تحقيقات وتقارير

كيف تخسر إسرائيل هذه الحرب؟

كيف تخسر إسرائيل هذه الحرب؟

ما سيأتي بعد العنف المروع الذي نشهده ليس واضحًا إطلاقًا، والواضح أن هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول قد أعاد ضبط المنافسة السياسية التي لا تبدِ إسرائيل الرغبة في التفاعل معها بما يتجاوز القوة العسكرية المدمرة ضد المدنيين الفلسطينيين…

ستكون من السخافة أن ندّعي أن مجموعة من المسلحين غير النظاميين الذين لا تتجاوز أعدادهم عشرات الآلاف، والمحاصرين والذين لا يملكون إلا وصولًا ضعيفًا إلى الأسلحة المتقدمة، بمثابة ند لواحد من أقوى الجيوش في العالم، التي تدعمها وتسلحها الولايات المتحدة، إلا أن عددًا متزايدًا من المحللين الإستراتيجيين المشهود لهم في حقولهم يحذرون من أن إسرائيل قد تخسر هذه الحرب ضد الفلسطينيين، على الرغم من العنف الكارثي الذي مارسته منذ الهجوم الذي قادته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ومن خلال استفزاز الهجوم الإسرائيلي، ربما تكون حماس قد حققت العديد من أهدافها السياسية.

ويبدو أن كلًا من إسرائيل وحماس تعيدان ضبط شروط تنافسهما السياسي ليس لما كان عليه الوضع قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل على الوضع الذي كان قائمًا في عام 1948. ليس من الواضح ما سيأتي بعد هذه الحرب، ولكن الواضح أنه لن يعود الوضع لما كان عليهِ قبلها.

أدى الهجوم المفاجئ إلى تحييد المنشآت العسكرية الإسرائيلية، وكسر بوابات أكبر سجن مفتوح في العالم، وأدى إلى حالة هرجٍ ومرجٍ مروعةٍ قُتل فيها نحو 1200 إسرائيلي، منهم 845 مدنيًا على الأقل. ذكَّرت السهولة الصادمة التي اخترقت بها حماس الخطوط الإسرائيلية حول قطاع غزة الكثيرين بهجوم تيت عام 1968. الهجومان مختلفان جدًا طبعًا، إذ توجد اختلافات واسعة بين حرب التدخل الأميركية في أراضٍ بعيدة عن أميركا، وبين حرب إسرائيل للدفاع عن احتلال أراضيها عبر جيش من المواطنين المدفوعين بإحساس الخطر الوجودي، بيد أن فائدة القياس تكمن هنا في المنطق السياسي الذي يشكل هجوم المقاتلين.

خسر الثوار الڤيتناميون المعركة في عام 1968 وضحوا بالكثير من البنية التحتية السياسية والعسكرية السرية التي بنوها بصبر على مدار سنوات، إلا أن هجومهم كان لحظة أساسية في هزيمتهم للولايات المتحدة، وإن كان بتكلفة باهظة في أرواح الڤيتناميين. ومن خلال شن هجمات دراماتيكية متزامنة ورفيعة المستوى على أكثر من 100 هدف في جميع أنحاء البلاد في يوم واحد، حطمت القوات الڤيتنامية المسلحة بأسلحة خفيفة وهم النجاح الذي روجت له إدارة جونسون للشعب الأميركي. وأوضحت للأميركيين أن الحرب التي طُلب منهم التضحية بعشرات الآلاف من أبنائهم من أجلها لا يمكن الفوز بها.

قاست القيادة الڤيتنامية تأثير أعمالها العسكرية من خلال آثارها السياسية، وليس من خلال التدابير العسكرية التقليدية مثل خسارة الرجال والعتاد أو اكتساب الأراضي. ومن هنا جاء رثاء هنري كيسنجر عام 1969: «خضنا حربًا عسكرية بينما خاض خصومنا معركة سياسية. سعينا للاستنزاف الجسدي، وسعى خصومنا إلى إنهاكنا النفسي. وفاتتنا في هذه الأثناء أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: تفوز العصابات إذا لم تخسر، ويخسر الجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر».

هذا المنطق دفع جون ألترمان، المعروف بميوله المنحازة ضد السلام، من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، إلى الاعتقاد بوجود إمكانية كبيرة لأن تخسر إسرائيل أمام حماس:

«يدور مفهوم حماس للنصر العسكري […] حول تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد. لا ترى حماس النصرَ في عام واحد أو خمسة أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال الذي يزيد من التضامن الفلسطيني، ويزيد من عزلة إسرائيل. وتحشد حماس في هذا السيناريو السكان المحاصرين في غزة حولها بغضب، وتساعد في انهيار حكومة السلطة الفلسطينية من خلال ضمان أن ينظر الفلسطينيون إليها على أنها ملحق ضعيف للسلطة العسكرية الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، تبتعد الدول العربية بقوة عن التطبيع، وينحاز الجنوب العالمي بقوة إلى القضية الفلسطينية، وتتراجع أوروبا عن تجاوزات الجيش الإسرائيلي، ويندلع نقاش أميركي حول إسرائيل، مما يؤدي إلى تدمير دعم كل الأحزاب الأميركية الذي تتمتع به إسرائيل هنا منذ أوائل السبعينات».

ويكتب ألترمان أن حماس تسعى إلى «استخدام أكبر قوة لإسرائيل لهزيمة إسرائيل نفسها، إذ تسمح قوة إسرائيل لها بقتل المدنيين الفلسطينيين، وتدمير البنية التحتية الفلسطينية، وتحدي النداءات العالمية لضبط النفس. كل هذه الأمور تعزز أهداف حماس الحربية».

تجاهلت إدارة بايدن والقادة الغربيين مثل هذه التحذيرات من قبل، والذين تعود جذور احتضانهم غير المشروط لحرب إسرائيل إلى الوهم القائل بأن إسرائيل كانت مثل أي دولة غربية أخرى تعيش حياتها بسلام إلى أن تعرضت لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بشكل غير مبرر. هذا الوهم مريح لمن يفضّلون تجنب الاعتراف بالواقع الذين شاركوا في خلقهِ.

ولننسَ «الإخفاقات الاستخباراتية»، كان فشل إسرائيل في توقّع السابع من أكتوبر/تشرين الأول بمثابة فشل سياسي في فهم العواقب المترتبة على نظام القمع العنيف الذي وصفته منظمات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية المشهود لها بالفصل العنصري.

حذر رئيس الكنيست السابق أفروم بورغ قبل عشرين عامًا من حتمية وجود رد فعلٍ عنيف، حيث كتب في صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون: «اتضح أن نضال الذي خاضه اليهود لبقائهم طوال 2000 عام قد قادهم إلى تأسيس دولة مستوطنات تديرها زمرة غير أخلاقية من منتهكي القانون الفاسدين الذين لا يسمعون لا صوت مواطنيهم ولا أعدائهم، على حد سواء. لن تستمر دولة تفتقر إلى العدالة في البقاء»، وأضاف:

«وحتى لو طأطأ العرب رؤوسهم، وابتلعوا عارهم وغضبهم إلى الأبد، فلن تنجح إسرائيل. أي بُنية تُقام على أساس العنف والقسوة البشرية سوف تنهار حتمًا لوحدها […] ولا ينبغي لإسرائيل، التي لم تعد تأبه بأطفال الفلسطينيين، أن تتفاجأ عندما يأتي هؤلاء الأطفال معبؤون بالكراهية ويفجّرون أنفسهم في مراكز هروبها [إسرائيل] من الواقع».

وحذر بورغ من أن إسرائيل قد تقتل ألفًا من رجال حماس يوميًا، بيد أنها لن تقدّم لشعبها حلًّا، بل إنها ستكون بفعلها هذا مصدرًا لتجديد صفوفهم [حماس]. تجاهلت إسرائيل تحذيرات بورغ، حتى عندما ظهرت أهميتها. وتنطبق تحذيراته الآن على الدمار الذي يحصل في قطاع غزّة. إن توقع إسرائيل من الفلسطينيين أن يعانوا في صمت بعد العنف البنيوي الطَّاحن الذين مارسته عليهم يؤكّد أن أمن إسرائيل كان دائمًا مبنيًا على الوهم.

لقد أكدت الأسابيع التالية لـ 7 أكتوبر/تشرين الأول أنه لا يمكن العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا من قبل. ومن المرجح أن يكون هذا هو هدف حماس من شن هجماتها القاتلة. وحتّى قبل السابع من أكتوبر، دعا كثيرون من القيادة الإسرائيلية إلى مواصلة النكبة، أي التطهير العرقي لفلسطين، والآن، ضُخّمت هذه الأصوات أكثر.

شهدت الهدنة الإنسانية المتفق عليها بين الجانبين في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني إطلاق حماس سراح بعض الرهائن مقابل إطلاق سراح الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية وزيادة الإمدادات الإنسانية التي تدخل قطاع غزة. وعندما استأنفت إسرائيل هجومها العسكري وعادت حماس إلى إطلاق الصواريخ، كان من الواضح أن حماس لم تُهزم عسكريًا. تشير المجازر والمذابح والدمار الشامل التي أوقعتها إسرائيل في الفلسطينيين وفي قطاع غزّة إلى نية إسرائيل لجعل المنطقة غير صالحة للسكن بالنسبة لـ 2.2 مليون فلسطيني يعيشون فيها، وإلى ضغطها من أجل طرد سكانّها عنها عبر إيجاد كارثة إنسانية مدبرة عسكريًا. والحقيقة أن تقديرات الجيش الإسرائيلي تشير إلى أنه قُضى حتى الآن على أقل من 15% من القوة القتالية التابعة لحماس. وذلك في حملة أسفرت عن مقتل أكثر من 21 ألف فلسطيني، معظمهم من المدنيين، منهم 8600 طفل .

7 أكتوبر والسياسة الفلسطينية

آثار القصف الإسرائيليّ على قطاع غزّة (Getty)

و”يكاد يكون من المؤكد” أن الجيش الإسرائيلي سيزيل حماس عن سدة الحكم في قطاع غزة، بيد أن بعض المحللين، مثل طارق بقعوني، الذي درس الحركة وتفكيرها على مدى العقدين الماضيين، يقولون إنها سعت منذ بعض الوقت إلى التحرر من أغلال حكم منطقة معزولة عن بقية فلسطين، بالشروط التي وضعتها قوة الاحتلال.

أظهرت حماس منذ فترة طويلة رغبة في الخروج من دورها في حكم غزة، بدءًا من احتجاجات مسيرات العودة الحاشدة غير المسلحة في عام 2018، التي قمعتها نيران القناصة الإسرائيلية بعنف، وصولًا إلى الجهود التي أحبطتها الولايات المتحدة وإسرائيل لنقل حكم غزة إلى السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها أو عبر حكومة تكنوقراط متفق عليها، أو عبر حكومة منتخبة، في حين ركزت على إعادة تركيز السياسة الفلسطينية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية على مقاومة الوضع الراهن للاحتلال، بدلًا من الوصاية عليه. وإذا كانت نتيجة هجومها هي فقدان المسؤولية عن حكم غزة، فقد ترى حماس أن ذلك مفيد.

وقد حاولت حماس دفع فتح إلى مسار مماثل، وحثت الحزب الحاكم في الضفة الغربية على إنهاء التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ومواجهة الاحتلال بشكل أكثر مباشرة. وبالتالي فإن فقدان السيطرة البلدية على غزة لا يشكل هزيمة حاسمة لجهود حماس الحربية: بالنسبة لحركة مكرسة لتحرير الأراضي الفلسطينية، بدأ حكم غزة يبدو وكأنه طريق مسدود، مثل الحكم الذاتي المحدود الدائم للجزر غير المتجاورة في الضفة الغربية لفتح.

ويقول بقعوني إن حماس شعرت على الأرجح بأنها مضطرة إلى خوض مقامرة عالية المخاطر لتحطيم الوضع الراهن الذي اعتبرته موتًا بطيئًا لفلسطين. وكتب في مجلة فورين بوليسي: «كل هذا لا يعني أن التحول الإستراتيجي لحماس سيعتبر ناجحًا على المدى الطويل».

«لعلّ التعطيل العنيف للوضع الراهن من جانب حماس قد أتاح لإسرائيل الفرصة لتنفيذ نكبة أخرى. وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حريق إقليمي أو توجيه ضربة للفلسطينيين قد يستغرق التعافي منها جيلًا كاملًا. لكن الأمر المؤكد هو أنه لا عودة للوضع السابق».

ربما كانت مناورة حماس إذن تتمثل في التضحية بالحكم البلدي في قطاع غزة المحاصر من أجل تعزيز مكانتها كمنظمة مقاومة وطنية. لا تحاول حماس دفن فتح، إذ إن اتفاقيات الوحدة المختلفة بين حماس وفتح، وخاصة تلك التي يقودها أسرى من كلتا الحركتين، تظهر أن حماس تسعى إلى تشكيل جبهة موحدة. فالسلطة الفلسطينية غير قادرة على حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية من العنف المتزايد الذي تمارسه المستوطنات الإسرائيلية وسيطرتها الراسخة، ناهيك عن الرد بشكل هادف على سفك الدماء في قطاع غزة. وتحت غطاء الدعم الغربي لحربها على قطاع غزة، قتلت إسرائيل مئات الفلسطينيين، واعتقلت الآلاف، وهجرت قرى بأكملها في الضفة الغربية، في حين قامت في الوقت نفسه بتصعيد هجمات المستوطنين التي ترعاها الدولة. ومن خلال قيامها بذلك، زادت إسرائيل من تقويض حركة فتح بين السكان ودفعتهم في اتجاه حماس.

هاجم المستوطنون المحميون من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي لسنوات القرى الفلسطينية بهدف إجبار سكانها على المغادرة وتشديد قبضة إسرائيل غير القانونية على الأراضي المحتلة، لكن توسيع هذا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول يجعل حتى شركاء إسرائيل في الولايات المتحدة ينتقدونها. إن تهديد بايدن بحظر التأشيرات ضد المستوطنين المتورطين في العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية هو مجرد تهرب: فهؤلاء المستوطنون بعيدون كل البعد كونهم فاعلين فرديين مارقين، بل هم مسلحون، ويتمتعون بحماية شديدة من جيش الدفاع الإسرائيلي والنظام القانوني الإسرائيلي، لأنهم ينفذون سياسة الدولة. إلا أن تهديد بايدن غير المناسب يوضح أن إسرائيل على خلاف مع إدارته.

لدى حماس منظور يشمل فلسطين بكليتها، وليس قطاع غزّة فقط، ولذلك فقد قصدت أن يكون لـ 7 أكتوبر/تشرين الأول تأثيرات تحويلية في جميع أنحاء فلسطين. خلال «انتفاضة الوحدة» عام 2021 التي سعت إلى ربط نضالات الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزّة مع نضالات الداخل (فلسطينيو 48)، اتخذت حماس إجراءات لدعم هذا الهدف. والآن، تعمل الدولة الإسرائيلية على تسريع هذا الارتباط من خلال حملة قمع مجنونة ضد أي تعبير عن المعارضة بين مواطنيها الفلسطينيين. واعتُقل مئات الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك من النشطاء والشباب الذين ينشرون على الفيسبوك. وتدرك إسرائيل تمام الإدراك احتمال التصعيد في الضفة الغربية. وبهذا المعنى، فإن الرد الإسرائيلي لم يؤدِّ إلا إلى التقريب بين سكان الضفة الغربية وقطاع غزّة.

ومن الواضح أن إسرائيل لم تكن تنوي أبدًا قبول قيام دولة فلسطينية ذات سيادة في أي مكان غرب نهر الأردن، بل عملت على تكثيف خططها طويلة الأمد لتأمين سيطرتها على المنطقة. يخدم هذا، بالإضافة إلى التعدي الإسرائيلي المتزايد على المسجد الأقصى، بمثابة تذكير بأن إسرائيل تعمل بنشاط على تأجيج أي انتفاضة قادمة في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وحتى داخل خطوط 1967.

ومن عجيب المفارقات إذن أن إصرار الولايات المتحدة على دفع السلطة الفلسطينية للسيطرة على قطاع غزة بعد حرب التدمير التي شنتها إسرائيل، وبعد تحذيراتها المتأخرة والواهية بشأن عنف المستوطنين، يعزز فكرة كون الضفة الغربية وغزة كيانًا واحدًا. إن السياسة التي انتهجتها إسرائيل على مدار 17 عامًا لفصل الضفة الغربية الخاضعة، التي تديرها السلطة الفلسطينية المنتقاة، عن «قطاع غزة الذي يديره الإرهابيون» قد باءت بالفشل.

إسرائيل بعد 7 أكتوبر

صواريخ القسّام تستهدف تل أبيب (Getty)

حطمت الغارة التي قادتها حماس الأساطير التي تقول إن إسرائيل دولة لا تقهر، ودمَّرت توقعات مواطنيها بالهدوء والأمن، حتى بعد أن خنقت إسرائيل حياة الفلسطينيين. تباهى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، قبل أسابيع من السابع من أكتوبر، بنجاحهِ في “إدارة” الصراع إلى درجة أن فلسطين لم تعد تظهر على خريطته «للشرق الأوسط الجديد». ومع الاتفاقيات الإبراهيمية والتحالفات الأخرى، كان بعض القادة العرب يحتضنون إسرائيل. وكانت الولايات المتحدة تروج للخطة، حيث ركز الرئيسان دونالد ترامب وجو بايدن على «التطبيع» مع الأنظمة العربية التي كانت على استعداد لترك الفلسطينيين عرضة للفصل العنصري الإسرائيلي المتشدد. وكان يوم السابع من أكتوبر بمثابة تذكير وحشي بأن هذا الأمر لا يمكن الدفاع عنه، وأن المقاومة الفلسطينية تشكل شكلًا من أشكال سلطة النقض على الجهود التي يبذلها الآخرون لتحديد مصيرهم.

من السابق لأوانه قياس تأثير السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على السياسة الداخلية الإسرائيلية، حيثَ جعل الإسرائيليين أكثر تشددًا، لكن في الوقت نفسه أصبحوا أكثر عدم ثقة في قيادتهم الوطنية بعد الفشل المهول لاستخباراتهم وفي الرد على العملية. تطلب الأمر تعبئة جماهيرية كبيرة ضد الحكومة من قبل عائلات الإسرائيليين المحتجزين في غزة من أجل الاتفاق على وقف العمليات العسكرية المؤقتة وتأمين صفقة إطلاق سراح الرهائن. إن المعارضة الداخلية الكبيرة بشأن الرهائن وما هو مطلوب من إسرائيل لتأمين عودتهم يمكن أن يزيد الضغط من أجل المزيد من صفقات الإفراج وحتى وقف كامل لإطلاق النار، على الرغم من التصميم على مواصلة الحرب بين الكثير من الأطراف السياسية والعسكرية. قيادة. ويظل الرأي العام الإسرائيلي مشوشًا، وغاضبًا، ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته.

كما علينا أن نرى تأثير الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي، الذي يعتمد نموذج نموه على جذب مستويات عالية من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى قطاع التكنولوجيا والصناعات التصديرية الأخرى. وقد اُستشهِدَ بالفعل الاحتجاج الاجتماعي العام الماضي وعدم اليقين بشأن الخلافات الدستورية كسبب لانخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 68%، على أساس سنوي خلال فصل الصيف. وتضيف الحرب التي تخوضها إسرائيل، والتي حشدت 360 ألف جندي احتياطي لها، مستوى جديدًا من الصدمة. كتب الاقتصادي آدم توز في مدونته على موقع سبستاك:

يقدّر اللوبي التكنولوجي في إسرائيل أن عُشر قوته العاملة قد اُستدعيت للجيش. أصيب قطاع البناء بالشلل بسبب الحجر على القوى العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية. وانهار استهلاك الخدمات مع ابتعاد الناس عن المطاعم وقلة التجمعات العامة. وتشير سجلات بطاقات الائتمان إلى انخفاض الاستهلاك الخاص في إسرائيل بنحو الثلث في الأيام التالية لاندلاع الحرب. وانخفض الإنفاق على الترفيه والتسلية بنسبة 70%. توقفت السياحة بشكل مفاجئ، وهي الدعامة الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي. أُلغيت الرحلات الجوية وحوّل مسار شحنات البضائع. أمرت الحكومة الإسرائيلية شركة شيفرون بوقف الإنتاج في حقل تمار للغاز الطبيعي، ما يكلف إسرائيل 200 مليون دولار شهريًا من الإيرادات المفقودة.

إسرائيل دولة ثرية وتتمتع بالموارد اللازمة للتغلب على بعض جوانب هذه العاصفة، ولكن ثورتها هذه تجعلها هشّة، ويضع أمامها الكثير لتخسره.

غزة بعد 7 أكتوبر

دبّابة إسرائيليّة في قطاع غزّة (Getty)

تدفقت القوات الإسرائيلية إلى قطاع غزة ومعها خطة قتالية، لكن دُونَ خطة حرب واضحة للقطاع بعد غزوه. يهدف بعض القادة العسكريين الإسرائيليين إلى الحفاظ على «السيطرة الأمنية» من النوع الذي يتمتعون به في منطقة الضفة الغربية التابعة للسلطة الفلسطينية. إلا أن تطبيق هذا الأمر في القطاع يضع إسرائيل في مواجهة تمردٍ منظمٍ يقف وراءه أغلب سكانه. ويدعو كثيرون في الدوائر الحكومية الإسرائيلية إلى تهجير قسم كبير من السكان المدنيين في قطاع غزة قسرًا إلى مصر، من خلال هندسة أزمة إنسانية تجعل غزة غير صالحة للعيش. وقالت الولايات المتحدة إنها استبعدت ذلك، لكن لا يمكن لأي مقامر ذكي أن يستبعد إمكانية سعي الإسرائيليين للحصول على العفو بدلًا من السماح لهم بمزيد من التطهير العرقي على نطاق واسع بما يتماشى مع أهداف إسرائيل الديموغرافية طويلة المدى المتمثلة في تقليل عدد السكان الفلسطينيين بين النهر والبحر.

وقد لجأ المسؤولون الأميركيون إلى كتب الصلاة القديمة، وتحدثوا عن أملهم في إعادة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، البالغ من العمر 88 عامًا، إلى حكم غزة، مع الوعد بتجديد السعي لتحقيق «حل الدولتين» الوهمي. إلا أن السلطة الفلسطينية لا تتمتع بالمصداقية حتى في الضفة الغربية بسبب إذعانها للاحتلال الإسرائيلي المتوسع باستمرار. كما علينا ألا نتجاهل إجماع القيادة الإسرائيلية بكل أطيافها السياسية على منع وجود سيادة فلسطينية حقيقية على أي جزء من فلسطين التاريخية. ولا يحتاج قادة إسرائيل إلى الالتزام بتوقعات الإدارة الأميركية التي قد تخرج من البيت الأبيض في انتخابات العام المقبل. كما أن لدى إسرائيل قدرة حقيقية على تجاهل القرارات الأميركية، حتى لو أُعيدَ انتخاب بايدن. لقد اختارت الولايات المتحدة أن تكون فاعلًا رئيسيًا في آلة الحرب الإسرائيلية غير واضحة الأهداف، والتي لا تسعى على الإطلاق إلى إقامة دولة فلسطينية بأي شكلٍ من الأشكال.

التأثير العالمي لـ 7 أكتوبر

مظاهرة مؤيّدة لفلسطين في لندن (Getty)

ربما تكون إسرائيل والولايات المتحدة قد أقنعتا نفسيهما بأن العالم قد «تجاوز» المحنة الفلسطينية، ولكن الطاقات التي أطلقتها الأحداث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول تشير إلى أن العكس هو الصحيح. ترددت أصداء دعوات التضامن مع فلسطين في شوارع العالم العربي، وعملت في بعض البلدان كلغة مشفرة للمعارضة ضد دول الاستبداد القائمة. وفي جميع أنحاء الجنوب العالمي وفي مدن الغرب، تحتل فلسطين الآن مكانًا رمزيًا باعتبارها تجسيدًا للتمرد ضد النفاق الغربي ونظام ما بعد الاستعمار الظالم. منذ الغزو غير القانوني الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، لم يخرج هذا العدد الكبير من الملايين حول العالم إلى الشوارع للاحتجاج. كما استعرضت العمالة المنظمة (النقابات) عضلاتها الأممية لتحدي إرسال شحنات الأسلحة إلى إسرائيل، وذكّرت نفسها بقدرتها على تغيير التاريخ، ويتم استخدام الآليات القانونية مثل المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وحتى المحاكم الأميركية والأوروبية للطعن في السياسات الحكومية التي تمكن إسرائيل من ارتكاب جرائم الحرب.

بسبب الذعر من العالم المذعور من أفعالها في غزة، عادت إسرائيل ومناصروها إلى اتهامات معاداة السامية ضد أولئك الذين يتحدون وحشيتها، إلا أن كل شيء، بدءًا من المسيرات الحاشدة، مرورًا بالمعارضة اليهودية الصاخبة، ووصولًا إلى استطلاعات الرأي حول تعامل بايدن مع الأزمة تشير إلى أن مساواة التضامن بمعاداة السامية ليس خاطئًا من الناحية الواقعية فحسب، بل إنه لم يعد مقنعًا.

قطعت العديد من الدول في أميركا اللاتينية وإفريقيا علاقاتها رمزيًا مع إسرائيل، كما أدى القصف المتعمد للمدنيين ومنع الوصول إلى المأوى والغذاء والماء والرعاية الطبية إلى إصابة العديد من حلفاء إسرائيل بالذعر. إن مدى العنف الذي يرغب الغرب في تأييده ضد الشعب الأسير في غزة يقدم للجنوب العالمي تذكيرًا صارخًا بالحسابات غير المستقرة مع الغرب الإمبراطوري. وعندما يناشد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إسرائيل علنًا أن تتوقف عن «قصف الأطفال»، فإن إسرائيل معرضة لخطر خسارة حتى أجزاء من الغرب. لقد أصبح من الصعب على الدول العربية والإسلامية على المدى القصير الحفاظ على العلاقات العامة، ناهيك عن توسيعها.

إن التضييق على الرد الإسرائيلي على أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول قد أدى أيضًا إلى تفجير فقاعة الأوهام الأميركية المتمثلة في استعادة الهيمنة في الجنوب العالمي تحت ذريعة «نحن الأخيار». إن التناقض بين استجابتها للأزمات الروسية الأوكرانية والإسرائيلية الفلسطينية على التوالي قد أنتج إجماعًا على وجود نفاق في قلب السياسة الخارجية الأميركية، مما أنتج مشاهد غير عادية مثل انتقاد بايدن وجهًا لوجه في قمة أبيك من قبل رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم لفشله في الوقوف ضد الفظائع الإسرائيلية.

وحذر إبراهيم على وجه التحديد من أن رد بايدن على الحرب في قطاع غزة قد أثار عجزًا خطيرًا في الثقة مع أولئك الذين تأمل الولايات المتحدة في مغازلتهم كحلفاء في منافستها مع روسيا والصين. وبعد أن أثبتوا للحلفاء العرب أن راعيتهم في واشنطن ستقف إلى جانب إسرائيل، حتى عندما تقصف المدنيين العرب، فمن المرجح أن يعزز اتجاه دول الجنوب العالمي إلى تنويع محافظها الجيوسياسية.

السؤال السياسي

ومن خلال تحطيم الوضع الراهن الذي يجده الفلسطينيون غير محتمل، أعادت حماس السياسة إلى الأجندة. تتمتع إسرائيل بقوة عسكرية كبيرة، لكنها ضعيفة سياسيًا. يفترض قسم كبير من المؤسسة الأميركية الداعمة للحرب الإسرائيلية أن العنف النابع من مجتمع مضطهد يمكن القضاء عليه باستخدام القوة العسكرية الساحقة ضد هذا المجتمع. ولكن حتى وزير الدفاع لويد أوستن أبدى شكوكه حول هذه الفرضية، محذرًا من أن الهجمات الإسرائيلية التي تقتل الآلاف من المدنيين تخاطر «بدفعهم إلى أحضان العدو [واستبدال] النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية».

يحب الساسة ووسائل الإعلام الغربية أن يتخيلوا أن حماس عبارة عن كادر عدمي على غرار داعش يحتجز المجتمع الفلسطيني رهينةً، إلا أن حماس، في الواقع، حركة سياسية متعددة الأوجه متجذرة في نسيج المجتمع الفلسطيني وتطلعاته الوطنية، وتُجسد اعتقادًا أكدته عقود من الخبرة الفلسطينية بأن المقاومة المسلحة تشكل عنصرًا مركزيًا في مشروع التحرير الفلسطيني بسبب فشل عملية أوسلو والعداء المستعصي من جانب خصمها. وقد نما نفوذها وشعبيتها مع استمرار إسرائيل وحلفائها في إحباط عملية السلام وغيرها من الإستراتيجيات اللاعنفية لتحقيق التحرير الفلسطيني.

ستؤدي الحملة الإسرائيلية إلى تقليص القدرة العسكرية لحماس، لكن لو كان الأمر يتعلق بقتل كبار قادة الحركة (كما فعلت من قبل)، فإن رد إسرائيل على أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول يؤكد على رسالة حماس ومكانتها بين الفلسطينيين في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها. على سبيل المثال، تعتبر الاحتجاجات الكبيرة في الأردن مع الهتافات المؤيدة لحماس غير مسبوقة. لا يتطلب الأمر موافقة أو دعمًا لتصرفات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول للاعتراف بالجاذبية الدائمة للحركة التي تبدو قادرة على جعل إسرائيل تدفع نوعًا من ثمن العنف الذي تمارسه على الفلسطينيين كل يوم، وكل عام، جيلًا بعد جيل.

ويشير التاريخ أيضًا إلى نمط حيث يظهر ممثلو الحركات التي وصفها خصومهم بأنها «إرهابية»، في جنوب أفريقيا، مثلًا، أو أيرلندا، على طاولة المفاوضات عندما يحين الوقت للبحث عن حلول سياسية. سيكون من غير التاريخي استبعاد حماس، أو على الأقل نسخة ما من التيار السياسي الأيديولوجي الذي تمثله، من أي مفاوضات مماثلة عندما يعاد النظر في التوصل إلى حل سياسي جدي بين إسرائيل والفلسطينيين.

ما سيأتي بعد العنف المروع الذي نشهده ليس واضحًا إطلاقًا، والواضح أن هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول قد أعاد ضبط المنافسة السياسية التي لا تبدِ إسرائيل الرغبة في التفاعل معها بما يتجاوز القوة العسكرية المدمرة ضد المدنيين الفلسطينيين. ومع استمرار العملية السكرية الانتقامية لثمانية أسابيع، لا يمكن القول إن إسرائيل قد انتصرت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب