عودة لموضوع العلم والسياسة
بقلم الدكتور يوسف مكي
في 26 أكتوبر عام 2021، نشرنا مقالا بعنوان العلم والسياسة، دحضنا فيه فرضية حيادية العلم، حين يتعلق الأمر بالقضايا السياسية. تناولنا نشأة علم السياسة المقارنة، بالجامعات الأمريكية، بالفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وأنه منذ خمسينيات القرن الماضي، انتقل من التوصيف، إلى التحليل, وقد جرى توظيف النظريات السياسية في الصراع الدائر بين الغرب الرأسمالي، والشرق الإشتراكي.
في هذا الحديث، نتناول دور مستشاري الرؤساء لشؤون الأمن القومي بأمريكا، في صناعة النظريات السياسية، وبشكل خاص النظريات ذات الصلة بالعلاقات الدولية. ونختار في هذا السياق، ثلاثة شخصيات بارزة منها. شكلت محطات رئيسية في صناعة السياسة، يجمع بينها أنها أخذت مكانها أثناء الحرب الباردة. والهدف هو كشف أدوراهم في صياغة علوم السياسة المقارنة، ونظريات العلاقات الدولية.
أثناء احتدام الحرب الباردة، ومع الانتصارات الباهرة التي حققها السوفييت، بأوروبا الشرقية، وانتصار الثورة الصينية، وخلال تولي دوايت أيزنهاور للرئاسة الأمريكية، برز الدور المتطرف لعضو الكونجرس الأمريكي، جوزيف مكارثي، الذي روج لوجود عملاء شيوعيين، بالجامعات الأمريكية، وأن بعضهم تمكن من تحقيق اختراقات كبيرة، في هرم السياسة الأمريكية. وطالب بتصفيتهم، وتطهير المجتمع منهم. وتعاونت وكالة التحقيقات الفيدرالية، مع مشروعه. وسادت بالولايات المتحدة، حقبة من القهر والاستبداد، عرفت بالمكارثية، باتت في القاموس السياسي تعبيرا عن سياسات القمع ونشر الكراهية ومعاداة الرأي الآخر.
بوصول الرئيس الأمريكي، جون كنيدي، عام 1961م، برزت مرحلة جديدة، بالسياسة الأمريكية، قوامها التسامح، والتبشير بالديمقراطية. وكان الشاب الطموح الذي وصل إلى البيت الأبيض، قد عين المنظر السياسي، والت روستو، مستشارا لشؤون الأمن القومي.
عرف والت روستو، وهو النموذج الأول، ضمن الشخصيات الثلاث التي أشرنا لها، بنظريته، “التمدين” modernization والتي اشتهرت بنظرية المراحل، بيان غير شيوعي، تمييزا لها عن المنفستو الشيوعي الشهير. وخلاصة نظريته، أن العالم بأسره، يتجه نحو التمدين، وأن النظام الديمقراطي على الطريقة الغربية، سيسود العالم بأسره. وما يهم في هذا السياق، أن نظرية المراحل، باتت ولا تزال ضمن النظريات التي تدرس في كليات الدراسات العليا، منذ تأسيس العلوم السياسية المقارنة، في الغرب، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
الشخصية الأخرى، هي هنري كيسنجر، أمريكي طموح، حال أصله الألماني، وكونه متجنسا، دون ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة. وبرز نجمه مع وصول الجمهوري، ريتشارد نيكسون للبيت الأبيض، حيث عين مستشارا للرئيس لشؤون الأمن القومي. وتسلم فيما بعد وزارة الخارجية. ولعله الأكثر شهرة، على الإطلاق بين الأمريكيين الذين تسلموا هذه الوظائف. فهو مهندس العلاقة بين الصين وأمريكا، وهو قائد المفاوضات لإنهاء الحرب الأمريكية، في الهند الصينية، وهو أيضا عراب التسوية التي أدت إلى فك الارتباط مع “إسرائيل” على الجبتهين المصرية والسورية، بعد حرب أكتوبر عام 1973م. وكان هو المؤسس لنظرية القوة، التي باتت جزءا من النظريات التي تدرس في مبادئ العلاقات الدولية.
تركز نظرية القوة، على الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الولايات المتحدة، في قيادة العالم. إن على أمريكا أن تؤكد بشكل مستمر، قوتها وقدرتها على الهيمنة على العالم. ولا ينبغي في هذا السياق، أن تخضع حروبها لمعايير أخلاقية وأسباب واقعية لكي تشن حروبها. إن عليها أن تخوض الحرب لكي تؤكد أنها الأقوى، وحسب. ولذلك لا يرى كيسنجر ضرورة للحروب الوقائية أو الدفاعية، بل إن الحرب تشن لذاتها، وللتعبير عن قوة أمريكا وهيبتها. وقد عرفت نظريته، في العلاقات الدولية، بالواقعية، وهي أبعد ما تكون عن ذلك.
النمودج الأخير، هو زبغنيو بريجنسكي، وهو أمريكي من أصول بولندية، وتسلم منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، في عهد الرئيس جيمي كارتر، الذي بنى برنامجه الانتخابي على إشاعة الدبمقراطية في العالم. وعرف عن بريجنسكي نظريته القوة والمبادئ. والعنوان يشي بمعارضته لنظرية القوة التي صاغها كيسنجر. فالبنسة له، ينبغي أن تكون القوة في خدمة المبادئ، ولا تحيد عنها. بمعنى أن استخدام القوة، ينبغي أن يتم وفقا لمعايير أخلاقية، لا تحيد عنها. وقد كان لبريجنسكي دور كبير في المفاوضات التي جرت بين مصر وإسرائيل، في نهاية السبعينيات، والتي قادت إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد. وقد باتت نظريته في القوة والمبادئ، ولا تزال جزءا من النظريات التي تدرس في مجال العلاقات الدولية.
وهكذا لم تكن النظريات السياسية فحسب في خدمة سياسات القادة الأمريكيون، بل كان منظروها جزءا من الأجهزة التنفيذية، وفي خدمة مباشرة لهذه السياسات.