أمل الكردفاني – ممشى الولد والكلب- قصة قصيرة
ولكن إلى أين؟ وهذه الأرض تحتي مستديرة العود الأبدي، وصبية الضباب يلعبون ويضحكون، وهم يمثلون مسرحيات ألفريد جاري: “أوبو أوبو أوبو”.. والسحاب يلف النمل المجنح ويلاحق الحصى الملساء فوق كتب السحرة.
“إن تكن عبثية، فلتكن حتى النهاية، حيث يسقط ظل اللاشيء أمام أعيننا الجافة”.
يقول الولد الشقي وهو يجر كلبه من ياقة القميص. تعال وادخل في لباسي السفلي لتعض الكرتين النرجسيتين.
لكن الكلب ينفض ياقته وينبح بالفزع ويمشي قربه هادئاً منكس الرأس ولسانه يلحس الأسفلت الأزرق.
لم يتوقف صبية الضباب عن الظهور على جانبي الشارع الضيق وهم يرقصون الكرانكا الخضراء. ويصيح الكلب: “من علمكم رقصة الشياطين هذي” وعيناه تتسعان ولكنه لا يترك جر لسانه على الأسفلت الأزرق.
“سينقطع الغناء لتعيش وحيداً” وتتموج بعدها كتل الظلام البنفسجية أمام بصري.
#سيقتلونك
هاشت..ا..
وهذه لغة جديدة على الجاموس البري. فيترك القطيع رعي العشب ويرفع راسه وخطمه إلى السماء متشمماً.
“هذا هو القديم”
“تماسك”
“لا تسقط”
وصبي ضباب يمثل في الكولوسيوم واضعاً قناعاً من الثلج القديم.
“إنها إشاعات.. إشاعات فقط.. مجرد إشاعات يا حبيبتي.. وروما.. ليس بها مترو أنفاق حتى الآن.. منذ جستن الأول وهم يتداولون أمرهم”.. ثم استبدلوا المترو بمدونة القانون ليعلنوا بداية نهايتهم.. بداية موتهم..
حينها يعود قطيع الجواميس البرية للرعي مرة أخرى. وتعبر بين أجسادهم الهزيلة ريح حارة من الجنوب.
إن كان عبثاً فليكن حتى الموت.. لأن حبك لم يكن مجرد أكذوبة إبريلية يا ذات الشعر الأحمر..ويرى الكلب لهباً فوق قمة حصاة صغيرة ويرى انعكاس صورتي على لحائها الأصفر الأملس فيلتفت وينظر إلي. يظل يحدق في وجهي ويعود ليحدق في صورتي على الحصاة. يلعق لسانه بحركة دائرية محترفة ثم يجره على الأسفلت.
“كن بخير”
…
ويحكي الولد للكلب قصة رعب فيموء كالقطط..
“يُدخِلون الشاليموه داخل كرة العين ويمصون سائلها الذهبي”.
يعوي الكلب ويتلوى على بطنه.
لو تزوجتَ من شابة صقلية، لها تاريخ عربيد كالشهب، تعطيك حناناً وتعطي زنجياً جسدها لتبلغ كمال متعة الحياة. أليست خنفساء البحر تعبر بين الأصداف، وتمد ساقها المثيرة لتتحسس برودة مياه الشاطئ. ثم تقول: “وَي وَي”.
يضم الكلب فخذيه وينحني للوراء. متلفتاً حوله حتى لا يراه أحد. فيراه كل الناس.
ويدوس حذاء الولد فطراً برياً فتفوح رائحة عفنة.
“مثل مراوح الورق عند الأميرات”.. تتدلى غلالات حمراء من آبار النفط الصحراوية العابرة على جسد الصقلية ذات الشعر الأحمر.
إنها تعطي قبلة لكل من يسأل.
“قبلة في الفم؟”
يلتفت الكلب ويسأل بدهشة.
“قبلة في الشفتين الحمراوين”
ويرفع الولد قبعته ويخلخل شعره بأصابعه الصغيرة ثم يعيد القبعة إلى رأسه.
“وما المانع؟”
“لا ولكن..”
ويبدو الكلب حائراً ويجر لسانه على الأسفلت..
هناك من يعيشون داخل الصفر. وداخل الصفر عالم من اللبن الأبيض والجواميس السمينة والأعشاب الطويلة ذات النهايات الدبوسية الطرية. وحلوى بالونات حمراء وصفراء وزرقاء. ينزع الولد سبيبة من لحيته متألماً ويعض جانب لسانه فيصرخ ويبكي ويلوح بكفه الأيسر وكفه الأيمن يحيط بفكه من أسفل.
إنها أوساخ.. اوساخ.. يجمعونها في المساء لتجمعها سيارات النفايات من أمام المنازل في الصباح. أو العكس.
“ولنسمه ممشى الولد والكلب”
ويحاول الكلب الضحك لكن تشريح خطمه لا يساعده فيكتفي بلحس التراب.
إنها غابة من ذكريات. ولها وظيفة ما. ربما تكثيف الوحشة. ولكن ما وظيفة الوحشة؟ وجحر النمل المجنح يغرق في ماء الحمام.. رائحة الصابون الغريبة تمرق بسرعة بين الخنادق الإبرية المتشعبة. ويهرول العدو من مواجهة الموت.
عشر دقائق هنا وعشر قائق هناك.. جنود هنا.. جنود هناك.. أن كانت عبثية فلتكن حتى النهاية..
…
روكو.. الولد الأسود ذو الشعر الزبيبي الموزع على مساحات متباعدة فوق راسه يأكل الموزة بقشرها.
“إنني نادراً ما أتغوط”
وبالونات وجنتيه تنتفخ. ويلعق الكلب لسانه بحركة دائرية محترفة كعادته ويتخيل أن راسه خلف مؤخرة كلبة من النوع المهجن بنطفة كلب بوليسي.
“لماذا؟”
“لا أعرف.. ربما لكي تتملكني فأنا كلب والخضوع عادة الكلاب”.
ثم يتابع بأنفه فراشة تدور عكس دوران لسانه. والولد لا يهتم بها بل يواصل أكل الموز بقشره.
“لتكون الأرض نظيفة”.
لا تنخفض الطاقة أبداً إلا أثناء حزن عميق. والحزن وهم كسائر المشاعر. ولكنه حقيقي التأثير.
“لا تكن مخنثاً وتتابع الفراشات”
يخجل الكلب ويطأطئ رأسه مثل أولئك الذين يحبون الفلسفة.
الغابات هامدة رغم موجات عابرة ومتفرقة من زقزقة العصافير. وثلاثة أسِرًَة ملقاة قرب بحيرة. الأسرة الخشبية للأسماك الطائرة وعروسين. والكرسي الوحيد لسيد الغابة. وهناك هاتف محمول واحد فقط لا صاحب له. وفي الجانب الغربي معسكر لمليشيات متمردة تشرب وتسكر وتنام. لأن التمرد لم يعد يجدي. “لا شيء يجدي”. يقول القائد المرابط تحت شجرة السرو ذات الزيت الطيار.
أنني أشتاق لصبية الضباب. أشتاق لعبثهم وضجيجهم. ولن يغير موتهم من ذلك شيئاً. فسينمون في خريف ما. أرسم إيموجي ضاحك بدمعة واحدة على الخد الأيسر. وتكبر البكتريا على الأرض وتصبح بأحجام ضخمة لأنها تعرضت للتهميش. من قال أن التمرد لا يجدي؟
يطلق جندي رصاصة على الآخر فينتبه القائد ويعود للنوم مرة أخرى.
تغيب الفراشة ويشعر الكلب بالأسى. وينهض الولد ليمشي فيتبعه الكلب ويقفز لينفض التراب العالق بمؤخرة الولد العارية.
“احترس”
يعود الكلب لجر لسانه على الأرض.
“إنها ليست عبثية يا روكو.. إنها ألم”
“فليكن”
ويشير إلى ثمرة جوافة صفراء في أعلى الشجرة
“انظر”
ينتابهما شعور بالرغبة في الضحك والشجا في نفس الوقت.
“ستكسر ذراعك”
“أصمت”
ويعتلي أغصان الشجرة
“من هو سيد الغابة؟”
“أنت؟!”
” بل القرادة”
يسحق ثمرة الجوافة بيده الصغيرة
“دائماً القرادة”
…
تزحف القرادة فوق الكرسي، وتحاول أن تملأه بجسدها دون جدوى. مع ذلك ولهذا السبب تحديداً؛ ستظل سيدة الغابة.
ويتصنت قطيع الجواميس البرية لأصوات الملاعق والشوك البرونزية وهي تتصادم مع صحون الخزف الصيني الفارغة. وتتحرك لأعلى وأسفل للأمام والخلف. على مائدة مستطيلة طويلة، أطول من مائدة العشاء الأخير، وتتخيل الجواميس الخبز المقدس ينمو بين الأصابع المتقيحة.
“المرأة تملأ حياتك دون أن تكون معك.. إنها معجزة بيولوجية..”
“عجباً ايها القائد”
يطلق القائد طلقتين أعلى رأسه وتفر الطيور من شجرة الزينة، فتسقط هدايا عيد الميلاد. ويسمع الكلب صوت الطلقة فينصب أذنيه ويئن لوهلة والولد منشغل بإخراج الدود من ثمرة الجوافة.
“سأخلع قبعتي فالجو حار”.
ينهض الكلب قافزاً فيرفع الولد راسه عن الجوافة:
“إنهم صبية الضباب!!!”.
يبقى القائد وحيداً وقد قتل جميع رجاله، لقد سكروا وقتلوا بعضهم بعضاً فجمع قناني الخمر ودفنها في الأرض وبنى فوقها سقيفة من بقايا شجرة السرو الوحيدة في الغابة.
“سأحافظ على كنزي الصغير”
وقهقه مغتبطاً وهو يغِلم، فتطاير اللبن الأبيض على كرشه المشعرة وغط في نوم عميق، ليرى أمه تقف وعلى يدها سوط من جلد الجاموس البري وهي تلومه بنظرات حزينة.
“سأصطاد السمك بديدان الطمي”
غير أن أمه تظل تحدق فيه بقسوة.
ويتمنى لو أنه كان يحلم.
“هل جربت الدخان؟”
يغمغم الولد ويرد الكلب نافياً.
“ولا انا جربت الدخان”
ثم ينهض ويهرول ليتبعه الكلب وهو يلعق لسانه بحركة دائرية ثم يجره على الأتربة فتلتصق به بقايا أوراق الأشجار.
وعلى البحيرة تتوزع ملابس العروس والعريس الداخلية فوق السريرين. ويبدو أن الإنسان يصطنع معاركه الخاسرة باستمرار لكي يشعر بالحياة ثم يندم عليها. فعلى ملاءة السرير ثلاث وردات جافة، حمراء وصفراء ووردية. وخاتمان من ذهب، على أحدهما ألماسة صغيرة جداً. شفافة ومعادية للفوضى. فليكن عبثاً.
لقد وجدهما القائد وقد شنقا نفسيهما فوق شجرة السرو فدفنهما بعيداً وظل يتذكر فخذي العروس السمراء اللامعة ولكنه يخشى وجه أمه اكثر.. لذلك شرب كثيراً تلك الليلة وشاركه القمر المستدير بكأسين ،أو ثلاث من غلالات الضوء الأبيض المزرق. كان كل شيء يعصف بالقلب بلا رحمة.
“سنبحث عن آكل النمل ذو الأنف الطويل”
ذلك أن الأشقياء لا ينقرضون بسرعة. وتنزع الجدران صمتها وتصرخ عارية. جدران من الهواء والنار. كل شيء يغلي على مرجل الزمن. وسيصبح الولد عجوزاً يوماً ما، والكلب يموت عما قريب إن لم يكن الكون كرتونياً بأكمله، فالمسألة كلها إذاً عبث كوهم الوسواس القهري.
إن الأشياء مُعطى وهدف. ويمرِّغ آكل النمل خرطومه في الأتربة ليمتص نمل الغابة المجنح. وكذلك يحشره في بقايا ثمرة الجوافة فيشم رائحة أظافر الولد الملوثة فيعطس ويبتعد بسرعة.
“تقدستِ أيتها الأفخاذ اللامعة”
ويرسم شارة غريبة فوق جبهته ثم يجرع من الزجاجة ويضرط وترتخي أطرافه وينام. كل ذلك دفعة واحدة لأن أشهر السنة وأسابيع الأشهر وأيام الأسابيع وساعات الأيام تبددت كالعدالة. وحين يتدحرج ظرف الرصاصة النحاسي الفارغ فوق الحصى وتلتهب ذروة الحصاة، يحدق الكلب في وجهي وفي صورتي على لحاء الحصاة السميك الأملس مرات ومرات بدهشة.
“كن بخير”
ويترنح ضوء العين الزجاجية، ينسحق الطين تحت الحذاء العسكري. وتحت ظل القمر. تهجم سحابات على بعضها وتلتحم في معركة ينتصر فيها الكل ويقفز صرصار الليل مختبئاً داخل ثلم جذع التاريخ. أنفاس محبوسة وأعين حزينة ومتوجسة.
“من هناك؟”
“سأطلق النار”
ويخرج هيكل شاب نحيل،رافعاً يديه.
“لا أملك سلاحاً”
وعلى حافة سفح الجبل العالي، جلس الكلب والولد يراقبان النجوم وهما لا يعلمان شيئاً عما يدور أسفلهما على بعد مئات الأمتار.
“انا جندي”
“تابع لأي مليشيا؟”
“وهل في أفريقيا من يحفظ اسم المليشيا التي يتبعها يا سيدي القائد”
“حسنٌ.. ومن كان عدوكم؟”
“لا أعرف.. لقد أجبروني على حمل السلاح”..
“أنت تكذب”
“بل أقول الحقيقة لا أملك ما أخشى عليه.. لقد قُتل جميع أفراد أسرتي”
يتسرب بين الرجلين حب خفي، وحزن خفي، وتوجس خفي، ومستقبل خفي. ويمتطي الخوف ظهر يعسوب مقدس تنحلُّ روحه الشفافة على كون أحدب الأنفاس. عشوائية هي حياة اليعاسيب التعيسة. وتقول الأسطورة أن قصة حب دامية بين يعسوب وفراشة هي التي أفضت إلى تحريم اليعسوب افتراس الفراشات على نفسه. انتحرت الفراشة على لهب الحصى الصفراء حين تأكدت بأن سرعة حبيبها لا تسمح لهما بالوصال. وقالت أساطير أخرى بأن الفراشة انتحرت لأن اليعسوب أحب الحية، لذلك تراه يتبع الثعابين والأفاعي في كل مكان. ولكن اليعسوب بريء من كل تلك الإشاعات. كان مجرد حشرة بائسة. لا أكثر ولا أقل. وبما أنه كذلك فقد نال قداسة التعساء؛ كعازف كمان بلا جوقة.
ويتسرب ضوء برتقالي من النافذة مهشمة الزجاج مرتمياً على طاولة بها عشرات من علب مساحيق التجميل. ومرآة تعكس أعين اليعسوب الكبيرة ورأس الولد والكلب.
لا تسألينني لماذا. إنك تبحثين عن سبب؛ اليس كذلك؟ وهذا أكثر صعوبة من الصمت. فلننه كل هذه الفوضى. فليس بالحب وحده يحيا الإنسان. ولنصعد إلى شجرة السرو ونشنق نفسينا يا حبيبتي. إنني مستعد لأن أفعلها وحدي. وهنا حيث تحفنا الغابات فإننا سنُنسى كحزن قديم.
“سأمسح المساحيق عن وجهي أولاً لأكون صادقة مع الموت كما كنت صادقة مع الحياة والحب”.
“دعيني أغسل قدميك الجميلتين قبل ذلك كما فعل المسيح مع تلاميذه فالفرق بين الواقع والخيال هو الجهل”.
“فلنتضرع إذاً”
“من تحبينه عليه أن يكتفي بعبادتك”.
وتتبعثر القصص الصغيرة الملونة في ريح الشمال كجسد الإله بان كو.
أولئك الذين يتوصلون إلى وحدة الوجود، لا يحسدهم أحد.
ويمد الولد يده المرتعشة فيمسك بأحمر شفاه ويتأمله، يشمه ثم يعيده إلى مكانه.
– كانت تعيش امرأة في هذا الكوخ المهجور.
يلعق الكلب لسانه بالحركة الدائرية: تضع مساحيق كثيرة!!!..
– ليس بالضرورة أن تستعملها كلها.. يحب الإنسان امتلاك خيارات كثيرة في حياته..
– لماذا؟
رفع الولد بصره ورأى صورته والكلب على المرآة:
– ربما ليشعر بأنه حر.
ثم غادرا الكوخ ليبحثا عن آخر صبية الضباب.
وليل الصيف الحار يرضع من ثدي شمس غائبة. مثل شاعر الحب. فهذه المنمنمات تلتصق بصخرة سوداء تلطمها امواج المحيط بعنف فلا تنزلق عنها. تلمع الصخرة كلما غسلها ملح الماء، تعكس بلورات الملح ضوء الصحو الكسول. ويلف ساحر سمكة بخيوط النحاس. ويتلوا تعاوذيه الشيطانية. فالإنسان إما هوائي أو مائي أو ترابي أو ناري. وتدور المروحة فوق رأسه ببطء فينطلق دخان البخور راقصاً وحاملاً الكائنات الروحية على ظهره. “لكن.. لا شيء يحدث يا امرأة الإنسان” فهنا حيث تحط النبوة -ويشير إلى قلبه- ينمحي الخير والشر، لأن الرجل يترك أباه وأمه ليلتصق بامرأته. ويسمي ذلك زواجاً. ويرى ذلك حسن. فتتدحرج ثمرة الجوافة المحشوة بالديدان تحت أقدامهما العارية.
“ساصطاد السمك بديدان الطمي”. ويتاملها البربريان بتعجب. وخلف الأكمة يختبئ الكلب الشقي الذي سيموت قريباً كقربان للعبث.
تحمر جمرة الطُّباق.
“أين وجدتها؟”
“جندي ميت”
ينهض القائد ويحفر الأرض ليخرج زجاجة خمر.
“هاك إذاً”
ففي عالم الأرواح لا شيء بلا مقابل.
“هناك إذاً مسرحية أخرى تكتب هناك”.
وتمثلها فرقة إسخيلوس من صبية الضباب المقنعين. حيث كانت المرأة ترعى الأبقار في ذلك الكون المغاير. لذلك كان الشباب يخشون الزواج من راعية.
وينحرف الممشى نحو قرية الألف حانة. حيث يقطن كل السكان داخل حاناتهم. وتخلو الطرقات من المارة. أما في المساء فتتحرك عربات الحمير محملة ببراميل الخمر والنبيذ لتتوزع على القرى المجاورة تقودها فتيات صغيرات بدينات من كثرة أكل لحم الخنزير وعلى رؤوسهن بواريك الشعر الأحمر ليقلدن الصقلية.
وتابعهن الولد والكلب بنظرات خالية من المعنى. وأدركا أن المغامرة الإنسانية تنتهي عند الخمر والنساء، فلهث الكلب ولعق لسانه بالحركة الدائرية المحترفة، أما الولد فقد رفع قدمه اليسرى وتبول على جدران معبد مهجور. ثم غادرا بأسرع ما يكون، لترتفع إلى السماء فقاعات الصابون، ورائحته المثيرة للغثيان حين تمتزج برائحة التراب ورائحة الشمس الصيفية. ويمتد الممشى الرملي وعلى جانبيه أكوام من نفايات الحرب: الدبابات ذات الأنف المكسور، والمدرعات الضاحكة، والخوَذ المتبوِّلة، وحديد ينبت كعشبة الشيطان في كل مكان. وتحت ركام الحديد يحفر النمل المجنح أخاديده العميقة فتتكوم مخاريط التراب كأهرامات البشر القدماء. وفي الداخل يتناقلون أخباراً لا قيمة لها سوى البحث عن الطعام. متجنبة الخروج إلى السماء حين تمطر نترات الأمونيا.
“أنظر”
ويشير الولد إلى ورقة كبيرة. ويقفز الكلب ليثبتها بمقدمتيه.
“هل ترى الصور؟”
ويمضيان يوماً سعيداً في مشاهدة الصور على الصحيفة الصفراء.
“يصنع البشر أشياء عجيبة”
يقول أحدهما. وينبهر الآخر. ويتشكل مثلث من الطيور فوق راسيهما عابراً بسرعة دون أن يرياه.
يرفع صبية الضباب أذرعهم ويوسعون ما بين أقدامهم ويُرعشون أكفهم ويقفزون على ذلك الوضع يمينا ويسارا، ثم يدورون حول أنفسهم وتصيح جدران الهواء “كرانكا.. كرانكا أوب زيلي.. كرانكا أوب زيلي”.. وتضحك الفتاة الصقلية ذات الشعر الأحمر وهي تمسك بطنها لتحجز إنسياب دمائها الزرقاء من ثقب السُّرة. وما يمكن أن يطلق عليه أيض الأحاسيس بلا تردد، فإن كانت عبثية فلتكن كذلك، لتنبعث عفونة الإنوجاد القسري من كل مسامات بين الخلايا.
“تعبت وتعب لساني”
لكنه يواصل طاعة طبيعته، فيلعق الأرض بمساميرها وحديدها وأظرف الطلقات النحاسية الفارغة ونترات الأمونيا. فتلسعه ويدور حول نفسه كالمجنون.
“هوو.. توقف..”
وتستعر الحركة الأولى من سيمفونية شهرزاد. وتنتفخ أوداج النافخين على الأبواق. ويسير كورساكوف داخل نهر نيفا حتى يبلغ الماء كتفيه ثم يختفي رأسه تحت النهر تماماً. يرقص الشرق الأقصى بالأوسط وبموت كلب إفريقي فوق لغم. وفي الغرب يجلس الرجل ذو القبعة المرتفعة والشارب المعقوف والابتسامة الصفراء ورسغ يده اليمنى فوق ركبته اليسرى المعقوفة فوق الركبة اليمنى والغليون على كف يده اليسرى.
“ستموتون”
تبرق عيناه.
ويختنق الكلب من ربطة عنقه فيحاول نزعها بلا أمل في النجاة.
ويهرول الجندي والقائد تحت ظلال الأشجار حاملين قناني الخمر، وهما يأملان أن يفلتا من الموت وأن يتزوجا من ذوات البواريك الحمراء ويقتنيا جواميس برية وينجبا ولداً ليرعى مع كلبه أحلاماً ماتت في صيف ما.
(تمت)