
الرواية الجديدة والأخيرة لحمدي أبو جليّل: ديك ملك في فدّان أمّ العائلة
حسن داوود
وجَدَ حمدي أبو جليّل في روايته الأخيرة «ديك أمي» (الصادرة عن دار الشروق عام 2023 في 259 صفحة) لأمّه تاريخا فاصلا بين زمنين، على غرار ما فعل سلمان رشدي بتلازم تاريخ مولده بالتاريخ، الذي انشطرت فيه وحدة الهند وباكستان. كان ذاك، في تاريخ ذينك البلدين، يوما حاسما انشقّا فيه. أما الأم فكان على الكاتب حمدي أبو جليّل أن ينتظر يوم زواجها في ذلك اليوم من 1948 ليُلحقه بحدث تاريخي وقومي.
لكن في حدود محيطها الضيّق وعيشها فيه، يمكن أن ننسب ذلك التلازم إلى زمن تحوّلها مع أهلها من البداوة إلى الفلاحة. لقد عاشت في ذلك الزمن الانتقالي الذي تبدّلت فيه العادات والقيم. من ذلك مثلا أنه كان عليها أن تتوقف عن الاعتزاز بلهجتها أو لغتها البدوية، وتخجل بها حين تزور المدينة. وكان ذلك زمن استبدال الأحصنة بالحمير، بعد تحول البدو إلى الفلاحة بقرار كان أصدره محمد علي حاكم مصر، فإضافة إلى تغيير العلاقة بالأرض، كان على البدو أن يغيّروا من عاداتهم: «مع جيل أمي بدأ عصر الحمار، فصارعلية القوم يركبون الحمار وليس الحصان، وظهرت الحمير العالية والبرادع الحمراء المريحة والفخمة، وشاعت أيضا الأشعار البدوية التي تمدح الحمير كأنها خيول» وهذا ما كان قبل ذلك مدعاة للحطّ من الشأن.
تحوّلت أم أبو جليّل إذن إلى فلاحة تحرث حقلها وتحصده بيديها، ما جعل جاراتها يعيّرنها، متسائلات ما الذي يشغل الرجال أقاربها عن القيام بذلك العمل بدلا منها. لكن، رغم شغلها بالفلاحة، ظلّت تجد في تاريخ أسلافها القريبين ما تفخر به وتعتزّ. ثم إن تحولها ذاك لم يكن ليضعها في مصاف الفلاحين، الذين يُعتدّ بسعة أملاكهم وعلوّ مكانتهم. هو فدّان واحد آلت ملكيته إليها بعد رحيل زوجها. وكانت تعمل فيه ليل نهار، في الوقت الذي كان يصل ما يملكه بعض أقربائها إلى مئات الفدادين.
كان الشغل وحده يعطي معنى لحياتها. فمع أنها كانت تحب الانتقال والسفر، إلا أنها لا ترى معنى لذلك إن اقتصر السفر على التنزه. لا تجد طعما للخروج إن كان لغير العمل. كان زوجها بخلاف ذلك تماما، فهو ضيّع أفدنته، التي ورثها من أبيه الشاعر على ملذاته المختلفة. كانت في الأربعين لما مات، تاركا لها خمسة أولاد. وهي لم تتزوّج من بعده، وربما لم يتقدم أحد لطلب يدها لأنها، بحسب ما يصفها إبنها، لم تكن جميلة، وأيضا، لأن دافعها الأنثوي لم يكن شديد الإلحاح عليها.
كانت تكفيها الأرض، ملكها الوحيد، وما تزرعه في تربتها، وإن كان يُسرَق منه الكثير. في أحيان كانت تعرف من هو السارق، بل في إحدى المرات شاهدت ذاك الذي يملك مئة فدّان وهو يحزم زرعها لينقله إلى حظيرته، وهي اكتفت بلومه بعد ذلك. لكنها كانت ترضى بما يتبقى لها. أنشأت خمسة أولاد في ذاك البيت الصغير متحدّية الأقارب، الذين كان يمكن لهم أن يتربّصوا بها إذا ما اقترفت أيّ هفوة. وهؤلاء كثر، ففي الكتاب يوسع أبو جليّل دائرتهم مُدخلا في سيرة أمّه كل من يتصل بها من أخوال وأعمام وجيران وأبناء وبنات. ذلك لأن هؤلاء يشتركون في المواقف والحوادث التي يرويها، ولكي يعرّف الكاتب بهم، أفرد لكل منهم فصلا عنونه بإسمه: شاهين وعادل وأحمد وهالة إلخ…
هذا الكتاب خصّصه حمدي أبو جليّلأ لأمه، لحياتها التي، لقلّة المتاح فيها، بالغت بعنايتها بالديك إلى حدّ دعا إبنها، كاتب سيرتها، إلى أن يعنون كتابه بـ»ديك أمي». ولم يكثر حضوره الشخصي في الكتاب، هو الذي كان الشخصية الأولى في أغلب كتبه التي سبقت. في كتبه «الفاعل» و»لصوص متقاعدون» و»قيام وانهيار الصاد شين» وكذلك «يدي الحجرية» كتب عن حياته المتبدلة في كل كتاب، حتى لتبدو سيرته سيرة لكثيرين، بل إنه يظهر أحيانا، في «يدي الحجرية» متعددا هو نفسه في السيرة الواحدة.
لكن هناك ثيمة التنازع اللغوي الذي يتعدى التنقّل العادي بين العامية والفصحى. في هذا الكتاب الأخير يوسع حمدي أهميّة اللغة في كتابه، شأن من تعرضوا للعيش في بيئات متحوّلة، الذين سيكون عليهم أن يطيلوا التفكير بما ينطقونه. جيل أمه كان الأخير من البدو المصريين الغربيين، الذي كان يتكلم اللهجة البدوية الصرفة، فكانت لذلك غير مضطرة، فيما هي تتغنى بالأشعار، التي كان كتبها ذووها، كما بالأشعار التي كتبتها هي، إلى الشعور بأنها تعود بذلك إلى زمن سبق. أما «جيلي اللاحق عليها (فقد) فكّ (تلك الصلة). استفلح (من الفلاحة أو الفلاح) لسانه، لم يعد يتحدّث اللهجة البدوية، بعضنا يعرفها لكننا لا نصبرعليها». لكنها، مع ذلك، حاضرة في أكثر ما كتب حمدي أبو جليّل، سواء كمسألة متعلّقة بالتبدّل اللغوي واتصال الكلام بالوعي الجمعي، أو سواء كانت متعلّقة بلغته كاتبا. لم يتخلّص حمدي من تلك اللغة فهي ما زالت ماكثة في قاموسه الكلامي والتعبيري. في أحيان يخطىء في النحو عن قصد، لأنه وجد أن السياق اللفظي، أو النغمي، سيكون أجمل أو أنسب إن أزال التنوين في آخر الكلمة. وأحيانا يبدو من الصعب على القارئ أن يعيد الجملة إلى نصها الفصيح، وذلك لأنها مكتوبة بتعبير بدوي. ولحرصه على ما بقي متعلّقا في ذاكرته من تلك اللغة يُجازف بأن يشكل على قارئه فهم ما يقرأ.
كاتب لبناني