ثقافة وفنون

مات المؤلف… عاش الراوي

مات المؤلف… عاش الراوي

سعيد يقطين

المؤلف في العمل السردي الذي يقوم بإنتاجه من لحم ودم، لكن الراوي الذي يختاره لتقديم المادة الحكائية (القصة) من خلال الخطاب، أيا كان الضمير الذي يوظفه، من ورق، حتى إن كانت له هوية محددة، ومميزات خاصة. قد يقول قائل قد يكون الراوي شخصية حقيقية، كما نجد مثلا في السرد المجلسي، أو في الساحة العمومية، وهذا صحيح لكن هذا الراوي «الواقعي» و»الحقيقي» ليس سوى راو لما ينقله إلينا من حكايات وقصص انتهت إليه عن طريق السماع أو القراءة. وحتى عندما يسرد لنا شيئا وقع له هو ذاته، فإنه يفعل ذلك في ضوء الصور التي تشكلت لديه عن الراوي، كما هو في المتخيل الجماعي: إنه يستعير لغته، وتقنياته في تقديم العمل السردي، وقد صار «تقليدا» (Doxa) شائعا وجماعيا.
يبدو لنا ذلك بجلاء في العبارة التقليدية في السرد الشفاهي العربي: «قال الراوي» حيث لا يذكر اسمه، إلا في المرويات الحديثية والتاريخية والأخبار التي تسند إلى شخصية محددة لإعطائها طابع المصداقية، من خلال تحديده مصدرا للمادة المقدمة. أما في ما خلا هذه المرويات فصيغ الأداء مثل: يُحكى، حُكي، زعموا، يُروى، بلغني، تدل دلالة خاصة على صوت سردي له خصوصيته في الثقافة العربية، تماما كما نقول: قال الشاعر، من دون أن يكون هناك تحديد لمن تنسب إليه الأبيات المعروضة.
لقد سبق أن بينت أن «الراوي صوت ثقافي يختزن الذاكرة الجماعية» وأنه: «أقدم من المؤلف، حسب تصوري: إنه مثل اللغة التي هي سابقة على الكلام، فالراوي يمثل اللغة في تعاليها، أما المؤلف فمتكلم يمتح من اللغة بما يجعله يتفاعل بها مع غيره، ويوظفها في سياق معين بهدف الإبلاغ، أو التأثير في الآخر. أرى أن محاولات الدفاع عن مقولة «موت الراوي» بهدف استعادة صوت المؤلف على غرار ما كان ذلك سائدا قبل ظهور السرديات، الذي تدافع عنه باطراد سيلفي باترون، وألان راباتيل، لا علاقة لها بالسرديات، وإن ادعت باترون أنها تسعى إلى تجاوزها من أجل سرديات ما بعد كلاسيكية. إنني من منظور السرديات أؤكد أن من يموت حقا، لأنه كائن حي هو المؤلف، وليس الراوي. لقد مات هوميروس، كما مات الهمذاني وسيرفانتيس. والكثير من الروائيين يموتون دائما، لكن الذي يبقى من إنتاجاتهم، هو رواتهم الذين اختاروهم لتقديم موادهم الحكائية.

لماذا يختار الكاتب في مختلف رواياته رواة مختلفين في تقديم مادته الحكائية؟ ولماذا يوظف مرة راويا ناظما غير مشارك في القصة، وفي أخرى يفضل راويا فاعلا مشاركا فيها؟ ولماذا ينوع رواته بأن يجعلهم متعددين تارة، وبضمائر مختلفة، وطورا يوظف راويا وحيدا.

إن الموت الذي نتحدث عنه لا علاقة له بالموت الذي يُردَّد في الكثير من الدراسات، ومن بينها موت الراوي. فهذا الموت معناه نفي لتصور سائد، وإحياء لآخر نقيض. نعني بالموت الطبيعي الذي يطرأ على جميع الخلق، لكن الذي يبقى من المؤلف بعد موته، هو عمله السردي من خلال مختلف مكوناته الرئيسية، ومنها الراوي، أي الصوت الذي اختاره المؤلف لتقديم مادته الحكائية، لا يمكننا عدّ الكتاب الذين قدموا لنا أعمالا سردية في تاريخ البشرية، لكن الرواة الذين اختاروهم لتقديمها، محدود جدا.. وقد عملت السرديات الكلاسيكية على تقديم صنافة جامعة لمختلف الأصوات السردية الموظفة في السرد. هذه الأصوات نجدها مشتركة بين مختلف المؤلفين، وكل واحد يوظفها بطريقته الخاصة. إن تطوير السرديات الحقيقي يمكن أن ينظر في كيفية تطور الرواة، وأدوارهم في تاريخ السرد، أما ادعاء موت الراوي فليس سوى إيقاف مبتذل للنظرية، بزعم أن المؤلف يتواصل مع قارئه من دون هذه الوساطة.
كنت قد فكرت وأنا أشتغل بتحليل الخطاب الروائي، وانفتاح النص، أن أتناول الراوي في تجربة نجيب محفوظ، بهدف النظر في كيفية تطور الرواية عند الكاتب، لكن القرار الذي كنت قد اتخذته للانتقال إلى البحث في السيرة الشعبية دفعني إلى تأجيل التفكير في الموضوع. وقد مكنني البحث في السيرة الشعبية من إعادة النظر في الراوي بالرجوع إلى الأصول المتعلقة به في التراث العربي، ودفعني إلى الاقتناع بأن الراوي صوت ثقافي تختزنه الذاكرة الجماعية. ولعل تناول هذا الموضوع من زاوية معرفية كفيل بجعلنا نحدد الصلة العميقة بين الراوي واللغة، والعلاقة بين المؤلف والكلام.
لماذا يختار الكاتب في مختلف رواياته رواة مختلفين في تقديم مادته الحكائية؟ ولماذا يوظف مرة راويا ناظما غير مشارك في القصة، وفي أخرى يفضل راويا فاعلا مشاركا فيها؟ ولماذا ينوع رواته بأن يجعلهم متعددين تارة، وبضمائر مختلفة، وطورا يوظف راويا وحيدا. ويمكن طرح الأسئلة نفسها عن الضمائر الموظفة، سواء تعلق الأمر بضمير المتكلم، أو الغائب أو المخاطب، فردا كان أو جماعة، ولما كانت مقولة الراوي تفرض وجود المروي له المختلف عن القارئ الذي يتوجه إليه المؤلف، ما هي الصنافة التي يمكن تقديمها عن المروي له داخل الخطاب؟ هذا النوع من الأسئلة يسهم في تطوير النظرية عكس التصور الذي يعيدنا إلى ما قبل السرديات؟ إن المؤلف، أي السارد، ينتج خطابه السردي وفق خطاطة سردية عامة تجعله أمام راو ومروي له، لأنه ببساطة ليست عنده صورة محددة لقارئ معين. وستظل شهرزاد الراوية حية أبدا مثلها في ذلك مثل شهريار.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب