تاريخية التعريب
سعيد يقطين
تضمن العدد 4592 من جريدة «السعادة» لسان الاستعمار الفرنسي بلاغا عسكريا «أصدره سعادة الجنرال خليفة سعادة القائد الأعلى للجنود بالنيابة، أمرا يقضي بمنع الكتاب المعنون بـ»النبوغ المغربي في الأدب العربي» الصادر باللغة العربية في تطوان، من الدخول إلى المنطقة الفرنسية في المغرب الأقصى، وكذلك بيعه وعرضه، وتوزيعه. ومن خالف ذلك يعاقب بمقتضى القوانين المقررة». كان الهدف من البلاغ إبراز أن المغرب ليس له تاريخ ولا ثقافة ولا لغة عربية، ليتأتى للاستعمار فرض لغته وثقافته على «الأهالي» الذين لا لغة وطنية لهم، ولا ثقافة كتابية، تماما كما جرى في كل البلدان الافريقية، التي فرض عليها لغته في التعليم والإدارة والحياة العامة، وبقيت اللهجات المختلفة قيد التواصل اليومي.
هذا التصور الاستعماري يجد الآن من يتبناه متخذا من الهجوم على العربية باختزالها في قريش، والإسلام في الوهابية، والتاريخ الإسلامي في النهب والسبي، لإبراز أن المغاربة أمازيغ وليسوا عربا. هذه هي الأطروحة الجينية التي يروج لها بعض الناشطين في الحلاقي الافتراضية مؤخرا. وعندما نراهم يقولون إن المقاومة تتخذ المدنيين دروعا بشرية ندرك العلاقات والمقاصد.
أمدني الزملاء في الاتحاد المغربي للثقافات المحلية، بأعمال الملتقى الأول الذي نظم في المحمدية (16 ـ 18 يونيو/حزيران 2023) تحت عنوان: «المغرب الثقافي بتعدد اللغات» دورة إدمون عمران المالح، تكريما لي. فاطلعت على مقالة عبد الخالق كلاب، الذي أتيحت لي فرصة متابعة بعض حلقاته على يوتيوب التي يسخرها للهجوم على العربية والتاريخ الإسلامي، فوجدته يكتب: المغاربة ليسوا عربا، والأمازيغ جنس له مقوماته الجينية المتميزة؟ والمغاربة لم يتعربوا إلا مع الحركة الوطنية. هذه هي الأسطوانة يشغلها أبدا.
أما مقالته عن تاريخية التعريب فمثال واضح لما يروج له، يقسم مراحل تعريب المغرب إلى ثلاث مراحل، ولو اطلع السائح عليها، ولم يكن يعرف شيئا عن المغرب، لدفعه ذلك إلى تعلم الأمازيغيات لكي يتمكن من شراء قارورة ماء. يقول كان اللسان الأمازيغي مهيمنا في المرحلة الأولى: «ولم يُحدث الغزاة الأمويون تأثيرا كبيرا في لسان المغاربة، إذ كان اهتمامهم منصرفا إلى الغزو وجمع الغنائم وسبي النساء والذراري، فاقتصر بذلك أثر التعريب على أسماء بعض القادة الأمازيغ مثل طارق بين زياد». وجاءت المرحلة الثانية تحت عنوان: اللسان الدارج: «استقدم الموحدون أعدادا محدودة من القبائل العربية، التي يمكن التمييز فيها بين قبائل بني هلال، التي استقرت في شمال المغرب، وقبائل بني معقل التي انتجعت مجالات المغرب الشرقي، ثم انتقلت بعد ذلك إلى الصحراء».
ورغم إشارته من خلال بعض المصادر إلى أن ألفاً من العرب ممن استقدموا، يتدارك: «بأن أعدادهم كانت قليلة، وحسب ابن خلدون لم يتجاوزوا المئتين». ويؤكد ذلك بقوله: «كانت هذه القبائل محدودة العدد إلا أن تأثيرها في لسان المغاربة أصبح بارزا في اللسان الدارج… لكن مع ذلك ظلت اللغة الأمازيغية هي المهيمنة». أما المرحلة الثالثة «سياسة التعريب» فهي التي استهدفت القضاء على اللسان الأمازيغي، مع الحركة الوطنية، وإماتتها مع اليسار المغربي.
لا أريد الدخول في سجال. سأطرح فقط أسئلة تتعلق بالأفكار، وليس الأهواء. ألخص قوله في أنه خلال كل تاريخ المغرب كانت الأمازيغية هي المهيمنة، وأن سياسة التعريب الحديثة جاءت للقضاء عليها، فالأمويون لم يؤثروا في لسان المغاربة، والموحدون استقدموا مئتين من العرب. فما هي اللغة التي كان يكتبها المغاربة خلال كل هذا التاريخ؟ وماذا كان يدرس في المساجد؟ وما هي لغة كتابة الدول المتعاقبة؟ ولماذا أصبح لسان المغاربة بارزا في الدارجة رغم قلة العرب؟ مهدت بكتاب النبوغ المغربي لإبراز أن هناك تراثا مغربيا مكتوبا بالعربية له تاريخ، ومن خلاله تحددت هوية المغاربة، عالميا، لأن مختلف مكونات المجتمع الذي اندمجت عناصره، وتفاعلت ساهمت في صنعها، وأن الدارجة بلهجاتها، والأمازيغية بلهجاتها ظلتا متعايشتين، لكن التطور السوسيوـ ثقافي للمجتمع المغربي جعل الدارجة المغربية هي السائدة في الحياة اليومية. فكم من الناطقين بالأمازيغية لا يعرفون العربية؟ وكم من الناطقين بها يتكلمون العربية؟ وكم من الناطقين بالعربية لا يعرفون الأمازيغية؟ هذه الأسئلة لا يمكنه الجواب عنها بالتحليل الجيني الذي يتبناه، لماذا تأتَّى للدارجة أن تفرض نفسها رغم كون التعريب «جديدا»؟ على مؤرخنا أن يعود إلى التاريخ الثقافي ليرى كيف تشكلت العامية وآدابها في الأندلس، والشمال الافريقي؟ ولن أذكره بالنصوص لأن لكل منها تاريخا طويلا في المنطقة. أتركه يقارن بين الأغنية الشعبية بالدارجة والأمازيغية اليوم، ويطلعني على من فرض الدارجة، وعمل على إقصاء اللغات الأمازيغية؟
علينا إعادة كتابة تاريخ المغرب، لكن من أي زاوية؟ ولأي هدف؟ فهل المغاربة بجيناتهم أم بوجودهم اللغوي والثقافي؟ لو كانت هويات الأمم والشعوب تتحدد بالجينات لما كان ثمة داع للحديث عن الهوية اللغوية والثقافية. على الكاتب أن يكتب لنا عن «النبوغ الأمازيغي» وما أنتج بالأمازيغية الكتابية منذ الفتح الإسلامي لنعرف تاريخنا المغربي. ولن أطلب منه كتابة «المفصل في تاريخ الأمازيغ قبل الإسلام» لأني أعرف أنه لن يجد سوى بضع وريقات مكرورة، مما اطلعت عليه، وهو كثير جدا، دبجها الأجانب قديما وحديثا.
كاتب مغربي