قرار محكمة العدل الدولية أقل من المأمول… وأفضل الممكن!
قرار محكمة العدل الدولية أقل من المأمول… وأفضل الممكن!
د. عبد الله خليفة الشايجي
أستاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت
في حكم تاريخي غير مسبوق ـ ويوم تاريخي سيئ لإسرائيل وداعميها ـ كشف عورتها وفضح غطرستها. برغم عدم إصدار محكمة العدل الدولية قراراً واضحاً بوقف حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة في شهرها الرابع في عدوانها المستمر الذي قتل حوالي 30 ألفاً بين شهيد ومفقود قضوا تحت الأنقاض وإجبار أكثر من مليونين على النزوح القسري من الشمال إلى الجنوب، ومن خانيونس كما يجري اليوم في اتجاه رفح على حدود مصر، مع نوايا بإجبارهم على الرحيل إلى سيناء في مصر.. اتهمت جمهورية جنوب افريقيا إسرائيل بملف موثق بارتكاب جرائم حرب إبادة ضد الفلسطينيين في غزة في عملية «السيوف الحديدية» ـرداً على عملية كتائب عزالدين القسام ـ الجناح العسكري لحركة حماس التي تحكم قطاع غزة منذ عام 2006.
محكمة العدل الدولية عرت إسرائيل أمام المجتمع الدولي ودمرت سرديتها التي روجت لها وأقنعت العالم بأن أحفاد الناجين من المحرقة هم الضحايا دائما وهم من يتعرضون لحملات معاداة السامية، وهذا بحد ذاته إنجاز غير مسبوق. وخاصة مع تأكيد رئيسة محكمة العدل الدولية في الحكم الذي قرأته وعددت فيه تجاوزات واعتداءات وارتكاب إسرائيل جرائم على سكان غزة: « بعد رفض المحكمة طلب إسرائيل سحب الدعوى، وحكمها بأن دعوى جنوب افريقيا تدخل ضمن اختصاص المحكمة. وأكدت توفر أدلة كافية لاستنتاج أن بعض اتهامات دعوى جنوب افريقيا بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية تحمل مصداقية»! لكن لم تصدر المحكمة قراراً حول الإبادة الجماعية ـ يستغرق ذلك وقتاً طويلاً ـ رغم الأدلة الواضحة بالفيديوهات الموثقة! ولم تطالب المحكمة بوقف فوري للحرب ضمن الإجراءات المؤقتة التي من صلاحيات المحكمة. لكن كان كافياً تسليط الضوء على جرائم حرب الاحتلال والتنكيل بالفلسطينيين وفضح عنصريتهم ووحشيتهم التي دأبوا على ممارستها على مدى 75 عاماً.
لم تصدر المحكمة قراراً واضحاً بوقف فوري لإطلاق النار ـ ربما بسبب الضغوط من الدول الفاعلة في النظام العالمي. لكن قرار المحكمة يأمر إسرائيل بوقف كافة الإجراءات التي تؤدي للإبادة الجماعية، واتخاذ إسرائيل جميع الإجراءات لتحسين الوضع الإنساني ومنع التدمير وارتكاب أعمال الإبادة الجماعية. واتخاذ الإجراءات لمنع التحريض المباشر وعقاب من يحرضون على ارتكاب الإبادة الجماعية (تصريح كبار المسؤولين: نتنياهو ووزير الدفاع الذي وصف سكان غزة بالحيوانات وقطع إمدادات الماء والكهرباء والغذاء والدواء عنهم، ورئيس الدولة الذي أكد أنه لا يوجد بريء في غزة). وطالبت محكمة العدل الدولية من إسرائيل توفير الاحتياجات الإنسانية الملحة لقطاع غزة بشكل فوري. وتقديم تقرير عن جميع الإجراءات التي اتخذتها خلال شهر لمحكمة العدل الدولية.
كان كافياً تسليط الضوء على جرائم حرب الاحتلال والتنكيل بالفلسطينيين وفضح عنصريتهم ووحشيتهم التي دأبوا على ممارستها على مدى 75 عاماً
تلك إدانة واضحة للتصريحات العدائية التي تفضح نوايا الصهاينة. وتؤخذ على محمل الجد كأدلة لبناء قضية مقنعة على تبييت نية الإبادة منذ اليوم الأول ـ ولجرائم إسرائيل وإحراج داعميها وخاصة الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين في حال واصلوا تزويد آلة القتل الإسرائيلية بالسلاح والعتاد والدعم بعد قرار محكمة العدل الدولية ـ وتسليط الضوء بشكل غير مسبوق على جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة بأغلبية ساحقة من قضاة محكمة العدل الدولية.
برغم عدم طلب محكمة العدل الدولية بشكل واضح وصريح وقف الحرب والعمليات العسكرية، ألا أنه لا يمكن لإسرائيل الالتزام بتنفيذ مطالب وإجراءات وتدابير محكمة العدل الدولية دون أن توقف الحرب فوراً لتنفيذ تلك المطالب. وباتت المسؤولية اليوم تقع على إسرائيل وداعميها ومؤيديها للتعاون والعمل بشكل جاد لتنفيذ مطالب محكمة العدل الدولية، وإنهاء المأساة الإنسانية لسكان غزة. لكن ذلك يصطدم بإصرار نتنياهو إطالة أمد الحرب للبقاء في السلطة!
ردود أفعال الأطراف المعنية على قرار المحكمة ـ سارع نتنياهو لانتقاد قرار المحكمة مع قادة حكومته المتطرفة وعلق بسخف يصف القرار بوصمة عار لأجيال ويتعهد «لإسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها…وسنستمر بالدفاع عن أنفسنا ومواطنينا وإن ادعاءات الإبادة ليست كاذبة بل هي وصمة عار لأجيال.. وسنواصل الدفاع عن أنفسنا وفقاً للقانون الدولي» الذي يخرقه يومياً! ووصف وزير الدفاع غالانت ووزير الأمن الداخلي بن غفير المتطرف دعوى جنوب افريقيا بالمعادية للسامية ـ وتجاوزت المحكمة حدودها بعدم رفضها الدعوى»! وهذه أسطوانة مشروخة دأب المسؤولون الإسرائيليون تكرارها في انتقادهم لقرارات وأحكام المنظمات الدولية التي تصدرها ضد جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين.
أما وزير خارجية فلسطين فرحب بقرار المحكمة وقرار المحكمة يؤكد ألا دولة فوق القانون. وأعلنت حركة حماس ترحيبها بقرار محكمة العدل الدولية وفرض إجراءات طارئة ضد إسرائيل بسبب حربها في قطاع غزة. وتتوقع حماس مزيدا من قرارات المحكمة التي «تدين دولة الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ومحاسبة قادة العدو على أفعالهم في محكمة قانونية». كما أشادت وأيدت الدول العربية القرار وطالبت بوقف الحرب. فيما كررت الخارجية الأمريكية أن مزاعم دعوى جنوب افريقيا ضد إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بلا أساس»!
يصدر قرار للمرة الأولى من أعلى محكمة دولية ـ محكمة العدل الدولية إحدى مؤسسات الأمم المتحدة يعري إسرائيل، برفض طلبها الدعوى، وقبول النظر بدعوى اتهام جنوب افريقيا ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية ضد سكان غزة. ما يدين إسرائيل ويشكل انتصاراً معنوياً وقانونياً للفلسطينيين يمكن البناء عليه إذا أُحسن توظيفه فلسطينياً وعربياً ودولياً لإنهاء الحرب وكسر الحصار وصولاً لتحقيق حل الدولتين.
في المحصلة النهائية برغم حالة الإحباط وخيبة الأمل بعدم اتهام المحكمة إسرائيل ارتكاب إبادة جماعية، والمطالبة بوقف الحرب فوراً، لكن واقعياً في ظل المعطيات والظروف القائمة ـ يبقى القرار أقل من المأمول، وأفضل الممكن!!
استاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت