مقالات

التطبيع.. الدولة العربية، جدلية “المصلحة” والثقافة بقلم اياد البرغوثي

التطبيع.. الدولة العربية، جدلية “المصلحة” والثقافة

بقلم اياد البرغوثي

أحد الدروس المستفادة من “غزة”، أنه ثبت وبدون اي شك، أن “التطبيع” قوي وعميق أكثر مما كان يعتقد حتى أكثر المتشائمين “تطرفا”. لقد استطاع ذلك التطبيع، اجتياز “امتحان” غزة بنجاح باهر، فلم “يحرك” قتل عشرات الالاف من الفلسطينيين، وجرح أضعافهم، وتشريد أضعاف أضعافهم شعرة في جسد المطبعين، ولم يظهر عليهم أي نوع من التردد أو الخجل.

التطبيع.. الدولة.. المصلحة

هذا يشير بوضوح، الى أن التطبيع مصلحة “حقيقية” لكل أطرافه، أمريكا وإسرائيل والدول العربية المشاركة فيه. هو ليس نقصان معرفة، ولا قصور في الوعي، ولا سوء في التقدير، ولا “تكتيك”، ولا حتى اضطرار. انه خيار واع مستند الى ادراك “خاص” للمصلحة.

انه- أي التطبيع – مصلحة أمريكية لاعتبارات استراتيجية، تجعلها في وضع يتيح لها قدرة أكبر للتأثير على الصين وأوروبا وبقية العالم. انه في غاية الأهمية لأمريكا في سياق “محاولتها” اعادة ترتيب العالم، أو الحيلولة دون اعادة ترتيبه بشكل لا ترضاه، فالعالم العربي بالنسبة لأكبر قوة مهيمنة في العالم (امريكا)، هو ليس اكثر من لعبة مربعات” ليغو” تفككه وتعيد تركيبه كما يحلو لها، وإسرائيل أداتها الأساسية في ذلك.

والتطبيع مصلحة اسرائيلية ايضا لاعتبارات الاقتصاد والسياسة والأمن، وقبل كل ذلك لاعتبارات الوجود “القلق” و”الاشكالي”. ورغم الأهمية الكبرى لتطبيع اسرائيل مع الدول العربية، أظهرت “غزة” أن امريكا اكثر حرصا منها على ذلك، فكان من ضمن “المآخذ” الأمريكية على اسرائيل في حربها على غزة، أنها قد تؤثر سلبا على التطبيع مع السعودية، التي هي بالنسبة لأمريكا اكثر اهمية من غزة بما لا يقاس.

لا غرابة في أن التطبيع بين اسرائيل والدول العربية مصلحة أمريكية اسرائيلية، لكن وجود بعض الغرابة في أن يكون ذلك “مصلحة” للدول العربية يبدو أمرا مشروعا، نظرا للعلاقة “الملتبسة” بين اسرائيل وتلك الدول منذ نشأة الطرفين.

لقد كشفت غزة عن أن كثيرا من الدول العربية لا تقل حرصا على التطبيع من اسرائيل، وتعتبره مصلحة حقيقية لها. يعود ذلك لاعتبارات تتعلق بجوهر الدولة ونشأتها، وكذلك لمصادر الشرعية لأنظمتها، والتي يعود اغلبها لعوامل خارجية اكثر من أي شيء آخر، وهذا ما يفسر إدارة الظهر لشعوبها في أغلب الأحيان.

كما أن السلطة الفلسطينية ترى أن التطبيع مصلحة مباشرة لها، وهي تعلن ذلك ولا تخفيه، بل قامت بمأسسته وتشجيعه وتبنيه. هذا مفهوم ايضا لنفس الأسباب التي وردت بخصوص الدول العربية، اضافة الى الارتباط المباشر بوجود السلطة كمؤسسة وكأفراد بالرضا الاسرائيلي.

ازالت “غزة” أي لُبس حول التطبيع عربيا، كونه اصطفافا استراتيجيا مع امريكا والغرب وإسرائيل، وأنه ليس اكثر من قراءة للمصلحة، ليس لها علاقة بالتحرر من قريب أو بعيد. لم يعد ممكنا ولا ضروريا “الادعاء” أن العرب إنما يطبعون من أجل فلسطين والفلسطينيين، وأن التطبيع سيضع الدول المطبعة في وضع أفضل “لمساعدتهم”. غزة فرز تام وواضح ونهائي لمن يقف مع الضحية أو مع قاتلها.
المصلحة والمعتقدات في السياق العربي- الاسرائيلي
اذا ما استثنينا الفترة الناصرية التي ساد فيها الانسجام (أو هكذا بدا) بين رؤية الدولة لمصلحتها، وبين ثقافة الأمة المتمثلة في المباديء والأفكار والمعتقدات والتصورات التي سادت في تلك الفترة، فإننا نلاحظ اضطرابا في تلك العلاقة، نتج أساسا عن عدم وضوح (وحتى إخفاء)، للمصلحة الحقيقية “للدولة” العربية (لنظامها)، ساعد في ذلك، حقيقة أن مجرد وجود مصلحة للدولة (كما للفرد) إنما يقع في خانة “العيب” في الثقافة العربية.

لذلك كانت “الدولة” العربية تخفي مصلحتها “الخاصة” عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، باعتبارها جزءا من المصلحة “العربية” العامة المنسجمة مع ثقافة الأمة، والتي تتلخص “بإنهاء الاحتلال والوقوف الى جانب الشعب الفلسطيني”. كان ذلك لأن ثقافة الأمة كانت في وضع تستطيع فيه ردع الدولة عن الإفصاح عن مصلحتها المغايرة.

في هذه الحالة (عدم الإفصاح عن المصلحة الخاصة) للدولة العربية، بدا لنا أن الذي يحدد السياسات العربية تجاه القضية الفلسطينية هي ضوابط “اخلاقية” تتمثل بالمباديء والأفكار والمعتقدات التي تترجم عموما بالوقوف مع الشعب الشقيق، ضد المغتصب الصهيوني المجرم والماكر والمخادع.. وإذا احتجنا، الكافر ايضا.

لكن “ضرورة” التطبيع أمريكيا واسرائيليا، وما اقتضاه من “ضرورة” الانخراط العلني به عربيا، أظهر أن هذه المنطلقات “الفكرية”، وهذه الثقافة المتمثلة بالأخلاق والمباديء والمعتقدات والحديث عن الأشقاء والأمة والاحتلال والتحرير واليهود والكفار والاستعمار، باتت عبئا على “الدولة” العربية، وعائقا أمام سياساتها، ومربكا لخطواتها، فكان لا بد لها من الذهاب إلى امرين: الأول، التصريح بأن هناك مصلحة واضحة للدولة العربية في الانخراط في التطبيع، والثاني العمل على “فك الارتباط” مع ثقافة الأمة والمعتقدات والأفكار والمباديء والمنطلقات التي سبق وأن بُنِي الموقف التقليدي من القضية الفلسطينية، ومن “اسرائيل” على أساسها، أو في ضوئها، وبناء ثقافة دولتية خاصة بالحالة الجديدة المتمثلة بالتطبيع.

لست متحمسا للموافقة على أن “غزة” اعاقت التطبيع الدولتي العربي مع إسرائيل، بل ربما دفعت “الدولة” العربية لتكون اكثر “جرأة”، وأقل تحفظا ( حياءً) في الحديث عن “مصلحتها” في المضي فيه. رفعت الدولة العربية نبرتها في الحديث عن مصلحتها الخاصة “القطرية”، وأوضحت أن تلك المصلحة في التموضع مع امريكا وإسرائيل، ضد “عدو” جرى استحداثه حسب الوضع الجديد.

كانت “المصلحة” الدولتية العربية قد أُخفيت لتتلاءم مع طبيعة “العدو التقليدي ( اسرائيل)، ومع “الثوابت” الفكرية المنسجمة مع ذلك. لكن تلك المصلحة في صيغتها الجديدة المرتبطة بالتطبيع، وبالكف عن اعتبار إسرائيل عدوا واستبدالها بـ”العدو” الجديد (إيران)، تطلبت تدشينا لثقافة جديدة ومعتقدات جديدة تستطيع الانسجام معها والاطمئنان لها.
تغيير المعتقدات

لم يكن التعايش “المصطنع” بين مصلحة الدولة العربية المطبعة والمعتقدات السائدة الرافضة له مريحا، لا للغربيين والاسرائيليين الذين اعتبروا أن ذلك يعطي انطباعا بعدم جدية تلك الدولة في تطبيعها، ويحمل امكانية التراجع عن الخطوات التي يريد الغرب وإسرائيل التقدم بها في هذا المجال، ولا للأنظمة العربية التي “تعبت” من “التظاهر” بتبني ثقافة ومعتقدات تمحورت حول الرفض المطلق لإسرائيل تبنتها شعوبها لكنها لم تكن يوما جدية في تبنيها.

تطلب هذا الانقلاب الثقافي عند الدولة العربية عدة خطوات أساسية تتعلق بها نفسها، من حيث رؤيتها للفكر وللتاريخ وللدين والتراث، ثم بموقفها “الفكري” من فلسطين وإسرائيل. فبصورة عامة، ذهبت الدولة الى “الانفتاح” و”الحداثة” و”الليبرالية” الاجتماعية، على اعتبار أن الفكر التقليدي المستند الى الموروث هو السبب وراء “الرؤية” التقليدية المؤيدة للقضية الفلسطينية.

الحداثة عند الدولة العربية تعني الاقتراب من اسرائيل والابتعاد عن فلسطين. وإذا أردنا أن نكبر الصورة قليلا، فُهِم الأمر وكأن الحالة الذهنية التي جعلت السعودي (على سبيل المثال) يتمسك بمنع المرأة من قيادة السيارة، هي نفسها التي جعلته يقف الى جانب فلسطين، لذلك فإن التغير الفكري الذي حدث وأتاح للمرأة السعودية قيادة السيارة، ينبغي أن يقود تلقائيا الى تغيير التوجه حيال فلسطين. هذا يعني أنه أُريد للعربي أن يفهم أن تأييده لفلسطين لم يكن اكثر من حالة تراثية.

يتطلب الوضع الفكري الجديد للدولة العربية المُطَبعة، قلب الصورة “القديمة” التي صبغت فلسطين بشيء من القدسية، وشيطنة اسرائيل كدولة معتدية ومغتصبة، فتم الذهاب الى شيطنة الفلسطينيين وتبرئة اسرائيل من جرائمها. صار مألوفا أن يظهر مثقف عربي على “شاشة” خليجية يُسَخف المقاومة الفلسطينية، ويُحَملها مسؤولية الجرائم المرتكبة في غزة على سبيل المثال، ويصف الفلسطينيين بالتخلف وبالارهاب والاجرام، ويذهب بعيدا في القول بتخوين الفلسطينيين الذين “تخلوا” عن أراضيهم.

كما تطلب التطبيع وعيا جديدا ايجابيا باسرائيل، يركز على استثنائيتها من حيث هي دولة “حديثة” و”متقدمة” و”ديموقراطية”، و”ضحية” أيضا. وحيث هي كذلك، فإن على الفلسطينيين أن يتفهموا سعيها للحفاظ على “أمنها”، وعلى “تفوقها”، وأن يتفهموا أن ما يسقط من ضحايا في صفوفهم ليسوا سوى ضحايا “عمل” المتسبب الأساس فيه سوء تقدير قادتهم.
لا بد هنا من التأكيد أن اتفاقية أوسلو و تأسيس السلطة الفلسطينية لم تقسم الفلسطينين سياسيا فقط، انما فكريا أيضا فيما يتعلق بوعيهم باسرائيل و بقضيتهم الفلسطينية، وكان ذلك في بعض جوانبه أساسا استند عليه المطبعون العرب، حكومات و أفراد.

ليس التطبيع الدولتي العربي مع إسرائيل مجرد خيار سياسي تتطلبه المرحلة. انه اعادة صياغة للحالة العربية كلها، وسياق مختلف عن كل ما عرفناه سابقا، انه استبدال كامل لكل المنظومة الفكرية والقيمية… انه باختصار تام، وبوضوح تام، الدخول الكامل في الحالة الصهيونية.

التطبيع – مصلحة أمريكية لاعتبارات استراتيجية، تجعلها في وضع يتيح لها قدرة أكبر للتأثير على الصين وأوروبا وبقية العالم

صحيفة القدس  www.alquds.com/ar/posts/119686

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب