ثقافة وفنون

«غناء في الطريق إلى المقبرة» مجموعة الشاعرة السورية أفين حمو: الصور المجهرية وبناء النسق الجامع

«غناء في الطريق إلى المقبرة» مجموعة الشاعرة السورية أفين حمو: الصور المجهرية وبناء النسق الجامع

في ديوان «غناء في الطريق إلى المقبرة» للشاعرة السورية أفين حمو نجد شعرية تتعاظم على كل التجليات السابقة، في الابتعاد عن التابوهات المعهودة، وعن اللغة الشعرية المنتشرة، خاصة فيما يتعلق بالكتابة النسوية إذا تمت الموافقة على شيء كهذا. فنصوص المجموعة تصنع لغتها في ابتعادها عن الشائع والمتشابه مع آخرين، وذلك بتوليد رموز ذاتية داخل متخيل أكبر، ببعدها عن التأطير الجاهز. ففي كل نص هناك تفرّد بنائي، ينفي النمطية الجاهزة، وليس هناك موضوع وحيد يمكن الإمساك به بشكل مفرد، فهي شعرية تتكوّن من التعدد والتجاوب بين مناح متداخلة.
تتمثل جدة المقاربة في هذه المجموعة في خروجها عن الشائع والمعهود في تكوين الصور الجزئية أو المجهرية، ويتمّ ذلك وفق مستوى أعلى، في محاولتها التفلّت من أي مؤسس جاهز، بل على العكس تنفر منه من خلال الإصغاء إلى صوت الذات في توليد مساحات جديدة من الارتباطات. وثمة جزئية أخرى لا ترتبط بالمؤسس الشعري السابق، ولكنها أيضا – أي النصوص – تحاول أن تتفلت من الخارجي الأجنبي الدائم الحضور في قصيدة النثر العربية.

الصور المجهرية والاكتناز الشعري

لا تقف إضافة النصوص في هذه الجزئية عند حدود التصور البسيط الخاص بضمّ كلمة إلى كلمة، لكن ذلك يتمدد لإضافة تواز صوري له من الجدة والطرافة الكثير، ويشكل نوعا من إعادة الارتباط وفق شكل جديد، فكأنه يمثل خيانة للمعجم، وللتراكم المعهود في التصوير، بما يخلقه من خلخلة للثابت والمستقر، وإعادة البناء مرة أخرى.
هي ذات حافلة بالموت، موت السكون والثبات، موت الانعتاق من الأمل والحلم، فحين يقول النص الشعري في تصوير المشبه به (مثل حفنة تراب على سرير- لا ترغب بالوقوف- لم تعد ترنيمة الحياة تحرّك عواطفها- قطار الخريف يمرّ عل سريرها- الكل غادروا من جهتها- ما زالت ساكنة بلا لون- بلا حلم- بلا أفق- هكذا- امرأة تشغل حيّزا من الفراغ- كومة تراب بارد على سرير في المستشفى) يدرك القارئ أنه أمام موت خاص تشكله كلمات، تتحوّل إلى رموز، أو على الأقل إلى هالة دافقة بالدلالات كاشفة عنه.
في بعض نصوص الديوان يجد القارئ أن هناك مساحة من الحرية في إسدال توليدات جديدة للكلمات، وتكتسب فيه مدى واسعا. وهذا التوجه لا يتولّد إلا من خلال شعرية تستطيع أن ترصد العلاقات الخفية بين الأشياء، وتعطي للجمع بينها مساحة من المشروعية فنيا، لأن القارئ للوهلة الأولى قبل صناعة أو تشكيل سياق خاص، يجمع ويذيب هذه التناقضات الخفية بين الأشياء، يشعر أن هناك تحديا متعمدا للعقل، لأن ما يقدمه النص الشعري من ترابطات لا يستجيب، أو لا يتشكل إلا في إطار استحضار منطق شعري خاص. ففي نص (الأشياء ونقائضها) سوف يتوقف القارئ أمام التقابلات بين (الدودة –والفراشة) و(المهر- والطائر)، (الزنبقة-والدمعة)، و(الوجنة- والتوت) و(أشجار الحور- والنساء العاشقات)، و(السنديانات-وشاهدات القبور)، و(الإنسان- والسفاح).
هذه الترابطات الجديدة مؤثرة في نصوص الشاعرة وتجليها، خاصة في ظلّ وجود سمة أخرى، ترتبط بالكثافة، فليس هناك أية مساحة للزيادة أو الترهل البنائي، ساعدها على ذلك قصر النصوص في الغالب إلا في نموذجين أو ثلاثة. فهي شعرية مقطّبة البناء محكمة، لا مساحة فيها لفائض بلاغي، نراها تتحرّك على الخيط الواهن بين الحقيقة والخيال في نص (زهرة الخشخاش)، وهو توجه مهم في منطلقات شعريات سابقة، بل مع كل شعرية. تؤدي الكلمات أو الرموز المرصودة مدى دلاليا يرتبط بالانفصال والاتصال، وهذا يجعلها وثيق الصلة بالمنزع الأساس الخاص بأزمة الشاعر، أو بأزمة الإنسان في عمومها، في ارتباطه بحيز محدد مغلق منته متلاش، وتورطه نظرا لبدايته الأولى بحيز أبدي منفتح، وتوزعه بين السياقين يجعله دائم التعاظم على محدوديته، وعلى نهايته المحتومة بالتلاشي والنقصان.
فالبناء المحكم في ظل الكثافة يتجلى في العناية الفائقة بمحو الزائد، والإبقاء على الجزء الحي شعريا، وتحريكه وتقليبه وفق صور ذهنية، على نحو ما يمكن في نص (ندبة في سريري)، فهناك استجلاء للندبة المؤرقة، ويتوازى معها في شكل بنائي الثورة، وكأن أي قسيم منهما رصد للآخر واشتغال عليه. فالندبة- وهي تشير إلى أشياء عديدة- مستمرة، لم تؤثر فيها الثورة التي تؤثر في طبيعة الأشياء، وفي وجودها وتراتبها، فهي في وجودها واستمرارها شبيهة بالوجود القهري المستمر الذي لا يتأثر بحوادث فاعلة. فالندبة في المقطع الأول استمرار، والوجود البشري زائل منته، ولهذا نجد المقطع الثاني يتحرّك لإسدال هذا الاختلاف في قوله (قد أموت الآن- وأنا أراها وحيدة- قد لا تموت غدا).
والحفاظ على الكثافة أو الاكتناز الشعري أو التعبير المحكم تولّد في الأساس من أفق النصوص الشعرية، وارتباطها بمنطلق أساس لكل الفنون، وهي جزئية وضع الإنسان الوجودي والمأساوي داخل العالم والوجود بوصفه شرطا لكل فن حقيقي. والنصوص الشعرية تحافظ على هذا الانفتاح بين الذاتي المتلاشي والمتعالي الذي يمكن أن يكون المقدّس في أعلى حالاته، ويمكن أن يكون الشعر أو الفن في بعض تجلياته، لأن به جزءا من الديمومة والأبدية. يتأسس ذلك بشكل جلي حين يتوقف القارئ أمام نص (تصوغ فلسفة الليل)، حيث تأخذ الصور المسدلة على ذلك المتعالي التي تأخذ بعدا فاعلا في حياة المتعبين والدراويش الحيارى، في انتثارهم تحت قبّة السماء العالية، وتعطي إطار خاصا للمقدّس الذي تتوجه نحوه الكائنات على اختلاف أنواعها وأشكالها. ولكن الذات تطلّ برأسها في المقطع أو الجملة الثانية من النص التي لا تنفصل عن الأولى، بل تأتي داخلة في إطارها لتأسيس وجود ذي خصوصية.
في ظلّ هذا التوزع تكتسب الكلمات والأشياء معاني قد تكون متباينة مع المعهود، فالموت الذي يمثل النهاية يرتبط بالبداية والحياة. فالموت- في المنطق العادي المعهود مثل منطق الحانوتي وبائعي الأكفان والعطور في نص غناء في الطريق إلى المقبرة- يرتبط بالظلام الذي يصطاد الفراشات، ولكن هذا الموت يتحول – في نهاية النص بعد استعراض لحظات الاحتضار وما ينبعث منها من زخّات شهب وصليل أصوات مجنونة، وما يرتبط بها من طقوس من حضور النسوة، ووقوف الجدة بجوارها تملّس على شعرها ماسحة العرق، وحضور الكتاب المقدس بيدها- إلى هالة من الضوء:
«لكنني الآن محاطة بالكثير من الضوء
أضع قدمي الحافية على وجه الحياة
فلم أعد مؤهلة للوجود هنا
ولا أحتاج أن أمسك بيدي المعمدان
لأقطع الجسر وأصل مبتغاي
سأغني الآن للطريق
وتعلو الدهشة موكب المشيعين
فراشة خضراء
متوهجة مستلقية على ظهر التابوت
وتغني للطريق إلى المقبرة».
المقاربة والنسق الجامع

نصوص الديوان نصوص متعددة الطبقات البنائية، لا يتجلى الجزئي فيها بشكل منفرد ووحيد، لكنه يتجلى بشكل متضافر ومتداخل مع جزئيات أخرى، لمقاربة ذات منفتحة على(نوع) بيولوجي أو جنوسة، أو على عرق، أو على إشكاليات سياسية كبرى. فكل هذه الجزئيات متلاحمة الأطراف متداخلة، وتتجلى بشكل خفي يحتاج إلى الوقوف الحذر للكشف عنها. فالنصوص تذيب هذه الموضوعات داخل نسق عام، حتى يمكن القول ان هناك نسقا جامعا يتحكم في الخطاب الشعري، وفق وجهة نظر حاضرة في الاختيار وطبيعة المقاربة.
في نص (أنا والشاهد) ثمة مقاربة شعرية تستند للثقافي في إشارته (للنسوي)، ولمرحلة (الطفولة)، وللقهر الذي يجمع بينهما مقابل (الذكوري)، بما يحمله من شدة وضغط، حيث يقول النص (رجال قريتي مملون جدا بجلافتهم). ففي النص هناك جمع بين (المرأة المتسولة) ومساحة الطفولة العمرية من خلال عدد من التوازيات، مثل تسوّل الشحاذة التين والنجوم، وجمع الأطفال للثعالب والنجوم، في مقابل النسق المهيمن الجامد الذي تتجلى قسوته وجلافته في توبيخ شيخ الجامع للمرأة بسبب جمعها للحجارة خلف جدار المسجد. فجمع الحجارة يمثل للمرأة المتسولة تعاظما على الجوع والوحدة، وصناعة سردية خاصة بها، فكل حجر لديها كاشف عن سردية تمنحها اسما. ولكن هذا السلوك عند شيخ المسجد يمثل خرقا للنصاعة الجوفاء الشكلية.
لكن النص الشعري في رصده للهزيمة والانزواء لدى النسقين، لا يقف عند سياق المنتصر، بل يشير إلى وسائل ينتقم بها الهامش، أو تنتقم بها المرأة، على حد تعبير النص الشعري:
«جمعت الحجارة الصغيرة
جففتها كحبات العنب
خبأتها خلف حائط المسجد
لتنال البركة
لطالما وبّخني شيخ الجامع
لذا
أخذتها إلى قبره بعد موته
ليوزعها على فقراء العالم السفلي».
يرتبط النسق الجامع بالمنظور وزاوية الرؤية في مقاربة نثار الواقع والانتباه إليه، في اختياراتها للطفولة بما لها من اندياحات بين الواقعي والخيالي جزء مهم من عملية الرصد الشعرية والفنية، يتجلى ذلك في قصيدة مثل (تأقلم)، وقصيدة (بيت الطفولة)، وغيرهما من القصائد. وفيها تبدو مساحات الاهتمام واضحة، ومساحات الانحياز. والانحياز للطفولة انحياز لتداخل العوالم، وانحياز للفن، فشعرية الديوان قائمة في الأساس على الانحياز للمتخيل، وإعطائه المشروعية الكاملة المحفوفة بالموثوقية في التواجد والتأثير. ففي قصيدة (مترو) يرتبط النسق الجامع بالبعد عن النمطية العامة والتوجه نحو الذاتي شديد الخصوصية الذي يرتبط بالمتخيل في سمته الأعلى. ففي هذا النص لن نجد العلاقات مشدودة للنسق المعهود، وإنما نراها مشدودة للحظي والعابر، حتى فيما يتعلق بمشاعر الحب والعشق.
يتكرّر هذا الارتباط بالعابر واللحظي، وبالشمس بوصفها شيئا متعاليا، تحيط بالجميع، وتجمع بينهم. فالبحر في نص (تلويحة) (أرسل موجة ناعسة- لتألف وقع ضحكتها- وهي تتأوه ملّوحة للشمس بمنديلها- بما يشبه الاعتذار والرجاء- ليكون بوصلة لسفن العابرين إلى ضفاف آمنة). وفي بناء النصوص للنسق الجامع هناك إصغاء للصوت الخاص، فليس هناك تلمّس للتشكيل الجاهز، وفي سبيل ذلك تترّك النصوص للقارئ إشارات توجهه نحو العمق الفكري، واستيلاد معان ودلالات ليست مرتبطة بالسطح. في نص (في حفرة سوداء) هناك طبقة أولى مرتبطة بالموت، سواء موت الفتاة أو الفتى والتجاور في الدفن، ودلالة أخرى ترتبط (بالذكورة) و(الأنوثة) في امتدادها الزمني، ولكن التأمل الدقيق سوف يفضي بالقارئ إلى وجهة مغايرة، لا تخلو من الموت، لكنه مشدود إلى نسق فكري خاص.
وثمة إطار فكري يشكل نسقا جامعا للمقاربة في نصوص الديوان، يرتبط باندياحات وتداخلات بين الظل/ الشاعر، والمقدّس المحبوب، والأمل الإنساني، وكلها إطارات لا يتمّ حسمها لإطار دون آخر نظرا لطبيعة البناء الشعري. فالنسق الجامع يشكل جذرا للحركة، ولمساحة الاختيار، في عنايتها بالهامشي والعابر والظل، والجنون الذي يعدّ في بعض نصوص الديوان- مثل نصوص (شوق راكض لاحتضان الكون)، و(ضوء يلوح لي)، و(جنون)- أداة فاعلة في تجلية الروح للوصول إلى أبديتها بفعل الطيران والتحليق.
أفين حمو: «غناء في الطريق إلى المقبرة»
دار التكوين، دمشق 2024
131 صفحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب