تحقيقات وتقارير

هكذا خسرت إسرائيل الحرب النفسية

هكذا خسرت إسرائيل الحرب النفسية

إبراهيم نوار

للحرب تجليات كثيرة بعيدا عن ميادين القتال. من أهم تلك التجليات ما تمارسه الأطراف المتحاربة من مقومات قوتها غير العسكرية، خصوصا في مجالات المعلومات والدعاية للتأثير المباشرعلى روح القتال والمقاومة لدى الخصم، والعمل على تحقيق النصر عليه بكسر إرادته، أو تضليله، وحرمانه من التعاطف والتأييد في الداخل والخارج، وهو ما يعرف ضمنا بالحرب النفسية. وقد تجلت مظاهر الحرب النفسية بصورها وأدواتها المختلفة في حرب غزة على التوازي مع العمليات القتالية. لكن الملاحظ بشكل عام أن إسرائيل اعتمدت بشكل كبير على التكنولوجيا والتضليل الإعلامي ونشر معلومات مزيفة بمساعدة وسائل إعلام أجنبية كثيرة حول العالم، وكذلك من خلال خطابها السياسي الذي تبنته قيادة البيت الأبيض. أما المقاومة الفلسطينية فإنها اعتمدت أكثر على كسب تأييد الضمير العالمي والعامل البشري حول العالم، عن طريق توظيف الصور والحقائق والشعارات المتوافقة مع القيم الإنسانية. ولذلك فإن الخسائر البشرية والمادية الفادحة التي يدفعها الفلسطينيون دقيقة بدقيقة، تصب في رصيد تأييد العالم لهم، وتضع إسرائيل في حالة عزلة متزايدة، سواء على مستوى الحكومات، كما يشهد على ذلك تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة مرتين لوقف إطلاق النار فورا، أو شعبيا كما يتجسد في المسيرات التي لا تنقطع في كافة دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، ويشارك فيها كافة الأجناس والقوميات، وكل أصحاب الديانات بمن فيهم اليهود. ويعترف خبراء العالم بمن فيهم أولئك المنحازون لإسرائيل بأن الفلسطينيين كسبوا الحرب سياسيا ومعنويا، حتى وإن كانت القوات الإسرائيلية قد برهنت على أنها أكثر قوة في التدمير التخريبي للأماكن والبنايات، والقتل الوحشي للبشر خصوصا الأطفال. ومن أكثر تجليات الحرب النفسية طرافة، ما قام به جلعاد إردان مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة بإعلان رقم الهاتف الخاص بقائد حماس العسكري في غزة يحيى السنوار، مطالبا من يدعون لوقف إطلاق النار للإتصال به، فهو من في يديه وقف إطلاق النار وليس إسرائيل. الهدف من ذلك طبعا هو إغراق هاتف السنوار بالمكالمات العشوائية المسيئة بما يصيب القائد الفلسطيني بالضيق على المستوى الشخصي. وقد ردت حماس بعد ساعات بنشر رقم المندوب الإسرائيلي، وجعله متاحا لحملة مضايقات شخصية مماثلة. ومن الوقائع الحزينة محاولات إذلال الأسرى الفلسطينيين بإجبارهم على تقبيل العلم الإسرائيلي، وقيام جنود الاحتلال باستخدام ميكروفونات المساجد في إذاعة الأغاني الدينية الإسرائيلية في الضفة الغربية.
تهدف الحرب النفسية للتأثير على الأفكار والآراء والمشاعر والتوجهات والسلوك بين المدنيين والمقاومة، وبين المقاومة وقيادتها، وبين المقاومة وحلفائها. وتسعى إسرائيل لتوظيف كل الوسائل الممكنة لتحقيق أهداف الحرب الثلاثة، وهي القضاء على حماس، واستعادة المحتجزين، وتجريد قطاع غزة من أي قدرة على المقاومة نهائيا وتحويله إلى منطقة أمنية يتحكم فيها الجيش الإسرائيلي. ومع أن رد الفعل الأول لعملية طوفان الأقصى كان انتقاميا عسكريا بالأساس، بإعلان عملية “السيوف الحديدية” التي ثبت أنها سيوف صدئة، فإنها تطورت في الأسابيع التالية لتشمل حربا نفسية مكتملة الملامح، من حيث تنوع وطبيعة الأدوات والأساليب المستخدمة لتحقيق الأهداف، بدءا من إسقاط ملايين المنشورات المطبوعة باللغة العربية على المدن والقرى في شمال غزة تطلب من أهلها الفرار، وتحثهم على الإبلاغ عن أسماء وأماكن أفراد المقاومة، حتى يقتلهم أو يعتقلهم الجيش الإسرائيلي إلى فبركة صور تزعم استسلام المقاومة. وكان الهدف من وراء حملة المنشورات هو خلق حالة من الشك في الشارع الفلسطيني، وتصوير المقاومة على أنها تستخدم المدنيين لتحقيق مصالح خاصة. وكما أثبتت العمليات العسكرية أن السيوف الحديدية الصدئة لا يمكن أن تنتصر، فإن الحرب النفسية بدءا من إسقاط المنشورات، أثبتت عدم مصداقية خطاب وتكتيكات أجهزة التضليل الإعلامي الإسرائيلية. ولا يستطيع الفلسطيني العادي أن يقنع نفسه بقبول البروباغندا الإسرائيلية ضد المقاومة بما فيها حماس، بينما تقصف إسرائيل بطائراتها وقنابلها وصواريخها مساكنه ومرافق حياته الأساسية وتدمرها، وتطارده وتقتل الأطفال والنساء والرجال العزل. لماذا يصدقها الفلسطيني وهي التي تقول له إرحل عن غزة واذهب إلى الجنوب، فالجنوب منطقة آمنة ثم إذا بها تقتله في الطريق! أو عندما يجد لنفسه ملاذا تحت سقف في مستشفى أو بيت شخص قريب أو صديق فتقتله أيضا؟ لماذا يصدقها الفلسطيني وهي التي تقطع عنه الماء والغذاء والدواء والوقود وكافة سبل البقاء؟ البروباغندا الإسرائيلية لا تملك مقومات للمصداقية، لأن حربها هي حرب ضد روح الشعب الفلسطيني، وليست مجرد حرب ضد أفراد المقاومة أو قياداتها، الفلسطيني يولد مقاوما. وقد حاولت إسرائيل استخدام الحرب النفسية من أجل خلق شق سياسي ومعنوي بين المدنيين والمقاومة، يصل إلى درجة تحميل المقاومة مسؤولية المعاناة الناتجة عن الحرب، وأن المقاومة تستخدم المدنيين ليكونوا “دروعا بشرية” تختبئ وراءهم ويموتون فداء لها.
ومن المثير للسخرية أن بعض رموز الإعلام في أجهزة إعلامية عربية في دول مجاورة، تبنى هذا الموقف الإسرائيلي الذي يحمل المقاومة وليس جيش الاحتلال المسؤولية عن معاناة الفلسطينيين. وقد رأينا ذلك يتردد بصورة قبيحة في أعمدة بعض الصحافيين العرب، وفي برامج عبر الفضائيات العربية، خصوصا في السعودية ومصر. لكن أقلام وأصوات هؤلاء، الذين كانت تتباهى بهم أجهزة الإعلام الإسرائيلية، إنزوت وخرست، بعد أن تعاظمت موجة التضامن مع الشعب الفلسطيني في كل أنحاء العالم، وسقطت الأقنعة عن وجوههم القبيحة.

أدوات إسرائيل في الحرب النفسية

من المعروف تقليديا أن الدعاية السياسية أو “البروباغندا” الهادفة إلى تقويض إرادة الخصم بدون استخدام قوة مسلحة هي أهم أدوات الحرب النفسية. لكن أدوات الحرب النفسية تنوعت، بحيث أصبحت الآن تتضمن البرامج الموجهة ضد الخصم باستخدام لغته وثقافته، والبيانات السياسية والعسكرية، لتغذية روح اليأس بدلا من المقاومة، والرحيل أو القبول بالعيش في ذل الاحتلال. وتضمنت أساليب الحرب النفسية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، استخدام أجهزة الإعلام والمنشورات باللغة العربية في نشر الأخبار والمعلومات الكاذبة، وفبركة الصور التي تقلل من شأن المقاومة، التي كان من أشهرها تلك الصور المفبركة لمختطفين فلسطينيين عراة إلا مما يستر عورتهم، وهم يلقون بأسلحتهم في منظر مسرحي معد مسبقا، والادعاء بأن تلك المشاهد تمثل استسلاما جماعيا لمقاتلين من المقاومة. وقد ردت المقاومة على ذلك بالدليل الحي في رد محاولة إطلاق واحد من المحتجزين الإسرائيليين، قُتِل فيها قائد القوة المهاجمة، والمحتجز الإسرائيلي نفسه وأصيب آخرون إصابات خطيرة. وفي اليوم التالي وقعت معركة أخرى في وسط حي الشجاعية في مدينة غزة، برهنت فيها المقاومة على كذب الادعاءات الإسرائيلية، بقتل عشر عسكريين من بينهم قائد اللواء 11 مدرعات وقائد الكتيبة 13 قوات خاصة من لواء الجولاني، وأربعة ضباط وأربعة جنود. مصداقية المقاومة تتجلى في إعلان حقائق حية تتجلى بعد ذلك أصداؤها في الشارع الإسرائيلي أحزانا ومراسم دفن ومآتم، ورقودا في المستشفيات تتولى علاجهم الطواقم الطبية.

رسائل الحرب النفسية الإسرائيلية

تحاول إسرائيل استخدام أدوات وأساليب الحرب النفسية للإسهام في تحقيق أهداف حرب إبادة الفلسطينيبن، وتقويض السلطة المادية والمعنوية للمقاومة، والعمل على خلق بديل سياسي وإداري لحماس في غزة، وترويج سردية “توجيه اللوم إلى الضحية” بتحميل الفلسطينيين الذين لم يفروا من مساكنهم المسؤولية عن معاناتهم، بزعم أن قوات الاحتلال حذرتهم من البقاء في أماكنهم وطلبت منهم الفرار، ومحاولة تخويف المقاومة ونشر الفزع في أوساط الفلسطينيين من إغراق الأنفاق بمياه البحر، أو رشها بغاز الأعصاب، إلى جانب شن حملات دعاية مركزة على شخصيات محورية مثل يحيى السنوار ومحمد الضيف، والتهديد باغتيال قيادات المقاومة في أي مكان في العالم. والعمل على شق خندق بين المقاتلين والقيادة بإصدار نداءات ومنشورات تقول للمقانلين: “لا تموتوا من أجل السنوار”! والعمل على إضعاف الروح المعنوية للمدنيبن والمقاتلين بنشر صور تزعم أن حماس تستسلم وتسلم سلاحها. ومن الجدير بالذكر هنا أن الدعوة لاستسلام حماس بدأت في الولايات المتحدة، على اعتبار أن الاستسلام هو الطريق الأمثل لتجنب اتساع نطاق القتل والتدمير الذي يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة. وكانت البداية في مقال نشره كل من روبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن بالاشتراك مع السفير دينيس روس المسؤول سابقا عن ملف الشرق الأوسط في البيت الأبيض (أول الشهر الحالي). ثم كان بعد ذلك بأيام ترتيب المشاهد المفبركة لاستسلام حماس.

فشل الحرب النفسية الإسرائيلية

يعتبر اللجوء إلى تفعيل “بكائية العداء للسامية” أقصر الطرق التي تلجأ إليها إسرائيل لإعادة تقديم نفسها للعالم على أنها الضحية المعتدى عليها. وفي إطار “بكائية العداء للسامية” تتهم إسرائيل العالم كله بالانحياز ضدها، والتعاطف مع الشعب الفلسطيني، بدءا من الأمم المتحدة إلى الصليب الأحمر الدولي، ومنظمات الإغاثة الإنسانية. وطبقا لنتنياهو فإن العالم لم يهتز لمزاعم الاغتصاب الجنسي للإسرائيليات، وأن العالم لا يهتم بحرق وقتل الأطفال الإسرائيليين كما تفبركه إسرائيل في بيانات وصور، لكنه يتبنى مطلب التوقف عن الحرب وعن قتل الأطفال الفلسطينيين، وأن العالم لا يهتم بالاطمئنان على صحة وسلامة وحسن معاملة المحتجزين الاسرائيليين لدى المقاومة، في حين يحتج على سوء معاملة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. إن إسرائيل تستدعي عقدة الاضطهاد النازي، لكى تلوح بها ضد الفلسطينيين، الذين كانوا وما زالوا ضحايا للاضطهاد الإسرائيلي البشع منذ نحو قرن من الزمان.
وقد أدى تكرار استخدام كليشيهات هجوم 7 أكتوبر الذي قامت به المقاومة عبر الأسوار الإلكترونية الشائكة التي طوقت بها إسرائيل سكان قطاع غزة، والأكاذيب التي تضمنتها هذه الكليشيهات من قطع رؤوس الأطفال وحرقهم أحياء، واغتصاب النساء، إلى حالة من الملل العالمي من الخطاب الدعائي الإسرائيلي وانعدام مصداقيته. وفي نهاية الأمر فإن هذا الخطاب لقي رفضا وعدم قبول في معظم أنحاء العالم، ووصل الأمر إلى انتقاده بشدة من جانب أجهزة أعلام إسرائيلية مثل صحيفة “هآرتس”. وعلى النقيض من التعتيم الإعلامي الإسرائيلي تقوم “قناة الجزيرة” بدور جوهري في بث الحقائق على الهواء مباشرة وقت وقوعها، مع الالتزام بالحياد والموضوعية، حيث يتم البث من قطاع غزة، والضفة الغربية، والقدس الشرقية المحتلة وكذلك من تل أبيب ومناطق أخرى في إسرائيل إذا تطلب الأمر وإذا سمحت السلطات الإسرائيلية. في المقابل فإن أجهزة الإعلام الإسرائيلية والدولية التي تعمل من إسرائيل لم يكن مسموحا لها البث من قطاع غزة، أو استخدام مواد إعلامية من أي مصدر غير الإعلام العسكري الإسرائيلي، ولم يكن للصحافيين الإسرائيليين في الدولة التي تعتبرها الولايات المتحدة ومعظم دول حلف الأطلنطي “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” حرية الوصول إلى المعلومات، والقيام بعملهم وفقا لقواعد المهنية والحيادية. وقد كشفت صحيفة “هآرتس” في تقرير مطول (13 من الشهر الحالي) عن تفاصيل ذلك، وقالت إن المواطنين الإسرائيليين لا يعرفون عبر أجهزة الإعلام الإسرائيلية غير ما يصدر عن المتحدث العسكري الرسمي، وما يوافق عليه مكتبه. وقد ارتكبت بعض أجهزة الإعلام العالمية النافذة مثل “بي بي سي” و “سكاي نيوز” أخطاء مهنية قاتلة بمرافقة القوات الإسرائيلية في بداية حملتها البرية على غزة، ولم يكن مسموحا لها إلا بنقل المشاهد والمواقع التي يحددها الجيش الإسرائيلي، وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات المهنية المريرة، أدت إلى توقف تلك الأجهزة عن مرافقة قوات الاحتلال الإسرائيلي لترويج حربها الهادفة إلى تدمير قطاع غزة وإبادة الفلسطينيين.
لقد خسرت إسرائيل حربها النفسية ضد الفلسطينيين محليا وإقليميا وعالميا رغم أنف الإعلام المتواطئ، وحققت المقاومة الفلسطينية انتصارا معنويا هائلا. ولهذا قصة أخرى تستحق الرواية.
اقتباس: البروباغندا الإسرائيلية لا تملك مقومات للمصداقية، لأن حربها ضد روح الشعب الفلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب