“من الجهل إلى اليقظة: كيف تشل أزمة المعرفة مجتمعاتنا”

“من الجهل إلى اليقظة: كيف تشل أزمة المعرفة مجتمعاتنا”
بقلم: المحامي علي أبو حبلة
أزمة الجهل والمعرفة هي في جوهرها أزمة فكرية وسياسية متشابكة تعصف بمجتمعاتنا. الفكر الحقيقي لا يمكن أن يولد من فراغ ولا من شعارات جوفاء بل يتشكل من خلال قراءة جادة ومتأنية تتعمق في الإبداع العقلي للإنسان وتستند إلى أسس الحرية سواء حرية الإرادة أو حرية المعرفة. أي محاولة لبناء منظومة فكرية دون الالتزام بهذه القواعد تنقلب إلى عملية تضليلية تخدم الانغلاق والهيمنة بدل أن تفتح آفاق التحرر والنهضة.
ما نشهده اليوم هو تفشٍ لما يمكن وصفه بالفلسفة الزائفة التي تتغذى على الكراهية والخصومة والسطحية وتستبدل العقل النقدي بالضجيج الأجوف. كثيرون يظنون أن فقاقيع خطابهم لآلئ من نور بينما هي في حقيقتها تكريس للفراغ وإعادة إنتاج للجهل. وهذا يتسق مع تحذير سقراط الذي رأى أن الاعتراف بالجهل هو بداية الطريق نحو المعرفة.
الجهل لم يعد مجرد نقص في العلم بل أصبح بنية اجتماعية وسياسية تعيد إنتاج نفسها عبر المؤسسات التعليمية والإعلامية والسياسية. فالخطاب السائد يفتقر إلى الرؤية النقدية ويتحول إلى تبرير للواقع بدل تغييره. وقد أشار عبد الرحمن الكواكبي منذ أكثر من قرن إلى أن الاستبداد السياسي يولد استبدادا في الفكر والثقافة وأن الجهل أداة الطغيان الأكثر فاعلية.
استعارة “التسعين” التي تجسدها العجوز الشاكية من أوجاعها تصلح رمزا لحال مجتمعاتنا. كلما تراكمت أمراض الجهل دون مواجهة نقدية فقدنا القدرة على الرؤية السليمة والسماع الواعي والفعل المنتج. ومع تراكم هذه الأدواء تتحول المجتمعات إلى كيان مترهل يعجز عن التجديد ويكتفي بتكرار ذاته. وهنا تتقاطع الأزمة المعرفية مع الأزمة السياسية إذ يصبح التخبط في إدارة الشأن العام انعكاسا مباشرا لجمود العقل الجمعي.
الأزمة لا تقف عند حدود الفكر بل تمتد إلى الواقع السياسي الفلسطيني والعربي. غياب المعرفة النقدية أدى إلى تضخم الخطاب الشعبوي على حساب الخطاب البرامجي وفتح الباب أمام الانقسام والعجز عن بلورة استراتيجية وطنية موحدة. وهو ما يشبه ما أشار إليه إدوارد سعيد حين اعتبر أن المعرفة المنفصلة عن حقيقتها الأخلاقية تتحول إلى أداة سلطة وقهر. بالمنطق نفسه فإن المعرفة حين تنفصل عن رسالتها التحررية تصبح وسيلة لإعادة إنتاج الانقسام وتبرير الجمود.
المطلوب اليوم هو مشروع معرفي تحرري يربط بين إصلاح العقل الجمعي وإعادة بناء المؤسسات السياسية على أسس ديمقراطية. مشروع يقوم على إعادة الاعتبار للعلم والبحث النقدي وتطوير مناهج تعليمية تشجع التفكير الحر وبناء فضاء سياسي يرسخ الشفافية والمساءلة بدل التبرير والتوظيف.
ما نعانيه من تخبطات معرفية وثقافية وسياسية ليس إلا نتيجة لمراكمة أمراض الجهل على مدى عقود. وإذا لم نعترف بأن أزمتنا بنيوية بقدر ما هي سياسية فسنبقى ندور في حلقة مفرغة حيث يزداد العمر وتزداد معه أمراض الخرف المعرفي. وحده الوعي النقدي المنفتح على الحرية والمسؤولية الأخلاقية قادر على انتشال مجتمعاتنا من الجهل إلى أفق التجديد والتحرر.
مراجع مختصرة:
- أفلاطون، محاورة الدفاع عن سقراط، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994
- عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1992
- Edward Said, Orientalism, Vintage Books, New York, 1979