سقوط يهودية الدولة في إسرائيل

سقوط يهودية الدولة في إسرائيل
سامح المحاريق
كاتب أردني
ظهرت بشكل واضح، وربما بطريقة تجاوزت ردود الفعل العربية والإسلامية، المواقف التي أقدمت عليها الأقلية اليهودية في مدينة نيويورك، وتجاوزت التحركات اليهودية، التي ترفض الممارسات العدوانية والإرهابية لدولة إسرائيل، مواقف معروفة لبعض الجماعات اليهودية مثل «ناطوري كارتا» المعروفة بمناهضتها للصهيونية، لتشمل يهوداً علمانيين، عادوا لليهودية من مدخل مناهضة إسرائيل وتصرفاتها الوحشية.
لماذا يفعلون ذلك؟
ملايين الأطفال والمراهقين العرب، لم يكونوا يعرفون فلسطين بالصورة الكافية قبل أشهر من الزمن، ولا يمتلكون خلفية تاريخية عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وذاكرتهم خالية من الصور السلبية، وهذه الفئة المنفتحة على التواصل مع الآخر من خلال شبكة الإنترنت والألعاب الإلكترونية، التي تتيح التواصل بين الأطفال والمراهقين بصورة عابرة للحدود، بمعنى أنه كان يمكن تطويعهم بشكل أو بآخر، لدرجة أو أخرى، في عمليات اندماج أو تطبيع أو سلام، أو تسوية أو مهادنة، يمكن بالطبع إذا وُجدت الظروف الموضوعية.
لا يغيب الذكاء والفطنة عن قيادات الجماعات اليهودية الفرعية في الكثير من بلدان العالم، ويعرفون أن الطالب اليهودي في المدرسة، سيصبح مع الوقت مع عشرات الطلبة العرب والمسلمين، وأن النسبة لن تكون في مصلحتهم مع الوقت، نظراً لظاهرة التقدم في العمر في المجتمعات الغربية، وأطفال اليهود الذين سيكبرون، عليهم أن يتحملوا الصورة الذهنية التي يغذيها نظام (إسرائيلي) يحمل إصراراً عدمياً على الوقوف في وجه التاريخ ومنطقه. ملايين اليهود في المستقبل سيكونون عرضةً لوصمة العنف والوحشية، لمجرد أن رئيس وزراء دولة (إسرائيل) بنيامين نتنياهو استغل المهاجرين الجدد، الذين أتوا من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، ليدفعهم في حركة استيطان واسعة، مترافقة مع تغذية دينية من روافد متطرفة، وأصبحت هذه الفئة الغريبة عن المنطقة، وحتى عن قوام التجمعات اليهودية الفاعلة تاريخياً في أوروبا والدول العربية، هي الرافعة السياسية لحكومة نتنياهو، وسط الفوضى التي أنتجتها حالة الاضطراب الاجتماعي في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين.
سيحدث انفصال بين اليهود ومشروع دولة (إسرائيل)، ومع الوقت سيحدث التناقض لتصبح (إسرائيل) مجرد ثمرة صهيونية وظيفية قامت لخدمة مصالح فئات محددة في الغرب
من الذي يتمترس بالمدنيين في هذه الحالة؟ حركة حماس التي يتشكل قوامها من أبناء الشهداء والأسرى والجرحى، ومن تغذيتهم في الطفولة بمشاهد هندسة الإذلال ونزع الإنسانية؟ أم نتنياهو وحلفاؤه من اليمين الإسرائيلي الذين يعيدون تعريض اليهود جميعهم لمخاطر وجودية، من أجل الإفلات لمصالح شخصية؟ لم يعد لإسرائيل القدرة على الزعم بأنها دولة يهودية بعد اليوم، هي دولة المستوطنين المتدينين بصورة غير مستقرة وغير واسعة القبول بين أوساط اليهود بشكل عام، وأصبحت هذه النسخة من (إسرائيل) عبئاً على اليهود العلمانيين في أماكن كثيرة حول العالم، والاستغلال الإعلامي الذي قدمته (إسرائيل)، ظهر خلال أيام تناقضاته والتهافت الكامن داخله، بل يمكن القول، بأن محاولات التشويه الإعلامية الإسرائيلية أتت لتشكل وصمة عار في تاريخ اليهود الإبداعي كله، وظهرت مفككة، ومن غير أي سياق درامي أو منطقي، وكثيراً ما انقلبت على صانعها الذي لا يستحق وظيفة مدير علاقات عامة في مدرسة ثانوية سيئة السمعة في أحد العشوائيات في دولة عالم ثالث. هل هذه إسرائيل التي بقيت لسنوات طويلة تقوم بتسويق قوتها العسكرية وهيمنتها التكنولوجية؟ كيف تستطيع بعد أن فشلت في صد هجمة بأسلحة خفيفة وتقليدية، ومقاتلين هاجموها على الدراجات النارية، أن تزعم قدرتها على إنتاج الحلول الأمنية للعالم؟
الفلسطينيون وحدهم، على ما يبدو، كانوا يعرفون إسرائيل من الداخل، أكثر من غيرهم، لدرجة أن أحد كوادر الحركة الإسلامية حدثني أنهم كانوا يقدرون في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فترة من خمس إلى عشر سنوات لسقوط إسرائيل عملياً، لإدراكهم أن الأمن الإسرائيلي يبالغ في قدرته على المواجهة، رأيت أن التقدير كان متفائلاً للغاية، ولكنه يبقى صحيحاً إلى حد بعيد في ظل القياس على المنطق التاريخي، وعلى من يتعاملون من مسافة غير بعيدة مع الأمن الإسرائيلي. المشكلة أن تيارات من الإسلاميين كانت أكثر قبولاً لواقع يمكن أن يستوعب اليهود، على أساس تراث يتحدث عن التعايش التاريخي، وأن كثيراً من اليهود وجدوا بين المسلمين حياة كريمة بعد طرد المسلمين واليهود من الأندلس، ولكن فكرة التعايش التي كان يمكن أن يتحدث عنها أي شخص في استيعاب اليهود من جديد، بوصفهم مكوناً سكانياً، لم تعد تمتلك أي صلاحية أو وجاهة في ظل حالة الثأر التي تمكن نتنياهو من تأسيسها، وبما يتجاوز الفلسطينيين، بمعنى أن اليهود أصبحوا من جديد خصوماً للإنسانية، وهذه فاتورة باهظة للغاية.
الفشل يتجاوز إسرائيل ليصبح قضية يهودية عالمية، واليهودي في فرنسا أو الأرجنتين، لم يكن معنياً قبل الحرب على غزة بالتعري السياسي الذي قدمه نتنياهو للمتطرفين من اليمين في إسرائيل، ويعتبر أن الأمر يدخل في نطاق المناورات السياسية، ولكنه اليوم يجد نفسه في مواجهة مخاطر حقيقية لتحمل تكلفة واقع لم يشترك في صناعته. بعد عشرين سنة من اليوم، ملايين العرب والإيرانيين والباكستانيين والبنغال وغيرهم، سيلتحقون بأعمال متقدمة في شركات التكنولوجيا والمصارف، وكثير منهم سيصلون للتمثيل السياسي في دول غربية مؤثرة، وجميعهم، وسواء داخل إرادة آبائهم أو خارجها، حجزوا داخل مساحة خاصة في اللاوعي للجرائم الإسرائيلية في غزة.
سيحدث انفصال بين اليهود ومشروع دولة (إسرائيل)، ومع الوقت، سيحدث التناقض لتصبح (إسرائيل) مجرد ثمرة صهيونية وظيفية قامت لخدمة مصالح فئات محددة في الغرب والوساطة للمشاريع الإقليمية والدولية، بما سيجعلها مع الوقت دولة المأزق الأخلاقي بصورة أسوأ مما حدث في جنوب افريقيا العنصرية أو ألمانيا النازية.
كاتب أردني