دراساتمقالات

طوفان الأقصى: الحرب الاستثنائية في تاريخ الحروب العربية – الصهيونية بقلم د. محمد مراد

بقلم د. محمد مراد- المنبر الثقافي العربي والدولي -

طوفان الأقصى: الحرب الاستثنائية في تاريخ الحروب العربية – الصهيونية
بقلم د. محمد مراد
حتى اليوم تكون حرب المقاومة الفلسطينية في غزّة قد شارفت على الخمسة أشهر على اندلاعها في السابع من تشرين الأول ( أكتوبر) الماضي، وهي مازالت تسجّل صمودا أسطوريا ليس فقط في تصدّيها البطولي لآلة الحرب الصهيونية ومعها الجيش الذي يتجاوز عديده النظامي والاحتياطي الستمائة ألف من مختلف التصنيفات العسكرية، والذي توفرت له كل الخبرات التقنية والتكنولوجية من غير دولة من الغرب الاستعماري، وإنما في الجديد النوعي لهذه الحرب التي باتت ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الحروب العربية مع الكيان الصهيوني الذي لم يسبق له أن تذوّق طعم الهزيمة بدءا بالحرب الأولى التي اغتصب فيها نحو 79% من أرض فلسطين التاريخية في أيّار (مايو) 1948، والتي انتهت بانكسار سبعة جيوش عربية مشاركة في عملياتها، ثمّ كانت الحرب الثانية – حرب الأيام الستة (5—11) حزيران/يونيو 1967، التي أفضت الى احتلال ما تبقى من فلسطين أي الضفة الغربية وقطاع غزّة، إضافة الى إيقاع هزيمة مدوّية بثلاثة جيوش عربية لكل من مصر وسوريا والأردن، مع توسّع العدو الصهيوني لمساحات احتلالية جديدة في سيناء المصرية والجولان السورية وبعض الأراضي اللبنانية. وعندما بادرت مصر وسوريا بشنّ حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 فإنهما لم تتمكنا من قلب المعادلة لصالحهما، بل على العكس من ذلك جاءت نتائج هذه الحرب لتخدم الكيان الصهيوني على أثر انسحاب مصر – الدولة العربية الوازنة عسكريا وسكانيا ودبلوماسيا وحضورا دوليا – من قضية فلسطين القومية، ومؤثراتها خيار التطبيع في علاقاتها مع “دولة” الكيان مقابل استعادة سيناء المحتلة. وبذلك، فإنّ نتائج حرب 1973 جاءت لتخدم استراتيجية الاحتلال ولتكون أقرب الى الهزيمة من حيث تداعياتها على القضية الفلسطينية وسائر القضايا القومية المتصلة بها.
ثمّ كانت الحرب العدوانية الصهيونية على لبنان في حزيران/يونيو 1982، حيث احتلت قوات الاحتلال العاصمة بيروت وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها المسلحة الى تونس، جرى ذلك من غير أي التزام عربي بمعاهدة الدفاع المشترك المنصوص عليه في وثائق جامعة الدول العربية.
جاءت معركة “طوفان الأقصى” لتقلب معادلات كل الحروب المشار اليها، ولتفتح معادلة جديدة ومختلفة كليا من حيث التداعيات والنتائج، ليس على مستقبل القضية الفلسطينية وحدها، وإنما على سائر قضايا التحرر الوطني والقومي في الوطن العربي.
إنّ قراءة موضوعية لظروف المرحلة الزمنية التي انطلقت فيها عملية “طوفان الأقصى” من شأنها المساهمة في استخلاص جملة من الاستنتاجات من جهة، واستشراف أولي للتوقعات التي سترسم مستقبل الصراع العربي – الصهيوني والقضية الفلسطينية ومعها غير قضية وطنية وقومية من جهة أخرى.
أولا، بشأن الميدان الحربي بين المقاومة في غزّة والكيان الصهيوني
1 – المسرح الجغرافي للحرب: 365 كم2 هي اجمالي المساحة لقطاع غزّة، مقابل أكثر من 27 ألف كلم2 هي المساحة الفلسطينية تحت الاحتلال، وبذلك تكون النسبة بين حجمي المساحتين 74/1، الأمر الذي يظهر قدرة المقاومة على المجابهة والتصدي للقوات الصهيونية المهاجمة.
2 – حجم التحشيد العسكري: جيش نظامي صهيوني يفوق عديده ال 600 ألف من مختلف صنوف الأسلحة في البر والجو والبحر، مع الإشارة هنا الى اعتماد تجنيد المرتزقة أو مقاتلي العقود كما فعلت أمريكا في العراق، حيث تعاقدت مع شركات أمنية كان من أبرزها شركة “بلاك ويتر”، بالمقابل لم يتجاوز تحشيد المقاومة بضعة آلاف، لكنّهم على درجة عالية من الإعداد والتدريب وامتلاك الكفاءة القتالية.
3 – المساندة والدعم: الولايات المتحدة الأمريكية ومعها منظومة حلف الأطلسي (الناتو)، سارعت منذ اليوم الثاني للحرب أي في 8 تشرين الأول/ أكتوبر لتقديم كل ما تحتاجه “إسرائيل” من عتاد عسكري وخبرات حرب، ناهيك عن إرسال السفن والبوارج الحربية وحاملات الطائرات، إضافة الى الدعم الملياري لتمكين الصهاينة من استيعاب أكلاف الحرب المادية والبشرية. أمّا المقاومة في غزّة فهي محاصرة إسرائيليا من كل الجهات وتحت القصف الشديد والمتواصل من الجو، وهي أيضا محاصرة بصمت أنظمة الحكم العربي الرسمي التي لم تحرك ساكنا للجم العدو عن ارتكابه المجازر الفظيعة بحق المدنيين، ولم تتجرأ على التهديد بوقف أو بتعليق عمليات التطبيع الاقتصادي والدبلوماسي والأمني معه.
ثانيا، حرب طوفانيه في الزمن المختلف دوليا وعربيا
شكّلت عملية “طوفان الأقصى” هزّة زلزالية قياسية سوف يكون لها تداعياتها بسلسلة من الهزّات الارتدادية، التي من شأنها أن تحدث انقلابا في المعادلات الأمنية والسياسية والجيوسياسية، ليس على مستوى القضية الفلسطينية والوطن العربي وحسب، وإنّما على مختلف موازين القوى الدولية والإقليمية، والتجاذبات القطبية بشأن ترسيمات جديدة لنظام دولي للعالم للعقود السبعة المتبقية للقرن الحالي (الحادي والعشرين).
الأمر الملفت في العملية هو تلك الاستثنائية لحدث تاريخي يحصل في الزمن المختلف أي الزمن غير المناسب للتطورات الكمية والنوعية، التي طبعت مسارات النظام الدولي، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، واختلال التوازنات القطبية على اثر سقوط التجربة السوفياتية، على مستوى الاقتصاد والأيديولوجيا والاستراتيجيات الدولية، والآثار السلبية التي تركتها هذه التحولات على مستقبل الوضعين المتلازمين الوطني الفلسطيني والقومي العربي.
1 – على المستوى الدولي
تمثّلت التطورات الدولية في أعقاب المرحلة السوفياتية بجملة من التحوّلات المتسارعة كان من أبرزها تحوّلان عميقان مركزيان:
الأول، نشوة رأسمالية المركز الأميركية التي توهّمت بانتصارها كنمط اقتصادي وأيديولوجيا في التاريخ، فراحت تعمل على الإمساك بمواقع القوّة الجيو-استراتيجية في العالم من خلال شنّها الحروب الاستباقية كما حصل مع احتلالها لأفغانستان عام 2001، والعراق 2003، ومن ثمّ تكثيف اختراقها للمجال القومي العربي عبر وقوفها وراء سلسلة الحروب الأهلية والأزمات السياسية والاقتصادية في غير دولة عربية، وبما يستجيب لمخططاتها الاستعمارية في إلغاء وظيفة الدولة الحديثة والمعاصرة في الوطن العربي تمهيدا لقيام نظام شرق أوسطي جديد يكون بديلا للنظام الإقليمي العربي، الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويأتي تصنيعه على شكل سلسلة جديدة من الكيانات السياسية (الدويلات) على أساس الدويلة -المذهب، والدويلة-العرق، والدويلة-القبيلة فإلى ما هنالك من اشكال الكيانات ذات الولاءات الأولية على حساب الولاء الوطني والقومي، والولاء للعروبة كهويّة حضارية تاريخية لأمّة العرب الواحدة.
كان من الطبيعي أن يصيب المشروع الأميركي التفكيكي والتجزيئي للوطن العربي القضية الفلسطينية في الصميم، ويقفل، بالتالي، الطريق أمام نضالات الشعب الفلسطيني من أجل استعادة أرضه التاريخية وهويّته الوطنية والقومية.
الثاني، تسارع وتائر الاقتصاد العالمي ودخوله مرحلة العولمة الاقتصادية، التي عبّرت عنها مجموعة من الشركات القطبية العالمية (شركات بنكية ومصارف وتأمين وإعلام، وتصنيع عسكري، وأساطيل ناقلة للبترول والغاز المسال، وشركات احتكار للتكنولوجيا والأدوية والتبغ وما الى ذلك. وفي الآونة الأخيرة أفضى الاقتصاد المعولم الى توليد نسخة جديدة من العولمة الاقتصادية تمثّلت، هذه المرّة بتحكّم الشركات العملاقة في إدارة الدولة، أي في تقديم الاقتصاد على السياسة في الوظيفة الجديدة للدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى بقيام حلف اقتصادي معولم تتشارك فيه مجموعة من الدول الوازنة اقتصاديا تعتمد في سياستها الاقتصادية على ربط مناطق الثروة في العالم بممرات اقتصادية عبارة عن خطوط للتجارة ونقل البضائع عبر المرافئ البحرية، وشبكات لخطوط السكك الحديدية البرية. ففي عام 2013 أعلنت الصين عن قيام “المبادرة والطريق” (طريق الحرير)، وهو عبارة عن تكتّل اقتصادي دولي بقيادة صينية تشترك فيه 63 دولة، بالمقابل، وبعد عشر سنوات على الخط الصيني أي في العام 2023، أعلنت الولايات المتحدة في قمّة العشرين المنعقدة في العاصمة الهندية نيودلهي، عن انشاء “الممر الهندي-الخليجي-الإسرائيلي-الأوروبي”، وهو طريق للتحكّم بالتجارة الدولية، وكان من بين أهدافه قطع الطريق على الصين في وصولها الى الخليج العربي والشرق الأوسط من جهة، وإعطاء “إسرائيل” الدور المركزي في اقتصاد المنطقة الخليجية بصورة خاصّة، والعربية بصورة عامّة. وقد تفاعلت “إسرائيل” مع هذا المشروع، وراحت تسعى لشقّ “قناة بن غوريون” بين خليج إيلات على البحر الأحمر، ومرفأ حيفا على البحر المتوسط، الأمر الذي يفقد قناة السويس أهميتها التجارية من جهة، ويحرم الخزينة المصرية من عائدات مليارية من جهة أخرى.
من هنا، فإنّ الحرب الصهيونية-الأطلسية الأخيرة على غزّة، والتي مازالت مستمرة منذ حوالي خمسة أشهر، هي من بين دوافع أخرى، تهدف الى اقتلاع وتهجير أكثر من مليوني فلسطيني الى الخارج، وتحويلهم الى لاجئي شتات مضافين الى أكثر من خمسة ملايين آخرين سبق وأن شرّدتهم القوات الصهيونية في العام 1948 وما بعده.
2 – على المستوى العربي
جاءت عملية “طوفان الأقصى” في زمن عربي أقرب ما يكون في ظروفه الانحدارية والانحطاطية الى عصر الدويلات التي خرجت على السلطة المركزية لدولة الخلافة العبّاسية خلال القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد، والتي أتاحت المجال لاختراقات وتغوّلات لقوى خارجية متربّصة بالمجال العربي-الإسلامي من فارسية، وتركية، ومغولية، وغيرها.
اتخذ المشهد الانحداري العربي سلسلة من كسر وإضعاف حلقات القوّة القومية ذات التأثير المباشر على قضية التحرر الوطني الفلسطينية، وعلى تلازمها مع قضايا التحرر الوطني والقومي على مستوى المجال العربي برمته.
تعرّضت مواقع القوّة القومية في الوطن العربي الى سلسلة من الاستهدافات الاستعمارية المتلاحقة، هذه أبرزها:
1 – وقوف القوى الاستعمارية والصهيونية والرجعية المحلية التابعة وراء انفصال أول تجربة وحدوية ذات أبعاد قومية استراتيجية هي الوحدة المصرية – السورية (1958 – 1961)، التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي.
2 – إسقاط المشروع الوحدوي القومي للرئيس جمال عبد الناصر على أثر الهزيمة العسكرية في حرب حزيران / يونيو 1967، وهي الحرب التي سجّلت فيها “إسرائيل” بمساعدة الغرب الاستعماري، انتصارا على ثلاثة جيوش عربية وفي مدة زمنية لا تتجاوز الأيام الستة فقط.
3 – الحرب الصهيونية – الاستعمارية على لبنان والمقاومة الفلسطينية في حزيران /يونيو 1982، والتي انتهت بإبعاد منظمة التحرير الى تونس، واستمرار الاحتلال الصهيوني لجنوبي لبنان حتى أيّار /مايو للعام 2000.
4 – الحرب الأمريكية – الأطلسية – الرجعية على العراق الذي كان يمثّل الموقع القومي الأخير في الوطن العربي، والداعم الأبرز للقضية الفلسطينية. فقد كانت الحرب الثلاثينية الأولى بين منتصف كانون الثاني / يناير ومطلع آذار / مارس 1991. والثانية كانت حرب الحصار غير المسبوق في التاريخ الحديث والمعاصر للشعب العراقي، والذي أودى بحياة الملايين من الأطفال والمدنيين العراقيين على مدى ثلاث عشرة سنة متواصلة بين 1990 – 2003. والثالثة كانت الحرب الأمريكية – البريطانية التي أفضت الى احتلال العراق في نيسان / ابريل 2003، والى اسقاط نظامه الوطني، ودولته المركزية، وتشويه تجربته الرائدة في البناء الوطني والقومي، وفي التزامه القضية الفلسطينية بوصفها جزءا من استراتيجيته المركزية في الربط بين تحرير فلسطين والوحدة العربية.
5 – الوقوف الأميركي وراء اصطناع الحركات التكفيرية، التي انتشرت في غير دولة عربية بهدف تفكيك مجتمع هذه الدولة، وخلق كيانات سياسية طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية متصارعة ومتناحرة في حروب مفتوحة ومستمرة.
جاءت عملية “طوفان الأقصى” في ظل هذا الزمن الرديء الذي بات معه الوطن العربي يعاني من انكشاف مأزق التجزئة والتشظّي في ظل أزمات ثقيلة وضاغطة، كلّ ذلك من أجل تطويع النظام العربي لصالح الاستراتيجية الأمريكية من جهة، وتمكين الكيان الصهيوني من الاحتفاظ بموقع القوّة الأكبر مما يتيح له الترجمة العملية لمشروعه التلمودي التهويدي في إقامة الدولة اليهودية الكبرى من الفرات الى النيل من جهة أخرى.
ثالثا، الدّالات على استثنائية “طوفان الأقصى”
على ضوء التطورات الدولية والعربية ذات الصلة التأثيرية على قضية الشعب الفلسطيني، وعلى نضاله المشروع لاستعادة أرضه المغتصبة وعودة لاجئيه من الشتات في الخارج، والمحافظة على هويته الوطنية والقومية، من أجل كل ذلك كانت معركة “طوفان الأقصى” استثنائية في دالاّتها من حيث النتائج التي سجّلتها بعد مرور نحو خمسة أشهر على اندلاعها، والتي سوف تسجّلها في المستقبل.
أبرز هذه الدّالات هي التالية:
1 – القدرة الاستثنائية للمقاومة دلّ عليها امتلاكها لاستراتيجية قتالية تتسم بالنوعية غير المسبوقة في علم التكتيك العسكري والمناورة والتخطيط الحربي.
2 – الصمود الأسطوري في مواجهة العدوانية الصهيونية المفرطة، والمدعومة من دول الغرب الاستعماري عسكريا وماليا ودبلوماسيا في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.
3 – حجم الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي ألحقتها المقاومة بالجيش الصهيوني، والتي أفضت الى إخراج أكثر من 30% من هذا الجيش من المعركة بين قتيل وجريح ومصاب بصدمات نفسية عصية على المعالجة. هذا، إضافة الى الخسائر الكبيرة جدا في الآليات العسكرية، والأكلاف المالية المليارية العالية للحرب الدائرة.
4 – قدرة المقاومة على اختراق غلاف غزّة وإسقاطها للعديد من المستوطنات أمنيا وعسكريا، وجعلها تحت الأمرة العسكرية المباشرة لها.
5 – كسر الحلم الصهيوني، ولأول مرة في تاريخ المواجهات والحروب العربية – الصهيونية، وهو الحلم – الفكرة التي كان أول من أطلقها نابليون بونابرت أثناء محاصرته لمدينة عكا على الساحل الفلسطيني عام 1801 بهدف ضمّ بلاد الشام الى مصر تحت السيطرة الكولونيالية الفرنسية، حيث اصطدم نابليون بمقاومة عربية – إسلامية حالت دون دخوله عكا، فقام بتوجيه رسالة الى الثري اليهودي “حاييم فرحي” المقيم في عكا، طالبا اليه المساعدة على خلخلة مجتمع عكا من الداخل، مقابل الوعد بإقامة دولة يهودية في المشرق العربي تكون مدعومة من فرنسا وعلى علاقة تحالف استراتيجي معها.
6 – تماسك المجتمع الفلسطيني سواء في قطاع غزّة أم في الضفة الغربية وفي الداخل المحتل، وكذلك في الشتات في الخارج، فقد أظهر الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج تماسكا وطنيا صلبا في وقوفه الى جانب المقاومة متعاليا على المجازر والخسائر البشرية في صفوف المدنيين، وعلى العذابات والآلام، والتشريد والجوع والقهر.
7 – استعادة الشعب العربي في سائر الأقطار العربية الأمل والثقة بانتصار المقاومة في غزّة، وفي فلسطين، وأثر هذا الانتصار على القضايا الوطنية والقومية العربية.
8 – دور “طوفان الأقصى” في إحداث الاختلالات الداخلية في مجتمع الكيان الصهيوني، وهو في الأصل مجتمع غير متجانس بيئيا وثقافيا وهويّة. فقد ظهرت داخل الكيان أزمات متعددة، منها أزمة الحكومة الائتلافية دلّت عليها الاختلافات المكشوفة بين أعضائها، وهناك فجوة الثقة بين المستوطنين وحكومة “نتنياهو”، التي أظهرت عجزها عن استعادة الأسرى الذين وقعوا في قبضة المقاومة منذ الساعات الأولى للعملية في السابع من تشرين الأول / اكتوبر من غير أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحرير أسير واحد منهم. كما تجلى الانقسام الاجتماعي بسبب تصاعد التوترات العرقية بين يهود البيئات المختلفة، الأمر الذي أفضى الى مراجعة الكثيرين لمسألة وجودهم وبقائهم في فلسطين المحتلة بعد أن كانوا وعدوا بالعيش الرغيد والرفاهية فيها، فاذا بهم يواجهون الموت والأسر والتهجير والرعب، الأمر الذي دفع الكثيرين منهم الى مؤاثرة العودة الى بيئاتهم وبلادهم الأصلية.
9 – تسجيل “طوفان الأقصى” العديد من الانتصارات غير المسبوقة، منها: الانتصار الأول مع بدء تنفيذ العملية في 7 تشرين الأول /أكتوبر، والثاني، كان انتصار المقاومة في الصمود والتصدي للعدوانية الصهيونية المفرطة في القتل والتدمير والتشريد والمحاصرة والتجويع، وهو صمود بات يقترب من نهاية الشهر الخامس على بدء المعركة، وفي الحال التي تتوقف فيها الحرب، وتنسحب القوات الصهيونية الى خارج غزة، يكون النصر الثالث والحاسم الذي سوف يجعل من المقاومة الفلسطينية أنموذجا يحتذى في المستقبل ليس في سبيل تحرير فلسطين فقط، وإنّما في اعتماده خيارا لدى سائر حركات التحرر الوطني والقومي في كل الوطن العربي .
خلاصة واستنتاجات
إنّ عملية “طوفان الأقصى” التي فاجأت العالم بتصميم الشعب الفلسطيني على المقاومة المسلّحة لاستعادة أرضه وتاريخه وهويته ومستقبله من المغتصب الصهيوني الدخيل الوافد من شتى بيئات اجتماعية وثقافية متباعدة ومختلفة، والمدعوم من قوى استعمارية غربية أوروبية وأميركية عسكريا وسياسيا وماديا. فقد جاءت العملية النوعية للمقاومة في قطاع غزّة التي انطلقت في السابع من تشرين الأول / أكتوبر، ورغم انكشاف النظام العربي الرسمي الذي يعيش أزماته الساخنة من حروب داخلية، وانقسامات عمودية طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية، وانهيارات اقتصادية ومالية خانقة، والذي استسلم الكثير من نظمه السياسية الحاكمة الى الاملاءات الأميركية والأجنبية، والى التطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم كل هذه الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية فقد جاءت الثورة الطوفانية (طوفان الأقصى) لتقلب المعادلات القائمة، وتمنح الأمل للشعب الفلسطيني ولسائر الشعوب العربية تجديد خياراتها على الثورة والمقاومة كخيار استراتيجي لانتزاع حريتها واستقلالها الوطني وبناء وحدتها الوطنية وترسيخ هويتها القومية.
استطاعت المقاومة في غزّة، لأول مرّة، وبمساحة سيطرة لا تزيد عن 365 كلم2، أن تجعل مسرح العمليات يغطي سائر المدن والمناطق الفلسطينية المحتلة من غلاف غزّة الى الضفة الغربية والقدس وصولا الى عمق أراضي 1948 بما فيها عاصمة الكيان “تل أبيب”، فقد ضربت صواريخ المقاومة كامل جغرافية الكيان بآلاف الصواريخ متخطية منظومة القبّة الحديدية التي لم تكن سوى منظومة ورقية سرعان ما دخلت دائرة الانكشاف والسقوط لتحدث اهتزازا عميقا في بنية الأمن العسكري والدفاعي للكيان الصهيوني.
على الصعيد الاستيطاني، أجبرت الغزارة النارية للمقاومة الفلسطينية، وكذلك المواجهات الشعبية التي خاضها فلسطينيو الداخل على كامل أرض فلسطين، أجبرت المستوطنين على الهروب الى الملاجئ وهم يرتعدون خوفا من ملاحقة الصواريخ من جهة، وهجمات الانتقام الشعبية من جهة أخرى. وإذا كانت مطارات الكيان قد أقفلت إبّان المعارك الدائرة، فإنّ عددا كبيرا من المستوطنين آثر الهجرة المعاكسة من فلسطين الى بلدان المنشأ، وبذلك، جاءت عملية المقاومة لتحدث تحولا في اتجاهات الهجرة من هجرة قسرية إكراهية كان يفرضها الاحتلال دائما، الى هجرة طردية عكسية للمستوطنين الى الخارج.
على الصعيد الوطني، أظهرت الحرب تلاحما حميميا على مستويين اثنين: الأول، على المستوى الفلسطيني تمثّل بمظهر نوعي من التلاحم الوطني على قاعدة وحدة المعركة المصيرية، وهي الوحدة التي عبّرت عنها سائر الفصائل والقوى والتيارات الشعبية الفلسطينية داخل الوطن المحتل، وأيضا في الشتات في الخارج. الثاني، على المستوى العربي، حيث تفاعلت الجماهير الشعبية العربية في غير مدينة ومنطقة، عبر مظاهرات صاخبة ووقفات تضامنية انتصارا للشعب الفلسطيني، ولمقاومته الباسلة، ولقضيته في تحرير فلسطين، وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني. فقد ربطت الجماهير المنتفضة بين دعمها ومساندتها لقضية تحرير فلسطين، والمناداة بتحقيق استقلال أقطارها من الاحتلالات والتغوّلات الخارجية، كما رفعت مطالباتها، ليس فقط بوقف عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني، بل بالخروج على هذه العمليات والغائها من أساسها.
أخيرا، كثيرة هي الدّلات الاستنتاجية تسجّلها عملية ” طوفان الأقصى”، أبرزها أربع أساسية:
الأولى، الجغرافية السياسية للكيان الصهيوني هي متحركة وغير مستقرّة، فلم تعرف الثبات والاستقرار منذ 75 عاما مضت على إعلان الكيان السياسي الصهيوني في العام 1948.
الثانية، خريطة الاستيطان وإنشاء المستوطنات باتت مرتبكة وغير قابلة للحياة والاستمرار بفعل عاملين أساسيين:
الأول، هي مستوطنات مصنّعة في برامج استيطانية احتلالية، الأمر الذي يجعلها غير متفاعلة مع الأرض، أي مع الجغرافية التي أقيمت عليها.
الثاني، هي مستوطنات متناقصة في أحجامها السكّانية بسبب محدودية التكاثر عبر الولادات الطبيعية من جهة، ومحدودية تكاد أن تكون صفرية لجهة قدوم عناصر وافدة جديدة من الخارج من جهة أخرى.
الدّالة الثالثة، أنّ هروب الحكومات الصهيونية المتعاقبة الى الأمام، من حيث رفضها لأية تسوية للقضية الفلسطينية تأخذ حقوقهم الوطنية المشروعة بقيام دولتهم المستقلة، وبعودة اللاجئين من الشتات تطبيقا للقرار الأممي (194) ، هذا الهروب لم يلغ مطالبات الأجيال الفلسطينية بحقوقهم التاريخية في الأرض والانتماء والهويّة.
الدّالة الرابعة، توجيه عملية “طوفان الأقصى” ضربة قاصمة لعمليات التطبيع العربي الرسمي مع الكيان الصهيوني، حيث أظهرت أنّ هذا التطبيع لم يترك أي صدى إيجابي عند الجماهير المليونية العربية الرافضة لاغتصاب فلسطين من ناحية، والمؤيدّة بقوّة لحركات المقاومة والكفاح الشعبي المسلّح لتحرير فلسطين وكل اقطار الوطن العربي من ناحية أخرى.
إنّ الحرب الدائرة في غزّة اليوم، هي بين محاربين مختلفين على طرفي نقيض: الأول، محارب صهيوني دخيل وافد الى فلسطين وهو غريب عن بيئتها وبدون هويّة تاريخية، والآخر، مقاوم فلسطيني متواصل مع جذوره التاريخية وانتمائه الى الأرض والتراث والثقافة والهويّة القومية لأمّة عربية مخصوصة برسالة السلام والعدالة الانسانية لكل شعوب وأمم العالم .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب