووقف العدوان على قطاع غزة وحماية المدنيين، وسرعة إدخال المُساعدات الإنسانية العاجلة والضرورية، التي تُلبي احتياجات أهالي القطاع.. وبمُناسبةِ “اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني”، دعت الجامعة العربية لاستعاد الحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف، للشعب الفلسطيني، وذلك بمناسبة ذكرى قرار الأمم المُتحدة سنة سبعة وأربعين بتقسيم فلسطين.
يحمدون الله

يلملم سكان قطاع غزة جراحهم وأحزانهم وقصصهم المرعبة الأليمة التي عايشوها قرابة الخمسين يوما جراء القصف الوحشي المتواصل على بيوتهم ومصادر أرزاقهم، يعود النازحون لتفقد بيوتهم فلا يجدونها، فقد تغيرت كما أوضحت جيهان فوزي في “الوطن” ملامح الأحياء والشوارع تماما، حتى إن الكثيرين منهم لم يتعرفوا على مناطق سكناهم أو بيوتهم المهدمة فتضاعفت صدمتهم من هول المأساة، كل شيء في غزة تحول إلى ركام، دمار هائل في كل مرافق الحياة، سواء البنية التحتية أو المستشفيات أو المؤسسات الحكومية والمدنية، أو الجامعات، أو المحلات التجارية والأسواق، ووسط كل ذلك لا يجدون ما يسد الرمق من الاحتياجات الأساسية كالخبز والوقود والمياه والكهرباء، فما يدخل من مساعدات إغاثية لا يسد احتياجات 10% من السكان. يتحايلون على الظروف ليستمروا على قيد الحياة، إنها الكارثة في أبشع صورها، ووصفها مسؤولون دوليون بأنها أقرب إلى الجحيم الذي تستحيل معه الحياة. لقد حاولت إسرائيل تسويق الأكاذيب لمواطنيها بأنها احتلت مركز مدينة غزة، وسيطرت على المحاور الرئيسية فيها، فكان موقع تبادل الأسرى في اليوم الثاني بمثابة رد صاعق لها من المقاومة، حيث تم التبادل في استعراض عسكري لـ«القسام» وسط المواطنين الفلسطينيين في ساحة المدينة، الأمر الذي يؤكد أن الجيش فشل فشلا ذريعا في السيطرة على غزة أو نزوح سكانها، أو تحقيق أي انتصار. تتنقل كاميرات المصورين بين الأنقاض ويسأل المراسلون المواطنين الذين ينبشون بين ركام منازلهم المدمرة بحثا عن أي شيء لا يزال صالحا ينتفعون به فلا يجدون، وتأتيهم الإجابة غير متوقعة: «نحن باقون وهم إلى زوال»، رغم المعاناة وملامح الأسى والإنهاك الواضح على الوجوه، يحمدون الله ولا يتذمرون، شعب جبار بكل معنى الكلمة، صامد وصابر ومرابط، يعلم الفلسطينيون أن كل مشاهد الدمار التي يرونها والأحزان التي تجرعوا مرارتها طوال الأيام السابقة من الحرب لن تكون نهاية المطاف، ومع ذلك لم ترتجف الكلمات فوق شفاههم، بل كانت مشحونة بالعزيمة على مواصلة الحياة بكل معاناتها وقسوتها: «سنظل هنا مهما كان الثمن.. نحن شعب بدنا نعيش».

أكاذيب إسرائيل لا تدوم

حاولت إسرائيل تسويق الأكاذيب لمواطنيها بأنها احتلت مركز مدينة غزة، وسيطرت على المحاور الرئيسية فيها، فكان موقع تبادل الأسرى في اليوم الثاني بمثابة رد صاعق لها من المقاومة، كما قالت جيهان فوزي، وقد أشار «ناحوم برنيع» الكاتب في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، إلى تأخر الدفعة الثانية من صفقة التبادل لبضع ساعات، مستنتجا أن «حماس» لا تزال مسيطرة، واعتبر أن المشكلة بدأت حينما هددت «حماس» بتعليق إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، بينما كانت أسرهم تعاني مما وصفه بالقلق من عدم لم شملهم معا. كما أثار هذا أيضا قلق وتساؤل عائلات بقية الأسرى، الجميع تنفسوا الصعداء عندما وصل الأسرى إلى طاقم الصليب الأحمر الدولي، ويرى برنيع أن أي حديث عن هزيمة الحركة كان سابقا لأوانه، وتعبيرا عن التمني، فقد كانت قوتها واضحة في المساومة، والمطالب التي قدمتها في ما يتعلق بكل قطاع غزة، حتى المناطق الخاضعة الآن لسيطرة الجيش الإسرائيلي. حتى الآن لا يوجد سيناريو واضح لليوم التالي من انتهاء الحرب، القادة السياسيون في إسرائيل يحاولون كسب الوقت أملا في أي انتصار أو إنجاز سياسي يسوقونه لشعبهم، خاصة نتنياهو، الذي يحاول باستماتة إنقاذ مستقبله السياسي المهدد بالمحاكمة والسجن، أما الفلسطينيون فهم مصرون على البقاء في أرضهم والعودة إلى بيوتهم، وإفشال مخطط التهجير، رغم الدمار وحرب التجويع وانعدام مقومات الحياة، بينما المقاومة الفلسطينية ما زالت في ميدان المعركة على أهبة الاستعداد، لم تنكسر ولم تضعف عزيمتها، فيما نرى تغيرا في الموقف الدولي من الحرب، أما المؤكد فإن الوضع ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول لن يكون كما كان قبله.

خيارهم الوحيد

“إن ما حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 من حماس والفصائل المقاومة الأخرى ضد إسرائيل، وما استتبع ذلك من تدمير وتخريب وسحق غير مسبوق لقطاع غزة، يجب أن لا يقاس بحجم الخسائر والمكاسب بين الطرفين بالنسب نفسها وبالمقياس نفسه، لأسباب من أهمها أن المقاومة كانت في مواجهة دولة تساندها أكبر قوى عالمية سياسية وعسكرية. يمضي جمال أسعد في “المشهد” في طرح المبررات التي دفعته للتأكيد على عدم وجود خيار آخر أمام الفلسطينيين: إن المواجهات التي تتم بين المقاوم والمحتل لا بد فيها من دفع الثمن الغالي من دماء الشهداء، ولذا وفي مقابل ثمن الدماء الفلسطينية الغالية الثمن، كانت أهم المكاسب هي إعادة القضية إلى الرأي العام العربي والعالمي بعد غيبة، نتيجة لسيطرة أوهام السلام على العرب، مع عدو لا بقاء له ولا وجود حتى في مسمى السلام، هذه الأوهام فتحت طريقا لعقد صفقات سياسية تحت مسمى التطبيع بادعاء أن هذه الصفقات ستكون طريقا لحل القضية ولإيجاد السلام، وكان ذلك لصالح دولة الاحتلال ومن هم وراءها وليس العكس. هنا تحولت القضية من قضية كل العرب إلى قضية فلسطينية (لفصائل متعددة الاتجاهات ومتباينة المصالح) خاصة بعد أوسلو 1993، فكانت الانتفاضات الجماهيرية التي ابتدعها أطفال الحجارة، ثم المواجهات المسلحة التي مارستها الفصائل المقاومة بعد وصول حماس للسلطة في غزة 2007 بعد تجذر التفتت والتشرذم بين حماس وفتح. وتحول الأمر إلى مواجهات مسلحة كل عدة سنوات ويتم وقف القتال فيها بعد أن يدفع المواطن الفلسطيني الثمن، في الوقت التي تمارس فيه دولة الاحتلال الاستحواذ على مزيد من الأراضي وكثير من القتل والتدمير والاعتقال، وكل هذا يتم على أرضية شعاراتية (عند اللزوم) تطالب بتطبيق قرار حل الدولتين.

دون شعارات

ما هي سبل الاستغلال الأمثل لتلك الفورة الإنسانية التي اجتاحت العالم بأسرة رفضا لتلك الممارسات غير الإنسانية ضد شعب أعزل؟ يرى جمال أسعد أن من سيقومون بإعادة المفاوضات الماراثونية مرة أخرى لأي حل، بمشاركة بعض الدول العربية يعلمون أنه لن يكون هناك وجود لحماس رسميا (على الرغم من وجودها كفكرة للمقاومة تحت أي اسم). هنا من سيكون البديل في غزة؟ مع العلم أن هناك صراعا سياسيا معلنا بين أغلبية في غزة، والسلطة الفلسطينية التي يعتبرها البعض البديل؟ هل ستقبل الفصائل المسلحة الرافضة لوجود إسرائيل (فلسطين من النهر إلى البحر) وعقد صفقات معها؟ ما هو موقف الدول العربية التي ما زالت وستظل مؤمنة بالارتباط المصلحي مع إسرائيل إرضاء لأمريكا؟ وبعد التضامن العالمي مع الأحداث على أرضية إنسانية هل ستظل الفصائل الإسلامية في تديين القضية؟ وهل هذا التديين كان أو سيكون في صالح القضية، خاصة أن وضع القضية في إطار المواجهة الدينية بين أصولية إسلامية وأصولية يهودية (مسنودة بأصولية مسيحية تم التغرير بها باسم أساطير توراتية) كان في صالح الاحتلال؟ وهل التديين من جانب إسرائيل يبرر التديين من جانب من يؤسلمون القضية فيخسرون التضامن العالمي تحت الادعاءات الكاذبة بربط الإسلام بالإرهاب؟ لاستثمار نتائج ما حدث وبعد دفع هذا الثمن الغالي، لا بد من إعادة التعريفات ودراسة الواقع دراسة موضوعية وتقليل الشعارات التي لا نرفضها في إطار الحرب النفسية المضادة، ولكن يجب أن لا تكون هي كل الفعل، لا بد من إعادة اللحمة الفلسطينية وهي الأهم قبل أي اعتبار آخر. لا بد من التحضير الموضوعي والمدروس لمواجهة الادعاءات والأكاذيب الإسرائيلية التي ستطرحها لتعويق أي أمل في إقامة الدولة الفلسطينية، خاصة أن القرار العالمي والدولي لإقامة الدولة الفلسطينية لا يرى النور في ظل ذلك الواقع الذي تحدثنا عنه. فهل تعرفنا بموضوعية على الدور المصري وارتباطه بالقضية ارتباطا موضوعيا بلا شعارات؟

المقاومون الأوائل

في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، يُحتفل باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وهو يوم كما تشير نادين عبد الله في “المصري اليوم” مكرس لدعم وتأكيد التضامن مع أفراد الشعب الفلسطيني في السعي إلى تحقيق حقوقهم واستعادة حريتهم وكرامتهم. هذا اليوم تم تحديده بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1977، ليتزامن مع تاريخ اعتماد القرار 181 في عام 1947، الذي يدعم تقسيم فلسطين إلى دولتين، وإنشاء دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية. يعيش الشعب الفلسطيني منذ عقود تحت وطأة الاحتلال، ويعاني أفراده يوميا معاناة لا تُوصف: صعوبات اقتصادية، تحديات حقيقية في الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل التعليم والرعاية الصحية والمياه النقية والكهرباء؛ والحرمان من الحق في حرية التنقل، بالإضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان المتواصلة، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والمضايقات اليومية وهدم المنازل والمصادرة الأرضية. من المفترض أن يكون هذا اليوم مناسبة لتجديد التزام المجتمع الدولي بدعم حقوق الإنسان والعدالة للشعب الفلسطيني، ودعم الجهود المبذولة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أساس حدود معترف بها دوليا. إلا أن هذا الاحتفال بهذا اليوم في هذا العام تحديدا شديد المرارة ليس فقط لأنه يُذكرنا بالحق المهدر لأشقائنا في فلسطين، على مدار هذه السنوات الماضية في دعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني؛ بل أيضا، وبالأخص، لأنه يأتي في سياق الحرب الجارية على غزة، تلك التي راح ضحيتها ما يزيد على عشرة آلاف مدني، من بينهم أكثر من أربعة آلاف طفل وأكثر من ألفي امرأة، في ظل صمت دولي كي لا نقول مباركة دولية لانتهاكات إسرائيل الفجة للقانون الدولي، فعلى الرغم من أن حق الوصول إلى الرعاية الطبية، وحق الوصول إلى المساعدات الإنسانية، وحق حماية المدنيين من الهجمات، وحماية النساء والأطفال، هي حقوق أساسية للمدنيين في سياق الحروب يكفلها القانون الدولي الإنساني، فإن إسرائيل لم تحترم أيا منها، أما عن المجتمع الدولي، فهو لم يفتح فاه، ولم يتحرك لحماية أرواح البشر؛ وهو أمر مُخْزٍ ومحزن. التضامن مع أفراد الشعب الفلسطيني ودعم حقوقهم الأساسية مسؤولية دولية إنسانية وأخلاقية وليس هبة.

لا يمزح

راح مذيع قناة روسيا اليوم الذي تابعت انفعالاته نيفين مسعد في “الشروق” يتلقى تقارير مراسلي قناته المنتشرين في سائر مدن قطاع غزة والضفة الغربية لتغطية تطورات الحرب المجنونة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين. وكانت تقارير هذا اليوم تحديدا تغطي ملابسات تنفيذ اتفاق الهدنة، ومن بينها إطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي – عندما قال مراسل القناة في مدينة القدس، إن قوات الاحتلال داهمَت بيوت أهالي الأسرى وصادرَت منهم الحلويات التي يوزعونها على المهنئين. لم يصدق المذيع ما سمعه وسمعناه معه من مراسل القناة، وأراد أن يستوثق من صحته فسأله في ذهول: أنت لا تمزح أليس كذلك؟ فرد عليه واثقا بأنه لا يمزح. كانت التعليمات الإسرائيلية قبل سريان اتفاق الهدنة ألا يحتفل الفلسطينيون خارج حدود أُسرهم، وكانت هذه التعليمات معلنة ومعروفة والتزم بها الفلسطينيون بالفعل، ومع ذلك فإن حكومة أقصى اليمين في إسرائيل لم تحتمل حتى احتفالات البيوت الفلسطينية بحرية أبنائها ببعض الحلويات. ومثل هذا الفعل الصغير جدا من أحد أقوى جيوش العالم – الذي أثار دهشة المذيع ليس له إلا تفسير واحد، أن الفرحة التي عمت بيوت الأسرى هي دليل الخيبة الثقيلة للحكومة الإسرائيلية، فقد وعدَ نتنياهو شعبه بتحرير الرهائن بالقوة، لكن قواته تعثرت في دهاليز أنفاق غزة، ووعدَه بالقضاء المبرم على كل عضو في حركة حماس، فإذا به يضطر للتفاوض مع الحركة مكرها، فكيف يمكنه أن يبيع وهم الانتصار ويروج له؟

لصوص الفرح

هذه اللمة وأكواب الشَربات والحلويات والأحضان والزغاريد والموسيقى والصور الجماعية تخزي جيش الاحتلال وتخجله وتكشف عجزه. لكنه وفق ما ترى نيفين مسعد يظن أنه قادر على سرقة الفرح من القلوب أو في القليل إخفاء الفرح عن العيون، ويُثبت بعد كل هذه السنين الطويلة من الاحتلال أنه لا يعرف شيئا عن نفسية هذا الشعب وتركيبته العجيبة. لم تستوقف قادته على الأرجح صورة أسرة فلسطينية تحتفل بعيد ميلاد أحد أبنائها وسط ركام العمارات المنهارة، تتونس بضوء القمر مع انقطاع الكهرباء وتستبدل نورا بنور، وتتخيل أن تلك الأنقاض المحيطة بها من كل صوب هي آثار قديمة لإحدى الحضارات العظيمة التي أينعت في قلب المشرق العربي، وليس أكثر من الحضارات والديانات التي مرت بأرض فلسطين وبأهل فلسطين. إنه شعب يحب الحياة كمثل حبه للموت، يستقبل مواليده بالزغاريد ويودع شهداءه بالزغاريد، ينجب أكثر ليهدي للوطن أكثر، ويتأقلم مع أصعب الظروف وكأنه لم يمر بغيرها أبدا. هذه الخيام البيضاء المتلاصقة التي نُصبت بسرعة البرق لتأوي أصحاب البيوت المقصوفة، ينبعث منها دفء وحميمية وذكريات قديمة وجديدة وقلق وهواجس وإيمان بلا حدود، وهذه المشتركات التي ترفع الحواجز وتذيب الخصوصية وتلغي المسافات مفيدة للتماسك والاستقواء، فكل شعور بالوحدة يُضعِف.في اتفاق الهدنة كان هناك مشهدان متناقضان، مشهد الرهائن الإسرائيليين الذين تقلهم الحافلات الكبيرة وتُنثَر عليهم الورود وتطير من فوقهم البالونات الملونة وتتابعهم عشرات الكاميرات ووكالات الأنباء، ومشهد الأسرى الفلسطينيين الذين يُحرمون حتى من الاحتفال مع أهلهم داخل بيوتهم بما تيسر لهم من المرطبات والحلويات الشرقية، وهذا مستوى من الازدواجية الإنسانية أظن قد فاتنا الانتباه إليه ونحن نتحدث عن ديمقراطية دولة إسرائيل.

أشبه بمخدر

الهدنة في حرب غزة أتت مفعول السحر وعزت أمينة خيري في “الوطن” النتائج لما يلي: لم تسمح لأهل غزة بالعودة لبيوتهم لتفقد ما جرى لها، أو لاستخراج أفراد عائلاتهم من تحت الأنقاض ودفنهم في أماكن معلومة، أو لتناول وجبة ساخنة لأول مرة منذ أسابيع، أو لالتقاط الأنفاس للتفكر في ما هو آتٍ فقط، لكن الهدنة جعلت العالم كله يتنفس الصعداء لأول مرة منذ ما يزيد على 50 يوما، ولو مؤقتا. المؤسف في الهدنة – أي هدنة – أنها تكون أشبه بالمخدر الضعيف الذي يعطي المريض فرصة مؤقتة ليعود إلى حياته الطبيعية، لكن ما هي إلا أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو حتى سنوات حتى تعود الآلام لتهاجم المريض، وتبدأ حلقة جديدة من حلقات الهدن والحروب. على أي حال، فإن الهدنة الحالية قبل أن تتيح الفرصة للجميع لالتقاط الأنفاس، والعودة للاهتمام بحياتهم وتفاصيلها التي تغاضوا عنها تحت وطأة فداحة الحرب الشعواء، فإنها تستحق منا أن نوجه التحية والتقدير لأولئك الذين يجلسون في الغرف المغلقة في مفاوضات طويلة ومنهكة، ويروحون ويجيئون في رحلات مكوكية تصارع الزمن، من أجل الضغط على هذا الطرف تارة، وإقناع هذا الطرف تارة أخرى، ما يستوجب مكانة دولية وحجة إقناع من نوع خاص وقدرة على فهم عقلية ومآرب وتوازنات وثقافة وأولويات كل من الطرفين المتحاربين، وهو ما لا يتوافر لكثيرين. دور مصر الفاعل في هذه الحلقة من حلقات الصراع ذي الـ75 عاما مشرف ومبهر على المستويين الشعبي والرسمي، موقف مصر السياسي الرسمي ثابت لا يحيد عن اعتناق القضية الفلسطينية، لا الاكتفاء بدعمها ببضعة مليارات هنا أو إصدار بيانات شجب وتنديد هناك، ولكن بالعقيدة والعمل على أرض الواقع. أما الموقف الشعبي، فتُكتَب فيه مجلدات ومراجع.

فلنفكر بهدوء

تابعت أمينة خيري: موقف العالم من حرب غزة يستحق منا قليلا من التفكير والتدبر وعدم الانجراف في ما يسميه الغرب «Wishful thinking»، أو «التفكير الرغبي»، بمعنى أن الشخص يفكر في ما يرغب فيه ويعتبره المنطقي والمتوقع، بينما التعامل الواقعي يحتم علينا التفكير بحكم الواقع.، إن من يعتقد أن العالم يصرخ متغنيا بمحبة «حماس»، فهو مخطئ. ومن يعتقد أن ساسة الغرب سينحازون لفلسطين وأهلها وحقهم ووضعهم المأساوي، انحيازا طال انتظاره، فهو مخطئ أيضا. ومن يظن أن التيارات اليسارية في إسرائيل ستنحاز لفلسطين بعد حرب القطاع، فهو مخطئ أيضا. التفكير الرغبي سيخبرنا أن العالم سيقف على قلب رجل واحد في أعقاب حرب القطاع ليعيد الحق للمظلومين، والأرض لأصحابها، والخير والحب والسلام للمنطقة. لكن التفكير الفعلي يخبرنا أن شيئا من هذا لن يحدث. ما سيحدث هو «تدابير وتوافق». كلمة أخيرة في ضوء الصفاء الذهني النسبي الذي توفره الهدنة. أتمنى من كل قلبي ألا تجد مصر نفسها بعد أسابيع أو أيام ملومة أو مؤنبة مع كل ما تقدمه وقدمته وستقدمه من أجل قضية تعتنقها، ولا تمر عليها مرور الكرام على مدار 75 عاما. كما أتمنى أن يُحكّم البعض في الداخل عقله في ما يختص بالمطالبات الحنجورية الفيسبوكية أو التويترية أو الإنستغرامية الافتراضية التي يتم إطلاقها في أمسية شتاء من على مقهى، أو في دفء الـ«ليفينج روم»، أو في لحظة إبداع شاحط. إن أمرت فتطاع، فأمر بما يستطاع. وإن أردت أن تقاطع، فلا تخنق عيالك في الطريق. وإن أردت أن تختلف مع أحدهم في الرأي، فلا تنعته بأقبح الشتائم، لماذا؟ لأن أسهل رد فعل في الدنيا هو الشتيمة.

جزار وصاحبه

يرى سامي أبو العز في “الوفد”، أن لقب جزار غزة.. استحقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن جدارة، وسوف يحفره التاريخ باللون الأحمر في صفحة داكنة السواد لدراكولا العصر، صاحب الرقم القياسي في القتل والتدمير وارتكاب جرائم الحرب واغتيال الآمنين والاعتداء على حقوق الإنسان ومحاولة ابتلاع وطن بالكامل ومحوه من فوق الخريطة. قطاع غزة الذي تحول إلى مقبرة مفتوحة تعد الأكبر تاريخيا، وإلى سجن مفتوح لأكثر من 2 مليون فلسطيني يتعرضون إلى تطهير عرقي وسط صمت حكومات المجتمع الدولي. جاءت صرخة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمناسبة التضامن مع اليوم العالمي للشعب الفلسطيني مدوية في محاولة لإفاقة عالم دخل «الفريزر» أمام أحداث ساخنة امتد لهيبها إلى عنان السماء، وفجّرت أرضها غير المستقرة براكين إذا لم تخمد في مهدها فسوف تمتد لتحرق العالم أجمع. وكشف عباس أن قطاع غزة يتعرض لتهديد وجودي واستهداف متعمد وممنهج للمدنيين، وأنه لا دولة في غزة، ولا دولة دون غزة، لأن التصعيد الخطير في المنطقة سببه غياب الحقوق وتجاهلها. ورغم سعي الاحتلال الدؤوب للإسراع قدما في الانتهاء من صفقة الأسرى، التي دقت عنقه ليستجيب للتهدئة إرضاء للجبهة الداخلية والرفض الشعبي والهلع الذي أصاب اليهود، إلا أنه في الوقت ذاته ما زالت تصريحات رئيس وزراء التتار الجدد نتنياهو ووزير دفاعه، تؤكد أن هناك حربا لا محالة سوف تقضي من وجهة نظرهم على ما بقي من صمود أبناء غزة، وما زال الحلم اليهودي بعمليات التهجير لإنهاء الصراع وتصفية القضية الفلسطينية قائما ويداعب اليهودي على حساب دول الجوار، رغم صرامة الموقفين المصري والأردني في هذا الشأن بالتحديد وتأكيدات مصر المستمرة برفض التهجير والنزوح وتصفية القضية الفلسطينية.

استفزاز مصر

اليهود يجيدون اللعب بدور الذئب الماكر المخادع الذي لا يكل ولا يمل لأنه كما يؤكد سامي أبو العز لا دين عنده ولا أخلاق، حيث ادعى محلل إسرائيلي مجدد، أن مغادرة أهالي غزة مصلحة إقليمية، في إشارة للعودة مجددا لنغمة التهجير كونه الهدف الأسمى لإنهاء الصراع من وجهة نظرهم. ساحي ليفى المحلل اليهودي قال، يجب أن نضع مخططا من أجل تهجير أهالي غزة لدول المنطقة ضمن حركة يهودية تم تأسيسها تحت عنوان «الهجرة الإنسانية لسكان غزة» مشيرا بمنتهى الخبث إلى أن دولة الاحتلال، يجب أن تضغط على مصر حتى تقبل بفكرة تهجير الفلسطينيين إليها، كمرحلة مؤقتة قبل سفرهم لتركيا أو السعودية، أو دول أخرى ترغب في استقبالهم، ويبررون ذلك بأنه لوقف جرائم حماس التي تدافع عن الأرض والعرض في مواجهة محتل غاصب. وحمّل المحلل اليهودي مصر السبب تجاه ما يحدث في قطاع غزة، لأنها رفضت استقبال الفلسطينيين على أراضيها تمهيدا لنقلهم لأي دول أخرى. محاولات جس النبض اليهودية من فترة لأخرى تعني أن الفكرة راسخة رغم حائط الصد المصري العنيد. وأخيرا يواصل الاحتلال استفزازه لمصر من خلال إعلانه عن إقامة مستوطنة يهودية على مقربة من الحدود المصرية، والخطة تمت مناقشتها والموافقة عليها وستكون على بعد 70 كيلومترا جنوب بئر سبع وتحتوي على 1100 شقة و200 غرفة فندقية، وستكون مركزا للخدمات الإقليمية إلى جانب المركز السياحي في المنطقة نفسها وتحمل اسم «انتسانا».

أصواتهم لمن؟

بدأ تصويت المصريين في الخارج الذي يستمر التصويت لثلاثة أيام وفقا للجدول الزمني الذي أعلنته الهيئة الوطنية للانتخابات. ففي 120 دولة و137 بدأ المارثون الرئاسي وأوضح عمرو هاشم ربيع في “الشروق” أن مشاركة المصريين في الخارج هي أحد مكاسب 25 يناير/كانون الثاني2011، حيث كانت المكاسب الانتخابية يومئذ كبيرة ممثلة في الفرز في مقرات الاقتراع والأخذ بقاعدة الرقم القومي كأساس لتحديد الهيئة الناخبة، علاوة على عدم تدخل وزارة الداخلية في أي أمر فني متعلق بالانتخابات. ومما لا شك فيه أن تلك الأهمية زادت مع الوقت، حيث أصبح عدد المصريين الموجودين في الخارج كبيرا، بشكل جعل عملية تجاهل هؤلاء مستحيلة، لأنها ستحدث خللا غير طبيعي بين المصريين المؤهلين للانتخاب ككل، والمسجلين في قاعدة بيانات الناخبين الموجودين داخل مصر. هنا من المهم الإشارة إلى وجود نحو 14 مليون مصري عامل في الخارج بين الهجرة المؤقتة والهجرة الدائمة أو شبه الدائمة، وفقا لتصريح السفيرة سها الجندي وزيرة الهجرة والمصريين في الخارج في مؤتمر الغرفة التجارية المصرية في الإسكندرية في 13 يوليو/تموز الماضي. وبطبيعة الحال يعتقد أن من هؤلاء على الأقل 8 ملايين مصري مؤهل للانتخاب. في انتخابات الرئاسة الماضية التي جرت عام 2018 جرى الانتخاب في 124 دولة، في 139 مقرا انتخابيا. اليوم قل عدد الدول بسبب ظروف وأوضاع لا علاقة لمصر بها. مثلا لم يعد هناك مقر انتخابي في السودان بسبب الظروف الأمنية التي تجعل من المستحيل تنظيم الانتخابات حفاظا على أرواح المصريين. في الكيان الصهيوني أيضا لم يعد هناك مقر انتخابي كما كان الحال في انتخابات الرئاسة 2018، والسبب انخفاض عدد المصريين في هذا البلد الذي بدأ يهرب أبناؤه منه إلى بلدان الشتات التي أتوا منها وغيرها من البلدان بسبب مُناخ عدم الاستقرار الذي أفرخته حكومات اليمين المتتالية في هذا الكيان.

من جدة لسويسرا

بشكل عام، يقول عمرو هاشم ربيع يحدد عدد المقرات والدول التي سيجري فيها الانتخاب حسب كثافة وجود المصريين في تلك الدولة، والظروف الأمنية لتلك الدولة، والعلاقات الدبلوماسية بين مصر والدولة المعنية، وأيضا مساحة تلك الدولة. لكل هذه الظروف مجتمعة تتحدد المقرات الانتخابية. فمثلا في المملكة العربية السعودية، رغم ضخامة عدد الناخبين مقارنة بأي دولة أجنبية أخرى، لا يوجد سوى مقرين فقط في جدة والرياض. وعلى العكس في دولة مثل سويسرا، رغم قلة عدد الناخبين وقلة مساحة الدولة، فإنه يمكن التسهيل على المصريين بوجود مقرين اثنين متاحين، وذلك في برن وجنيف. ودولة كالإمارات العربية والمتحدة أمكن تأسيس مقرين وذلك في دبي وأبو ظبي، بينما في دولة كبيرة تعادل عشرات أضعاف دولة الإمارات من حيث المساحة كالصين أو استراليا، فإنه يوجد عدد أقل بكثير من المصريين، هناك مقران في الأولى وثلاثة مقرات في الثانية.. وهكذا. لا شيء يطلب من الناخب في تلك الانتخابات سوى إظهار جواز السفر المتضمن الرقم القومي، أو بطاقة الرقم القومي نفسها، بعدها يقوم بالاقتراع، نسبة المشاركة سيتحكم فيها بُعد المقر عن إقامة الناخب، وشعور الناخب باليقين أو عدم اليقين في النتيجة، فكلما كان هناك اعتقاد بتأرجح المرشحين، زادت المشاركة والعكس. أمر آخر يتحكم في نسبة المشاركة وهو إدراك الناخب لنزاهة الانتخابات وضمانات حريتها. أمر مهم ثالث هو العلاقة النفسية الحاكمة بين الناخب ووطنه، حيث يرى كثيرون أن مصالحهم الرئيسية داخل بلدانهم الأم، في حين يعبر آخرين أنهم في أعين من هم بالداخل سوى وعاء للعملة الصعبة.

انتخابات بطعم الحرب

ينطلق ماراثون الانتخابات الرئاسية في الخارج على مدى 3 أيام، في 137 مقرا في 121 دولة من دول العالم التي يوجد فيها مصريون مقيمون هناك، وتم تسجيلهم ضمن قاعدة بيانات الهيئة الوطنية للانتخابات. اوضح عبد المحسن سلامة في “الأهرام”، أن التصويت يتم من خلال الحضور الشخصي المصحوب بالبطاقة الشخصية، أو جواز السفر، ولن يكون هناك تصويت إلكتروني، وحسنا فعلت الهيئة الوطنية للانتخابات ذلك منعا لأي شكوك، أو تلاعب قد يحدث في عملية التصويت الإلكتروني. عدد المصريين في الخارج كبير، ويتجاوز عدة ملايين، وهم ينتشرون في الدول العربية، والأجنبية، وموجودون في معظم دول العالم، وتعد الجاليات المصرية في الخارج من أكبر الجاليات في تلك الدول، وقد شَرُفتُ بزيارة العديد من هذه الجاليات أثناء سفرياتي الخارجية إلى أمريكا، وفرنسا، وإنكلترا، وألمانيا، والعديد من الدول العربية والأجنبية، وهناك جاليات منظمة تقيم روابط، وأندية، وجمعيات خاصة بها، وتشكل في ما بينها مجالس إدارات لهذه الجمعيات، والأندية، والروابط، لتسهيل تقديم الخدمات لأفراد الجالية، ودعم العلاقات الاجتماعية بين الأجيال الثانية، والثالثة حفاظا على الثقافة المصرية، والتقاليد الاجتماعية. أحداث غزة الدامية طاغية هذه المرة على الانتخابات الرئاسية، فلا حديث اليوم يعلو فوق حديث غزة، ولا صوت يعلو فوق صوتها، وربما كان من بين الآثار الإيجابية القليلة لتلك الحرب الإسرائيلية القذرة تنامي وعي الشباب بالقضية الفلسطينية، واكتشاف مدى تجذر تلك القضية في الوجدان المصري، والعربي في مختلف الأجيال. قضية غزة بالنسبة لمصر ليست رفاهية، وإنما هي قضية أمن قومي، وقضية خطر وجودي، ومن هنا فإن هذه القضية كانت كاشفة، وحاسمة في ملف الانتخابات الرئاسية، حيث أظهرت هذه القضية مدى كفاءة، ورشد، ونضج الرؤية المصرية. يُحسب للرئيس السيسي نجاحه في ترشيد، وتعديل رؤية الغرب، وأمريكا تجاه أحداث غزة، حينما كان واضحا منذ البداية في رفض التهجير، والتصفية للقضية الفلسطينية، وكان حازما وثابتا في مواجهة الأنواء والعواصف، التي كانت تستهدف العصف بالقضية الفلسطينية، وتصفيتها، وتهجير أبناء غزة إلى سيناء مقابل حِفنة من الدولارات والامتيازات، وأغرتهم في ذلك حالة التفكك العربي، والأزمات التي تضرب الجسد العربي من كل جانب.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب