ثقافة وفنون

سميرة نقروش: حياة داخل قصيدة

سميرة نقروش: حياة داخل قصيدة

سعيد خطيبي

سميرة نقروش لا تذهب إلى الشعر بوصفه نصاً، بل بوصفه حالة ومساءلة للوجود. الشعر يُحيلها إلى أسئلة والأسئلة ترشد خطاها في ترميم علاقتها بما يجري من حولها. من مطالعة أعمالها، ندرك أنها تلجأ إلى القصيدة من أجل أن تحفظ توازنها مع العالم الذي تحيا فيه. تدافع عن حريتها بالكتابة، وتميل إلى أشياء أو تنفر من أخرى حسب جماليتها. قد تبدو كتابتها، من وهلة أولى، مغامرة في التجريب، في ابتكار أنماط جديدة، أو دمج أنماط أخرى ببعضها بعضا، لكن إذا تمعن فيها القارئ فهي كذلك كتابة متصلة بكلاسيكيات الشعر. تحفظ فيها إرث من قرأت لهم، ومن فتحوا عينيها على ملامسة النص. تستثمر كذلك ثقافة شفهية، تعلي من شأن القصيدة على حساب النثر. تراهن على موسيقى في كتاباتها أكثر من مراهنتها على أشكال فنية أخرى. الحلم كذلك بوصلة نحو قصائدها. فالواقع لا تكتمل صورته في انفصال عن الحلم، بين الكلام والغناء، لا محالة أنها سوف تميل إلى الخيار الثاني. فكتاباتها تنحو نحو لحن. وقد أصدرت سميرة نقروش أخيراً كتاب «أقيم في ارتحال» (منشورات البرزخ، الجزائر 2023) وهو أنطولوجيا جمعت فيها مختارات من أعمالها التي صدرت في السنوات العشرين الماضية.
عشرون عاماً انقضت ولم تنقطع نقروش عن نحت القصيدة وهدمها، عن مخاصمتها والعودة إليها، تغادرها كي تزداد تشبثاً بها. وفي سؤال عما تغير في نظرتها إلى الشعر منذ باكورتها إلى الحين، تجيب: «لب الأشياء لم يتغير. في الشعر جوهر نتعايش بجواره وهو ما يدفعنا إلى الأمام. وذلك الجوهر يحفظ علاقتنا المستميتة بالشعر. بينما المتغير فهو النمط والشكل، وكذا الانفتاح على كتابات جديدة. على موسيقى وجمالية جديدين». على طول هذه السنين، تمكنت هذه الشاعرة الجزائرية من تجديد دمها، لم تغرق شعرها في الحنين أو في ترويج للماضي، بل جعلت منه شقاً في باب تطل منه على حاضرها، ترجو منه مستقبلاً لها. ومستقبل القصيدة أن تطور دواخلها كي لا تفقد صلتها بقارئها. سميرة نقروش التي بدأت الكتابة في سن مبكرة، وكذلك النشر، كأنها «رامبو» ضل طريقه إلى جنوب المتوسط، طورت كذلك لغتها، وذلك ما يتضح بين نصوصها المبكرة والأخرى التي تلتها، كما صدرت في «أقيم في ارتحال». اللغة هي مركبها، ليست تعرف وجهة هذا المركب، لكنها توقن أنه سوف يوصلها إلى مكان يتيح لها نظرة أشمل عن العالم الذي ترجوه.

الكتابة بالحواس

في قصائد سميرة نقروش هناك منطقة وسطى بين الشعر والتأمل، تستعين بالملموس في وصف المجرد، في وصف الحب ومآلاته، الخوف وتبعاته، القلق ومآزقه، في بعض المواضع نشعر بأنها في غضب إزاء واقعها، فتداويه بالحلم. الحلم لا يفارق نصها. لا تنظر إلى الأشياء في مثاليتها، بل في هشاشتها. وتكتب في إحدى قصائدها: «أصغي إلى ما أجهله». وتقول: «أصغي إلى تلك الدوائر التي تبعدني. وإلى ما تحتاج إليه حياة بأكملها، من أجل الوصول إليها. أصغي لما يبعدني، في الوقت والتاريخ والمكان. إلى المسافة والثقافة». إذن فهي تتنقل من الموجود إلى غير الموجود. تستعين بحواسها في الكتابة. تغامر إلى أبعد نقطة من جسدها كي تعود إلى ذاتها. نستشعر رغبتها في تحويل العالم من كلمة إلى صورة. فكل واحدة من قصائدها لا تنتهي بخاتمة، بل بفاتحة تنبئ بنص آخر يليها، كأننا في متوالية، ليست رياضية، بل شعرية. فهي تدفع بلغتها الفرنسية إلى أقصى ما تحتمل، كي تبلغ التوليفة التي ترجوها. والشكل وحده ليس هو مقصدها فيما تكتب، بل قمة مبتغاها في ما تمتلكه من أدوات في الهدم والبناء داخل القصيدة الواحدة. والجسد واحد من مفاتيح الولوج إلى عالمها، احتفاء بالجسد في حضوره وليس في غيابه، في حياته بدل مماته. الجسد بوصفه معادلاً لابتكار صورة شعرية مستحدثة. والجسد تقابله كلمة مفتاحية أخرى، هي المكان. وتضيف الشاعرة: «آمل أن تكون الأمكنة التي نقيم فيها كلها مقدسة. فالأمكنة تترجم روح الإنسان وثقافته. علاقته بالتضاريس والعمران والكائنات كلها». وتردف: «من يعبر مكاناً يعبره في سكوت ويصغي لكل ما يؤثر على فكره وأحاسيسه. يصغي إلى ما لا يراه وما لا يفهمه. هكذا هي سيرة عبور الشاعر. عبوره اليومي إلى أمكنة معتادة وأخرى لن يعود إليها». هذا الانتقال بين الأمكنة والثيمات ما جعلها تنتقي عنوانا يجمع بين نقيضين في كتابها الأخير، بين الإقامة والارتحال، فهي شاعرة مستقرة في أمكنة متحولة.

سيرة الشاعرة

عشرون عاماً من الإقامة في الشعر هو زمن ليس بالهين، فرصة لم تفوتها سميرة نقروش قصد الاحتفاء بتجربة من الشغف، وتكتب: «نتحمل وزر الأزمنة/ وزر التاريخ الذي لا نقتسمه». وكان لا بد من السؤال: على أي أساس نكتب تاريخ شاعرة؟ بناءً على قصائدها أم سيرتها؟ فتجيب: «السيرة مثل القصيدة، جزء من التاريخ. لكن إذا كانت القصيدة من النوع الشاهق، وأعني بذلك التي لها وزن، التي تحفر مكانها وتتجاوز الطبقات. تلك القصيدة ومن كتبها لا حاجة لهما إلى تصنيف. لا خشية عليهما من التاريخ المبتور. تلك القصيدة ومن كتبها جزء من الشعر» ويبدو أن سميرة نقروش مصرة على هذا الخيار. من النادر أن نصادف شاعرة واحدة، في الجزائر، حافظت على علاقة عضوية بالشعر كحال نقروش. لم تخن ما بدأت عليه ولم تلتفت إلى أشكال كتابية أخرى. لا يمكن أن نفصلها عن صفة شاعرة، أو ننعتها بغير تلك الصفة. وفي سؤال: ماذا خسرت كي لا تحيد عن هذا الطريق عقدين كاملين؟ ترد: «أكاد أقول كل شيء أو لا شيء. كل طريق له تعقيدات، ومن الأفضل ألا نفكر في الشعر من منطق ربح أو خسارة. علاقتي بالكون تنبثق من علاقتي بالشعر». سميرة نقروش المنشغلة دائماً «بالشكل والتجربة» في كتابتها، التي تمزج بين الحميمي والعام، تقول إن «القصيدة طبقات» وأنها تكتب شعرها «لمن سبقونا ولمن نسبقهم».

روائي جزائري

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب