“طوفان الأقصى” بين هويّتين: فلسطينية وطنية عروبية وأخرى صهيونية وهمية ومختلقة بقلم د. محمد مراد
بقلم د. محمد مراد-طليعة لبنان -

“طوفان الأقصى” بين هويّتين: فلسطينية وطنية عروبية وأخرى صهيونية وهمية ومختلقة
بقلم د. محمد مراد -لبنان –
حتى اليوم تكون حرب المقاومة الفلسطينية في غزّة قد شارفت على الخمسة أشهر على اندلاعها في السابع من تشرين الأول ( أكتوبر) الماضي، وهي مازالت تسجّل صمودا أسطوريا ليس فقط في تصدّيها البطولي لآلة الحرب الصهيونية ومعها الجيش الذي يتجاوز عديده النظامي والاحتياطي الستمائة ألف من مختلف التصنيفات العسكرية، والذي توفرت له كل الخبرات التقنية والتكنولوجية من غير دولة من الغرب الاستعماري، وإنما في الجديد النوعي لهذه الحرب التي باتت ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الحروب العربية مع الكيان الصهيوني الذي لم يسبق له أن تذوّق طعم الهزيمة بدءا بالحرب الأولى التي اغتصب فيها نحو 79% من أرض فلسطين التاريخية في أيّار (مايو) 1948، والتي انتهت بانكسار سبعة جيوش عربية مشاركة في عملياتها، ثمّ كانت الحرب الثانية – حرب الأيام الستة (5—11) حزيران/يونيو 1967، التي أفضت الى احتلال ما تبقى من فلسطين أي الضفة الغربية وقطاع غزّة، إضافة الى إيقاع هزيمة مدوّية بثلاثة جيوش عربية لكل من مصر وسوريا والأردن، مع توسّع العدو الصهيوني لمساحات احتلالية جديدة في سيناء المصرية والجولان السورية وبعض الأراضي اللبنانية. وعندما بادرت مصر وسوريا بشنّ حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 فإنهما لم تتمكنا من قلب المعادلة لصالحهما، بل على العكس من ذلك جاءت نتائج هذه الحرب لتخدم الكيان الصهيوني على أثر انسحاب مصر – الدولة العربية الوازنة عسكريا وسكانيا ودبلوماسيا وحضورا دوليا – من قضية فلسطين القومية، ومؤثراتها خيار التطبيع في علاقاتها مع “دولة” الكيان مقابل استعادة سيناء المحتلة. وبذلك، فإنّ نتائج حرب 1973 جاءت لتخدم استراتيجية الاحتلال ولتكون أقرب الى الهزيمة من حيث تداعياتها على القضية الفلسطينية وسائر القضايا القومية المتصلة بها.
ثمّ كانت الحرب العدوانية الصهيونية على لبنان في حزيران/يونيو 1982، حيث احتلت قوات الاحتلال العاصمة بيروت وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها المسلحة الى تونس، جرى ذلك من غير أي التزام عربي بمعاهدة الدفاع المشترك المنصوص عليه في وثائق جامعة الدول العربية.
جاءت معركة “طوفان الأقصى” لتقلب معادلات كل الحروب المشار اليها، ولتفتح معادلة جديدة ومختلفة كليا من حيث التداعيات والنتائج، ليس على مستقبل القضية الفلسطينية وحدها، وإنما على سائر قضايا التحرر الوطني والقومي في الوطن العربي.
إنّ قراءة موضوعية لظروف المرحلة الزمنية التي انطلقت فيها عملية “طوفان الأقصى” من شأنها المساهمة في استخلاص جملة من الاستنتاجات من جهة، واستشراف أولي للتوقعات التي سترسم مستقبل الصراع العربي – الصهيوني والقضية الفلسطينية ومعها غير قضية وطنية وقومية من جهة أخرى.
أولا، بشأن الميدان الحربي بين المقاومة في غزّة والكيان الصهيوني
1 – المسرح الجغرافي للحرب: 365 كم2 هي اجمالي المساحة لقطاع غزّة، مقابل أكثر من 27 ألف كلم2 هي المساحة الفلسطينية تحت الاحتلال، وبذلك تكون النسبة بين حجمي المساحتين 74/1، الأمر الذي يظهر قدرة المقاومة على المجابهة والتصدي للقوات الصهيونية المهاجمة.
2 – حجم التحشيد العسكري: جيش نظامي صهيوني يفوق عديده ال 600 ألف من مختلف صنوف الأسلحة في البر والجو والبحر، مع الإشارة هنا الى اعتماد تجنيد المرتزقة أو مقاتلي العقود كما فعلت أمريكا في العراق، حيث تعاقدت مع شركات أمنية كان من أبرزها شركة “بلاك ويتر”، بالمقابل لم يتجاوز تحشيد المقاومة بضعة آلاف، لكنّهم على درجة عالية من الإعداد والتدريب وامتلاك الكفاءة القتالية.
3 – المساندة والدعم: الولايات المتحدة الأمريكية ومعها منظومة حلف الأطلسي (الناتو)، سارعت منذ اليوم الثاني للحرب أي في 8 تشرين الأول/ أكتوبر لتقديم كل ما تحتاجه “إسرائيل” من عتاد عسكري وخبرات حرب، ناهيك عن إرسال السفن والبوارج الحربية وحاملات الطائرات، إضافة الى الدعم الملياري لتمكين الصهاينة من استيعاب أكلاف الحرب المادية والبشرية. أمّا المقاومة في غزّة فهي محاصرة إسرائيليا من كل الجهات وتحت القصف الشديد والمتواصل من الجو، وهي أيضا محاصرة بصمت أنظمة الحكم العربي الرسمي التي لم تحرك ساكنا للجم العدو عن ارتكابه المجازر الفظيعة بحق المدنيين، ولم تتجرأ على التهديد بوقف أو بتعليق عمليات التطبيع الاقتصادي والدبلوماسي والأمني معه.
ثانيا، حرب طوفانيه في الزمن المختلف دوليا وعربيا
شكّلت عملية “طوفان الأقصى” هزّة زلزالية قياسية سوف يكون لها تداعياتها بسلسلة من الهزّات الارتدادية، التي من شأنها أن تحدث انقلابا في المعادلات الأمنية والسياسية والجيوسياسية، ليس على مستوى القضية الفلسطينية والوطن العربي وحسب، وإنّما على مختلف موازين القوى الدولية والإقليمية، والتجاذبات القطبية بشأن ترسيمات جديدة لنظام دولي للعالم للعقود السبعة المتبقية للقرن الحالي (الحادي والعشرين).
الأمر الملفت في العملية هو تلك الاستثنائية لحدث تاريخي يحصل في الزمن المختلف أي الزمن غير المناسب للتطورات الكمية والنوعية، التي طبعت مسارات النظام الدولي، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، واختلال التوازنات القطبية على اثر سقوط التجربة السوفياتية، على مستوى الاقتصاد والأيديولوجيا والاستراتيجيات الدولية، والآثار السلبية التي تركتها هذه التحولات على مستقبل الوضعين المتلازمين الوطني الفلسطيني والقومي العربي.
1 – على المستوى الدولي
تمثّلت التطورات الدولية في أعقاب المرحلة السوفياتية بجملة من التحوّلات المتسارعة كان من أبرزها تحوّلان عميقان مركزيان:
الأول، نشوة رأسمالية المركز الأميركية التي توهّمت بانتصارها كنمط اقتصادي وأيديولوجيا في التاريخ، فراحت تعمل على الإمساك بمواقع القوّة الجيو-استراتيجية في العالم من خلال شنّها الحروب الاستباقية كما حصل مع احتلالها لأفغانستان عام 2001، والعراق 2003، ومن ثمّ تكثيف اختراقها للمجال القومي العربي عبر وقوفها وراء سلسلة الحروب الأهلية والأزمات السياسية والاقتصادية في غير دولة عربية، وبما يستجيب لمخططاتها الاستعمارية في إلغاء وظيفة الدولة الحديثة والمعاصرة في الوطن العربي تمهيدا لقيام نظام شرق أوسطي جديد يكون بديلا للنظام الإقليمي العربي، الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويأتي تصنيعه على شكل سلسلة جديدة من الكيانات السياسية (الدويلات) على أساس الدويلة -المذهب، والدويلة-العرق، والدويلة-القبيلة فإلى ما هنالك من اشكال الكيانات ذات الولاءات الأولية على حساب الولاء الوطني والقومي، والولاء للعروبة كهويّة حضارية تاريخية لأمّة العرب الواحدة.
كان من الطبيعي أن يصيب المشروع الأميركي التفكيكي والتجزيئي للوطن العربي القضية الفلسطينية في الصميم، ويقفل، بالتالي، الطريق أمام نضالات الشعب الفلسطيني من أجل استعادة أرضه التاريخية وهويّته الوطنية والقومية.
الثاني، تسارع وتائر الاقتصاد العالمي ودخوله مرحلة العولمة الاقتصادية، التي عبّرت عنها مجموعة من الشركات القطبية العالمية (شركات بنكية ومصارف وتأمين وإعلام، وتصنيع عسكري، وأساطيل ناقلة للبترول والغاز المسال، وشركات احتكار للتكنولوجيا والأدوية والتبغ وما الى ذلك. وفي الآونة الأخيرة أفضى الاقتصاد المعولم الى توليد نسخة جديدة من العولمة الاقتصادية تمثّلت، هذه المرّة بتحكّم الشركات العملاقة في إدارة الدولة، أي في تقديم الاقتصاد على السياسة في الوظيفة الجديدة للدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى بقيام حلف اقتصادي معولم تتشارك فيه مجموعة من الدول الوازنة اقتصاديا تعتمد في سياستها الاقتصادية على ربط مناطق الثروة في العالم بممرات اقتصادية عبارة عن خطوط للتجارة ونقل البضائع عبر المرافئ البحرية، وشبكات لخطوط السكك الحديدية البرية. ففي عام 2013 أعلنت الصين عن قيام “المبادرة والطريق” (طريق الحرير)، وهو عبارة عن تكتّل اقتصادي دولي بقيادة صينية تشترك فيه 63 دولة، بالمقابل، وبعد عشر سنوات على الخط الصيني أي في العام 2023، أعلنت الولايات المتحدة في قمّة العشرين المنعقدة في العاصمة الهندية نيودلهي، عن انشاء “الممر الهندي-الخليجي-الإسرائيلي-الأوروبي”، وهو طريق للتحكّم بالتجارة الدولية، وكان من بين أهدافه قطع الطريق على الصين في وصولها الى الخليج العربي والشرق الأوسط من جهة، وإعطاء “إسرائيل” الدور المركزي في اقتصاد المنطقة الخليجية بصورة خاصّة، والعربية بصورة عامّة. وقد تفاعلت “إسرائيل” مع هذا المشروع، وراحت تسعى لشقّ “قناة بن غوريون” بين خليج إيلات على البحر الأحمر، ومرفأ حيفا على البحر المتوسط، الأمر الذي يفقد قناة السويس أهميتها التجارية من جهة، ويحرم الخزينة المصرية من عائدات مليارية من جهة أخرى.
من هنا، فإنّ الحرب الصهيونية-الأطلسية الأخيرة على غزّة، والتي مازالت مستمرة منذ حوالي خمسة أشهر، هي من بين دوافع أخرى، تهدف الى اقتلاع وتهجير أكثر من مليوني فلسطيني الى الخارج، وتحويلهم الى لاجئي شتات مضافين الى أكثر من خمسة ملايين آخرين سبق وأن شرّدتهم القوات الصهيونية في العام 1948 وما بعده.
2 – على المستوى العربي
جاءت عملية “طوفان الأقصى” في زمن عربي أقرب ما يكون في ظروفه الانحدارية والانحطاطية الى عصر الدويلات التي خرجت على السلطة المركزية لدولة الخلافة العبّاسية خلال القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد، والتي أتاحت المجال لاختراقات وتغوّلات لقوى خارجية متربّصة بالمجال العربي-الإسلامي من فارسية، وتركية، ومغولية، وغيرها.
اتخذ المشهد الانحداري العربي سلسلة من كسر وإضعاف حلقات القوّة القومية ذات التأثير المباشر على قضية التحرر الوطني الفلسطينية، وعلى تلازمها مع قضايا التحرر الوطني والقومي على مستوى المجال العربي برمته.
تعرّضت مواقع القوّة القومية في الوطن العربي الى سلسلة من الاستهدافات الاستعمارية المتلاحقة، هذه أبرزها:
1 – وقوف القوى الاستعمارية والصهيونية والرجعية المحلية التابعة وراء انفصال أول تجربة وحدوية ذات أبعاد قومية استراتيجية هي الوحدة المصرية – السورية (1958 – 1961)، التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي.
2 – إسقاط المشروع الوحدوي القومي للرئيس جمال عبد الناصر على أثر الهزيمة العسكرية في حرب حزيران / يونيو 1967، وهي الحرب التي سجّلت فيها “إسرائيل” بمساعدة الغرب الاستعماري، انتصارا على ثلاثة جيوش عربية وفي مدة زمنية لا تتجاوز الأيام الستة فقط.
3 – الحرب الصهيونية – الاستعمارية على لبنان والمقاومة الفلسطينية في حزيران /يونيو 1982، والتي انتهت بإبعاد منظمة التحرير الى تونس، واستمرار الاحتلال الصهيوني لجنوبي لبنان حتى أيّار /مايو للعام 2000.
4 – الحرب الأمريكية – الأطلسية – الرجعية على العراق الذي كان يمثّل الموقع القومي الذي يعقد عليه الرهان في الوطن العربي، والداعم الأبرز للقضية الفلسطينية. فقد كانت الحرب الثلاثينية الأولى بين منتصف كانون الثاني / يناير ومطلع آذار / مارس 1991. والثانية كانت حرب الحصار غير المسبوق في التاريخ الحديث والمعاصر للشعب العراقي، والذي أودى بحياة الملايين من الأطفال والمدنيين العراقيين على مدى ثلاث عشرة سنة متواصلة بين 1990 – 2003. والثالثة كانت الحرب الأمريكية – البريطانية التي أفضت الى احتلال العراق في نيسان / ابريل 2003، والى اسقاط نظامه الوطني، ودولته المركزية، وتشويه تجربته الرائدة في البناء الوطني والقومي، وفي التزامه القضية الفلسطينية بوصفها جزءا من استراتيجيته المركزية في الربط بين تحرير فلسطين والوحدة العربية.
5 – الوقوف الأميركي وراء اصطناع الحركات التكفيرية، التي انتشرت في غير دولة عربية بهدف تفكيك مجتمع هذه الدولة، وخلق كيانات سياسية طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية متصارعة ومتناحرة في حروب مفتوحة ومستمرة.
جاءت عملية “طوفان الأقصى” في ظل هذا الزمن الرديء الذي بات معه الوطن العربي يعاني من انكشاف مأزق التجزئة والتشظّي في ظل أزمات ثقيلة وضاغطة، كلّ ذلك من أجل تطويع النظام العربي لصالح الاستراتيجية الأمريكية من جهة، وتمكين الكيان الصهيوني من الاحتفاظ بموقع القوّة الأكبر مما يتيح له الترجمة العملية لمشروعه التلمودي التهويدي في إقامة الدولة اليهودية الكبرى من الفرات الى النيل من جهة أخرى.
ثالثا، ” طوفان الأقصى ” وإعادة تأصيل هوية فلسطين الوطنية والقومية
اذا كانت فلسطين قد تحوّلت، منذ مطلع القرن العشرين، لا سيّما مع النكبة التي عرفتها في كيانها الجغرافي الاجتماعي-السياسي على أثر الهزيمة التي مني بها النظام الإقليمي العربي من خلال إخفاقه في منعه قيام الكيان الصهيوني الدخيل لدولته العنصرية الاستيطانية الإحلالية عام 1948، وسعيه الى تهويد أرض فلسطين وانتزاع هويتها التاريخية العربية-الإسلامية، واذا كانت تحولت، بعد ذلك، الى قضية قومية مركزية راحت تتقدّم سائر قضايا العرب الأخرى، فإنّ معركة ” طوفان الأقصى ” وما أعقبها من حرب صهيونية – أطلسية على غزّة – فلسطين اليوم، باتت القضية الفلسطينية الأكثر بعدا في مدلولاتها الوطنية والقومية، وفي تحوّلها الى ساحة الاشتباك المركزي بين مشروعين متناقضين تماما:مشروع استعماري امبريالي صهوني – أطلسي تقوم استراتيجيته على إلغاء الهوية التاريخية لغزّة والضفّة الغربية وسائر فلسطين من جهة، وآخر فلسطيني تحرري وطني وقومي يكافح من أجل تأكيد هويته الوطنية وعروبته في انتمائه الى أمّة عربية تميّزت بخصوصيات تشكّلها التاريخي الثقافي والحضاري، وبرسالتها الإنسانية الى العالم.
إنّ حرب الإبادة الصهيونية المستمرة على غزّة وغير مدينة في الضفّة الغربية المحتلّة، هي حرب مدفوعة بنزعة تلمودية تقوم على إلغاء الهويّة والأرض والذاكرة لأهلها الأصليين، وإحلال عناصر استيطانية غريبة تكريسا لمقولة تزعم ” شعب لأرض بديلا لأرض بلا شعب “، هي مقولة تأخذ غزّة وكل فلسطين الى وظيفة تلمودية مسيطرة تنسجم مع نظرية ” شعب الله المختار ” لتبرير أيديولوجية التفوق الصهيوني وتقاطعاتها مع أيديولوجية الرأسمالية المتفلتة في عصر العولمة الراهنن أي عصر التنميط الأحادي للعالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، وتحويله الى تابع زبائني تنحصر مهمته في خدمة الأقوى الرأسمالي المسبيطر والمستأثر بحكم الشعوب والمتحكّم بثرواتها الطبيعية والاقتصادية والبشرية.
من هنا، فإنّ الحرب الطوفانية الدائرة في فلسطين اليوم، لم تكن في الماضي، ولن تكون في الحاضر والمستقبل، حربا دينية أو عرقية كما يطفو على سطح الأزمة بين العرب والصهاينة، وإنّما هي حرب على الأرض والتاريخ والانسان والهويّة والمصير، حرب بين أيديولوجية اجتثاثية اقتلاعية صهيونية من جهة، وأيديولوجية فلسطينية متشبّسة بأرضها وتاريخها وهويتها الوطنية والقوميةا العربية الإنسانية المخزونة بقيم العدالة والسلام من جهة أخرى. لقد أدحضت ” طوفان الأقصى ” النظرية الاسترجاعية التاريخية أي العودة الى ” أرض الميعاد ” التي حملت لواءها الصهيونية المنتجة استعماريا أوروبيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وإمبرياليا أميركيا بعد تلك الحرب، إنّ تلك الاسترجاعية ليست سوى إسقاطا أيديولوجيا لتبرير النزوع الصهيوني نحو اقتلاع شعب فلسطين من تاريخهم وأرضهم كهويّة وتراث وذاكرة، كلّ ذلك من أجل الإمساك الصهيوني – الأمريكي – الأطلسي بمركزية المجال الجيوسياسي لفلسطين بوصفه نقطة الارتكاز في المربع العربي الذي يجمع بين أرض الجزيرة العربية، وبلاد مابين النهرين( العراق)، وبلاد الشام ( سورية)،وأرض الكنانة ( مصر ) . هو المربع الذي سعت الصهيونية التلمودية لإسقاطه في قبضتها انسجاما مع طموحاتها في إقامة دولتها اليهودية الكبرى من الفرات الى النيل.
هناك هدف مركزي للصهاينة يقوم على مبدأين اثنين:
الأول، استقطاب المزيد من المهاجرين اليهود من أوروبا وأميركا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، والتوسع في مشاريع الاستيطان في كامل الأراضي الفلسطينية بما فيها القطاع والضفّة الغربية.
الثاني، اختزال حجم الكتلة السكانية العربية في كل فلسطين وتحويلها الى أقليّة مهمّشة، وذلك عن طريق الاختناق العمراني والمعيشي من جهة، وممارسة أبشع أساليب القمع والإرهاب بحق المعارضين والمقاومين للاحتلال ومشاريعه الاستيطانية من جهة أخرى. لقد أولت الصهيونية، وما تزال تولي حتى اليوم، اهتماما بالمسألتين الديمغرافية والأنتروبولوجية، ورأت في العاملين الديمغرافي والأنتروبولوجي بوصفهما عاملين حاسمين في معركة الصراع على الوجود والبقاء بين فلسطينيين متميزين بخصوبة عالية، ويهودمن ذوي الثقافات الأوروبية والأميركية التي لا تشجّع على التناسلوالتوسع في الأسرة .
إنّ المخططات الصهيونية لم تصل الى النتائج المنشودة بفعل تصدّي الانتفاضات والثورات الفلسطينية التي استمرت تقاوم مدنيا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا وعسكريا كل محاولات التهويد السياسي والديمغرافي والأركيولوجي التي بذلتها الحكومات الصهيونية المتعاقبة منذ 1948 وحتى اليوم. فقد جداءت انتفاضة كانون الأول (ديسمبر) 1988 لتؤكّد على استحالة اندماج الشعب الفلسطيني وذوبانه في مجتمع صنّع في الخارج، وهو غريب كليا عن بيئته الاجتماعية زوالثقافية والتاريخية. فاندفاع الانتفاضة رسم بشكل واضح الخطوط الفاصلة بين مجتمعين متغايرين تماما: مجتمع فلسطيني بخصوصية عربية – إسلامية، ومجتمع إسرائيلي-يهودي-صهيوني بسماته الليبرالية والحداثوية الغربية. تواصلت الانتفاضات الفلسطينية في سنوات 2000، و2010،و2014، وصولا الى الانتفاضة-المعركة الأخيرة” طوفان الأقصى “.
رابعا، ” طوفان الأقصى ” نحو دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني
إنّ النتائج التي سوف تسجّلها عملية الأقصى الطوفانية ستوجّه ضربة قاصمة للحلول التي يجري تسويقها من قبل الصهاينة والداعمين لهم من دول الأطلسي وغيرها من الدول والقوى التي تدور في فلك الصهيونية وحلفائها،فالرئيس الأميركي السابق”رونالد ترامب ” أعلن مع ” نتنياهو ” رئيس الوزراء الصهيوني عن ” صفقة القرن ” عام 2018، وهي صفقة تقضي بقيام ” دولة أشباح ” في فلسطين تبقى تحت سيطرة الاحتلال في الأمن ىوالاقتصاد والسياسة، وهي مشروع يمهّد لتنازل فلسطيني عن كامل أرض وتاريخ وهوية فلسطين، هو إخراج فلسطين من فلسطين وتقديمها فريسة للصهاينة .
يتردد مؤخراً في وسائل الإعلام الغربي والصهيوني، وكذلك في غير تصريح منسوب لمسؤولين في غير دولة أجنبية بعيدة وقريبة عن مشهد الحرب – الإبادة لشعبنا في فلسطين في قطاع غزة والضفة الغربية وحتى في مخيمات اللجوء والانتشار الفلسطيني في الشتات خارج الوطن المحتل، تكثر التصريحات المشبوهة حول مستقبل غزة وفلسطين على ضوء التوقعات الوهمية لنتائج العدوان الصهيوني في حرب على تجاوزت شهرها الثالث، هي حرب القرن الحادي والعشرين في امتدادها الزمني بين عامي ٢٠٢٣-٢٠٢٤ ، وفي فظاعة المجازر التي تجاوزت حروب الإبادة الجماعية في التاريخ البشري.
تسوّق الأبواق الاحتلالية لمشاريع ترسم مستقبل غزة ومعها كل القضية الفلسطينية وأيضاً قضية الأمة العربية برمتها. هناك من يشيع تفريغ غزة ولاحقاً الضفة الغربية إلى سيناء المصرية في ظل تفاهمات غير معلنة بين أميركا والكيان الصهيوني من جهة، ومصر وبتغطية عربية من جهة أخرى، وكذلك تهجير فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن، وأما لاجئو الشتات فيرسم لهم مشروع التوطين داخل الدول المضيفة من عربية وغير عربية.
إن الهدف الواضح من مشروع تفريغ فلسطين من سكانها يأتي منسجماً مع المشروع الصهيوني في تهويد فلسطين أرضاً وشعباً، أي تبسط الدولة اليهودية المزعومة جغرافيتها السياسية على كامل فلسطين التاريخية، ومن ثم تتبوأ هذه الدولة مركز الصدارة في الاقتصاد والأمن والسياسة والنفوذ على كامل المنطقة التي تجمع بين العراق ومصر، أي بين الفرات والنيل.
وهناك تسويق إعلامي لمشروع آخر يقضي بإعادة احتلال غزة من قبل الكيان الصهيوني، وذلك بعد تفريغها من المقاومة الفلسطينية، أي غزة وضفة غربية تحت رحمة الاحتلال الصهيوني الذي سيسعى إلى انشاء العديد من المستوطنات الجديدة في القطاع والضفة، الأمر الذي سيخنق الوجود الفلسطيني ويدفع إلى سلوك طريق الهجرة واللجوء في الخارج.
هنا يستطيع الكيان الصهيوني قلب المعادلة الديموغرافية لصالحه من حيث تفوق الصهاينة العددي على فلسطينيي الداخل، وفي وقت يتم التخلص من القرار الأممي الرقم ١٩٤ الذي يقضي بعودة اللاجئين إلى ديارهم.
إن التسويق الإعلامي للمشاريع المشار إليها ليس له أي منظورات تطبيقية في الواقع الفلسطيني- العربي، ذلك أن المقاومة في غزة والقطاع ومعها كل القوى القومية المناضلة والشريفة في الأمة العربية تعتبر أن القضية الفلسطينية ليست قضية منفصلة عن أمرين أساسيين واستراتيجيين:
الأول، وحدة النضال الوطني لكل فصائل المقاومة الفلسطينية وشعبها في الداخل المحتل وفي الخارج في الشتات. فهناك قضية وطنية فلسطينية واحدة لكل الشعب الفلسطيني، وهي قضية مستقبله في دولة وطنية فلسطينية على كامل أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وأما الوجود الصهيوني فهو وجود طارئ واحتلالي واستيطاني ليس له أي مبررات تاريخية أو شرعية أو حقوقية، وإذا كان لا بد من تحقيق سلام على أرض فلسطين فقيام دولة ديمقراطية على أرضها تبقى بهوية فلسطين العربية التاريخية بوصفها جزء من هوية قومية عربية اكتسبت تشكلها التاريخي وخصوصيتها الثقافية والاجتماعية والحضارية.
الثاني، إن أمن فلسطين متداخل ومتكامل مع الأمن القومي العربي بكليته، كما وأن مستقبل فلسطين في التحرر والتقدم والنهضة هو مستقبل تكاملي مع نضال الأمة العربية من أجل وحدتها وتحررها وتقدمها، وهذه معادلة أطلقها حزب البعث العربي الاشتراكي في مؤتمره القومي عام ١٩٦٩، عندما أطلق جبهة التحرير العربية كفصيل مسلح ربط بين تحرير فلسطين والوحدة العربية، إذ بمقدار ما يكون تحرير فلسطين خطوة متقدمة على طريق الوحدة العربية، يكون كذلك أي خطوة متقدمة باتجاه الوحدة القومية خطوة متقدمة نحو تحرير فلسطين.
إن العدوان على غزة الدائر حالياً والذي تقوده كل قوى التحالف الاستعماري الأطلسي – الصهيوني من جهة، والذي يقابله صمود وبطولة شعبنا فيها ومعه كل القوى المناضلة الحيّة في الأمة، هي حرب لن تكون نتائجها لصالح العدو الصهيوني وحلفائه الداعمين من الاستعماريين، ستكون نتائجها حتمية بانتصار فلسطين قضية وطنية وقومية، وإن شعلة النضال الوطني الفلسطيني لن تنطفئ أمام حقد الغزاة والمستعمرين والمتربصين بفلسطين والأمة من دول الخارج الدولي والإقليمي.
ستبقى فلسطين وستنتصر لأنها هي حق وحقيقة وجود تاريخي، وأن العدو والمستعمرين هم الباطل، والباطل ليس له انتصار في التاريخ، فهو دائماً كان زهوقا.
خامسا، في الدّالات الاستشرافية ل” طوفان الأقصى ”
على ضوء التطورات الدولية والعربية ذات الصلة التأثيرية على قضية الشعب الفلسطيني، وعلى نضاله المشروع لاستعادة أرضه المغتصبة وعودة لاجئيه من الشتات في الخارج، والمحافظة على هويته الوطنية والقومية، من أجل كل ذلك كانت معركة “طوفان الأقصى” استثنائية في دالاّتها من حيث النتائج التي سجّلتها بعد مرور نحو خمسة أشهر على اندلاعها، والتي سوف تسجّلها في المستقبل.
أبرز هذه الدّالات هي التالية:
1 – القدرة الاستثنائية للمقاومة دلّ عليها امتلاكها لاستراتيجية قتالية تتسم بالنوعية غير المسبوقة في علم التكتيك العسكري والمناورة والتخطيط الحربي.
2 – الصمود الأسطوري في مواجهة العدوانية الصهيونية المفرطة، والمدعومة من دول الغرب الاستعماري عسكريا وماليا ودبلوماسيا في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.
3 – حجم الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي ألحقتها المقاومة بالجيش الصهيوني، والتي أفضت الى إخراج أكثر من 30% من هذا الجيش من المعركة بين قتيل وجريح ومصاب بصدمات نفسية عصية على المعالجة. هذا، إضافة الى الخسائر الكبيرة جدا في الآليات العسكرية، والأكلاف المالية المليارية العالية للحرب الدائرة.
4 – قدرة المقاومة على اختراق غلاف غزّة وإسقاطها للعديد من المستوطنات أمنيا وعسكريا، وجعلها تحت الأمرة العسكرية المباشرة لها.
5 – كسر الحلم الصهيوني، ولأول مرة في تاريخ المواجهات والحروب العربية – الصهيونية، وهو الحلم – الفكرة التي كان أول من أطلقها نابليون بونابرت أثناء محاصرته لمدينة عكا على الساحل الفلسطيني عام 1801 بهدف ضمّ بلاد الشام الى مصر تحت السيطرة الكولونيالية الفرنسية، حيث اصطدم نابليون بمقاومة عربية – إسلامية حالت دون دخوله عكا، فقام بتوجيه رسالة الى الثري اليهودي “حاييم فرحي” المقيم في عكا، طالبا اليه المساعدة على خلخلة مجتمع عكا من الداخل، مقابل الوعد بإقامة دولة يهودية في المشرق العربي تكون مدعومة من فرنسا وعلى علاقة تحالف استراتيجي معها.
6 – تماسك المجتمع الفلسطيني سواء في قطاع غزّة أم في الضفة الغربية وفي الداخل المحتل، وكذلك في الشتات في الخارج، فقد أظهر الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج تماسكا وطنيا صلبا في وقوفه الى جانب المقاومة متعاليا على المجازر والخسائر البشرية في صفوف المدنيين، وعلى العذابات والآلام، والتشريد والجوع والقهر.
7 – استعادة الشعب العربي في سائر الأقطار العربية الأمل والثقة بانتصار المقاومة في غزّة، وفي فلسطين، وأثر هذا الانتصار على القضايا الوطنية والقومية العربية.
8 – دور “طوفان الأقصى” في إحداث الاختلالات الداخلية في مجتمع الكيان الصهيوني، وهو في الأصل مجتمع غير متجانس بيئيا وثقافيا وهويّة. فقد ظهرت داخل الكيان أزمات متعددة، منها أزمة الحكومة الائتلافية دلّت عليها الاختلافات المكشوفة بين أعضائها، وهناك فجوة الثقة بين المستوطنين وحكومة “نتنياهو”، التي أظهرت عجزها عن استعادة الأسرى الذين وقعوا في قبضة المقاومة منذ الساعات الأولى للعملية في السابع من تشرين الأول / اكتوبر من غير أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحرير أسير واحد منهم. كما تجلى الانقسام الاجتماعي بسبب تصاعد التوترات العرقية بين يهود البيئات المختلفة، الأمر الذي أفضى الى مراجعة الكثيرين لمسألة وجودهم وبقائهم في فلسطين المحتلة بعد أن كانوا وعدوا بالعيش الرغيد والرفاهية فيها، فاذا بهم يواجهون الموت والأسر والتهجير والرعب، الأمر الذي دفع الكثيرين منهم الى مؤاثرة العودة الى بيئاتهم وبلادهم الأصلية.
9 – تسجيل “طوفان الأقصى” العديد من الانتصارات غير المسبوقة، منها: الانتصار الأول مع بدء تنفيذ العملية في 7 تشرين الأول /أكتوبر، والثاني، كان انتصار المقاومة في الصمود والتصدي للعدوانية الصهيونية المفرطة في القتل والتدمير والتشريد والمحاصرة والتجويع، وهو صمود بات يقترب من نهاية الشهر الخامس على بدء المعركة، وفي الحال التي تتوقف فيها الحرب، وتنسحب القوات الصهيونية الى خارج غزة، يكون النصر الثالث والحاسم الذي سوف يجعل من المقاومة الفلسطينية أنموذجا يحتذى في المستقبل ليس في سبيل تحرير فلسطين فقط، وإنّما في اعتماده خيارا لدى سائر حركات التحرر الوطني والقومي في كل الوطن العربي .
خلاصة واستنتاجات
إنّ عملية “طوفان الأقصى” التي فاجأت العالم بتصميم الشعب الفلسطيني على المقاومة المسلّحة لاستعادة أرضه وتاريخه وهويته ومستقبله من المغتصب الصهيوني الدخيل الوافد من شتى بيئات اجتماعية وثقافية متباعدة ومختلفة، والمدعوم من قوى استعمارية غربية أوروبية وأميركية عسكريا وسياسيا وماديا. فقد جاءت العملية النوعية للمقاومة في قطاع غزّة التي انطلقت في السابع من تشرين الأول / أكتوبر، ورغم انكشاف النظام العربي الرسمي الذي يعيش أزماته الساخنة من حروب داخلية، وانقسامات عمودية طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية، وانهيارات اقتصادية ومالية خانقة، والذي استسلم الكثير من نظمه السياسية الحاكمة الى الاملاءات الأميركية والأجنبية، والى التطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم كل هذه الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية فقد جاءت الثورة الطوفانية (طوفان الأقصى) لتقلب المعاظ