
من الذاكرة المثقلة بالرحيل
بقلم حسين عبدالله جمعه
ألو… ألو… خانته العبرات، وانفجر بالبكاء. انبرى خلف آهة مكبوتة، وخلف خوفٍ مما ينتظره. في بلادنا، علّمونا أن الرجال لا يبكون، وصوّروا الرجل غريندايزر أو طرزان. لكن… أليس الرجل إنسانًا؟ أليس للإنسان أن يبكي؟ عجبًا لمجتمعٍ يعيب على رجلٍ دموعه في فاجعة! راح يختبئ وراء صمته الحديدي، بينما أحاول أن أواسيه، أن أخفف عنه معاناته مع المرض العضال، ومع الحرب التي هجّرته من بيته. قال لي: “كم أنا مشتاق إليك يا أبا علي، إلى جلسةٍ معك، ولو لساعتين فقط. لقد طالت الحرب، والمرض أنهكني… الحمد لله على كل حال.” بكيت لبكائه. أبكاني الحنين وأشياء أخرى: رائحة النارنج والياسمين، المشي ليلًا في شوارع دمشق، دمشق التي سلبت روحي ونثرتها على قمة جبل قاسيون. لا أدري على ماذا نبكي أنا وصديقي ابو عمر… ربما على الحنين، على الأحلام، على العجز والمرض. وربما على ابتلاءاتٍ لا تشبه ابتلاءات الآخرين. حتى أن مصادفة مولدينا في اليوم نفسه كانت تشبه القدر، مثل زهرة قرنفل وردية في دمشق القديمة، مثل تناول الفته في الشيخ محيي الدين والمشي في باب توما. أتذكر زيارته لي يوم مولدي في بعلبك، قبل أن يسقط الأمان في لبنان، وقبل أن تنهار سوريا. قلت له: “كن قويًا، وانتصر… فالحب والأمل سلاح المؤمنين.” لكن صوته انكسر بين شهقاتٍ ودموع. لم تمضِ أيام كثيرة على تلك المكالمة، حتى جاءني صباح بارد يشبه الرحيل، والقهوة الباردة على الطاولة. فتحت هاتفي… فإذا بخبر وفاته يملأ الشاشات. رحل صديقي، كما رحل الأمان من مدننا. تناثرت القرنفلات أرضًا، وانهمرت دمعة أخرى. لماذا كل الذين نحبهم… يرحلون سريعًا؟ حسين عبدالله جمعة سعدنايل – لبنان