صلاح بوسريف: كل المشاريع الثقافية الكبرى في المغرب أجهضت
صلاح بوسريف: كل المشاريع الثقافية الكبرى في المغرب أجهضت
حاوره عبد العزيز بنعبو
«الغموض الثقافي» بهذه العبارة اختصر الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف المشهد الثقافي المغربي، في حديثه عن حال الشعر والشعراء والأدب والأدباء. الفكرة نفسها يتقاسمها معه عدد من المثقفين صحيح أنه قليل، لكنه مؤثر بحكم وزن الأسماء، التي لم يعد يعجبها واقع الممارسة الثقافية في المغرب، خاصة في ظل ما سمي بـ»أزمة اتحاد كتاب المغرب» كمؤسسة أولا حاضنة للفعل الأدبي والإبداعي، وكسقف يأوي مختلف الأقلام التي تمارس شغب الكتابة بكل تلويناتها من شعر ورواية وقصة ونقد وبحوث أكاديمية وتأليف مسرحي.
الأسئلة في باب هذا «الغموض» كثيرة ومقلقة بالنسبة لطارحيها، ومن جهتنا وجهنا بعضها للشاعر بوسريف، نستأنف من خلالها فتح النقاش السابق حول وضعية اتحاد الكتاب، وخروجه من نفق الأزمة.
الفاعلون في المشهد الثقافي المغربي منهم من يرى أنه عبارة عن نهر يجري ماؤه بأنشطة متنوعة ومختلفة، ومنهم من يقول إن الأمر يتعلق ببركة راكدة، بل قد يكون الماء قد أصبح أسودَ من كثرة الركود، كما قال بوسريف متحدثا لـ«القدس العربي». بالنسبة للشاعر صلاح، فإن المسميات يجب أن تكون واضحة وأن تقال بكل صراحة وجرأة، وهو ما دأب عليه، وإلى اليوم يمارس المكاشفة بقلم الناقد تارة، والشاعر تارة أخرى، ويبحث في الأغوار بقلم الأكاديمي الباحث عن الحقيقة والدارس للمفاهيم، لذلك تجد مؤلفاته وقد توزعت بين المجاميع الشعرية والدراسات النقدية ذات البعد الأكاديمي، معه نسافر في هذا البوح الثقافي لنسمع صوتا بصم على الحضور المميز في المشهد الثقافي المحلي والعربي:
□ بداية هل لنا أن نسأل عن حال الشعر والشعراء والأدب والأدباء وحال المشهد الثقافي عموما في المغرب؟
■ في المغرب، هناك ما يمكن أن أسميه بالغموض الثقافي، عموماً. وهذا الغموض والتشويش والالتباس ينعكس على الشعر، وهو أحد أسباب ما نراه من تراكمات في النشر، حين تقرأها، لا تجد فيها إضافةً، أو أفقاً شعريّاً جديداً ومُغايِراً، بمعنى أنّ هذا التّراكم، بدل أن يفرز قيمة ما، وأن يضعنا أمام تجارب، لا كتابات، فقط، كما هو حادث، فهو أصبح عائقاً أمام هذه القيمة، ومن يكتبون عن هذا الشعر من نقاد، أغلبهم ساهموا في هذا الوضع، ونقدهم، هو نوع من رَدِّ الجميل، والإطراء، وهو نقد غير مفيد، بل ليس نقداً على الإطلاق، لأنه سبب من أسباب هذا الغموض والتشوش والاختلاط. حين تنظر إلى ما يجري من لقاءات ثقافية، وشعرية، تجدها، أيضاً، دون قيمة هي الأخرى، لأنها مجرد «أنشطة» كُل شيء ينتهي فيها بانتهاء النشاط. لا سؤال، ولا فكرة، ولا قضية، ولا نقاش يُتِيح الذَّهاب إلى جوهر اللقاء، طبعاً إذا كان في اللقاء، بحدّ ذاته، جوهر، خصوصاً أنَّ الأشخاص أنفسهم هم من يتبادلون الميكروفونات والكراسي في ما بينهم، فماذا تنتظر من جديد، ومن قيمة، أو أفق وإضافة.
□ في الوقت الذي كان يقال فيه «كثر الشعراء وقل الشعر» يبدو أن التعبير الصحيح اليوم ينطبق على الثقافة بشكل عام، لكن ما سبب هذا النكوص إن جاز القول الذي يعرفه المشهد في المغرب؟
■ هذا النكوص شامل وعام، سواء تعلق الأمر بالجمعيات، أو بالنقابات الثقافية والفنية، أو بالجامعات، أو بالمؤسسات، ووزارة الثقافة، فلا شيء مما يجري في سراديب هذه الأطراف، يصل إلى الشارع، أو يصل إلى المجتمع، بل إنّ ما كنا نعتبره في وقت ما مشروعاً مجتمعياً في عملنا الثقافي والسياسي، لم يعد موجوداً، بدليل أنّ لا أحد بقي يهتم بالثقافة وبالمثقفين، وصارت الثقافية هي تجمعات أقليات. والشعر، حين نتأمله، أو نرغب في قراءته، فهو مثل الذهب الذي اختلط بكثير من الشوائب التي علينا أن ننقِّيَه منها، لنبلغ قيمته، وما يلمع فيه حقيقة، لا ما يكون سطحاً وظاهراً، أو قِشْرَةً، تنعكس عليها الشمس.
□ هل ترى جدوى من متابعة الانتقاد لمشهد ثقافي لم يستطع تجاوز الذاتيات وخوض رهانات المشاريع الثقافية الكبرى وتحديات الأفكار الخلاقة؟
■ شخصياً، كتبتُ مراراً أنتقد هذا الوضع، ولا شيء تغيَّر، لأنَّ من تنتقدهم، هم من يصرّون على احتلال الجمعيات والمؤسسات، وهُم من تجدهم داخل المغرب وخارجه، يمنعون الطريق عن غيرهم، بالقصد، وكُل ما تراه من إخفاق، ومن تلفيقات ثقافية، هي بسبب هؤلاء، وبسبب جهلهم بما تعنيه الثقافة، قياساً بالسلوك السياسي الذي انحدروا منه، وبقوا فيه لم يتخلَّصوا من مقالبه. إمّا معنا، أو نحن ضدّك، وهذا لا يليق بالثقافة، ولا بالشعر، ولا بالمعرفة. وهذا ستجده في أي مكان تذهب إليه، بما في ذلك الجامعات، وما تنظمه وزارة الثقافة نفسها.
المشاريع الثقافية الكبرى كلها أجهضت، أجهض اتحاد كتّاب المغرب، وأجهض بيت الشّعر في مشروعه، كما كنّا أسّسنا له وبنيناه، وأجهضت مشاريع النشر التي تحوّلت إلى تراكم كمي لا نوع فيه، كما تحوّلت الجمعيات إلى قبائل تعتبر ما تقوم به غنيمة، وانتشر الريع الثقافي بشكل مفرط، والجميع يعرفون من، ولماذا، وكيف حدث كل هذا. فحين تنهار القيم، بكل معانيها، تتهاوى المعايير، ويتهاوى الإنسان، ولا يبقى إلا مثل هذه السلوكيات التي لا علاقة لها بالمثقفين، ولا بالثقافة، يهيمن فيها هؤلاء الذين تراهم في كل مكان، بالقوة لا بالفعل، وهذا لا يتعلّق بالمغرب فقط، بل بالعالم العربي.
□ ماذا لو طرقنا باب أزمة اتحاد كتاب المغرب، هل ترى أنه مجرد ملمح واحد من جملة الملامح التي تعلو وجه الثقافة المغربية وتجسد معاناة المثقف؟
■ اتّحاد كتّاب المغرب انهار من زمان، منذ سنة 2000 تحديداً، حين فوّت لمن حوّلوه إلى هذا المعنى الذي تحدّثنا عنه، وهؤلاء هم من تنازلوا عن استقلالية الاتحاد، وأقاموه في دواليب الدولة ودواوين الولاة والعمّال، ووزارة الثقافة، وحوّلوه إلى وكالة أسفار، وإلى مؤسسة تركها جل المثقفين المتنورين، ومُنحت العضويات، فقط، لمن سيصوتون لصالح الحزب، أو من وضعه الحزب على رأس الاتحاد، وهو ما بقي يحدث في الاتحاد. فما الذي يمكن أن يتغيَّر، حين تكون الأساسات قد انهارت؟ عُدْ إلى هذه المرحلة، وإلى اليوم، سترى كيف أنّ الذين أفسدوا الاتحاد وأجهزوا عليه، هم من عادوا اليوم يدعون إصلاحه، فهل يمكن للمُفسد أن يكون مُصلحاً؟ والاتّحاد، ومعه بيت الشّعر، هُما صورة واحدة في كُل شيء، وما تراه، هو نوع من الواجهة التي هي بَرْقٌ خُلَّبٌ يجرح العين، فقط، دون أن يضيئها، أو يشعل في طريقها ضوءاً ما.
□ ملاحظات، بل شكايات عدة تدون هنا وهناك لأقلام مغربية وازنة تؤكد حالة التيه و»الدوخة» حسب التعبير المغربي، التي يعيشها المشهد الثقافي، هل فعلا ذلك هو واقع الأمر، وماذا عن أسباب نزول هذا الغبن على الجميع؟
■ إذا نظرت جيِّداً في المشهد الثقافي، ستجد من كانوا سبباً في الأزمات، والمشاكل، والإقصاءات، وهيمنوا على كُلّ شيء، هُم من ما زالوا، بأتباع جدد استهوتهم الغنيمة، يسيطرون على هذا المشهد، بالفكر نفسه وبالعقليات نفسها، وبالمواقف المتصلبة نفسها التي جوهرها قَبَليّ، لا علاقة له بالمجتمع، أو بالوطن، فالمسألة، برمتها، هي مسألة أشخاص، طالما هم من يهيمنون على كل شيء، وبالطريقة نفسها، وتجييش غيرهم ليتكلموا بألسنتهم، فلا تنتظر شيئاً، إلا السّاعة. الثقافة، في تصوّري، هي اليوم، تجارب شخصية، فردية، وكذلك الشّعر، وكُل من يختبئ خلف جمعية أو مؤسسة، إنما ليخفي عجزه، ويكتسب صفات مَّا ليست له، وهذا ما يحدث داخل القبيلة نفسها، «انصر آخاك ظالما كان أم مظلوماً».
□ لو سألناك عن الأفق وإمكانية مغادرة المنطقة الرمادية التي تقبع فيها الثقافة المغربية حاليا، والإصرار على العودة إلى التألق، هل نجد لديك بعض التفاؤل؟
■ دائماً يوجد أمل، والأمل، لمن لا يشغل نفسه بما يحدث، ويهتمّ بمشروعاته الثقافية والفكرية، يوجد في التّجارب الفردية، فيما نكتبه وننشره، وفيما نُضيء به الطرق المعتمة، ونؤكد به على القيمة والنوع، لا على الدّرجة والكمّ. في الشّعر، هناك تجارب لا يمكن أن نصل إليها إلا بالتّخلُّص من بنية المُقايَسَة التي هيمنت على الثقافة العربية، لا على المغرب وحده. فحين نقرأ تجربة شعرية، بقياسها بغيرها، أو باعتبارها لاحقاً يُقاس بالسابق، فهذا جهل بالشعر، وبالصيرورة، وكتابي الأخير «مراقبة الصيرورة (انفصال مستمر وقطيعة بلا انقطاع)» يدخل في هذا السياق. اليوم هناك شعر آخر، وفكر آخر، لماذا كلما استعصى علينا فهمه، واستيعاب طبيعته، وما فيه من اختلاف، استعنّا بما سبقه، أو يعاصره، لنحكم عليه؟ بنية المُقايَسَة، في القراءة وفي النقد، هي ما عَتَّم على الشّعر المختلف، والنقد المختلف، والفكر المختلف. فما لم نجد الشبيه لما يُكْتَب، فهو فاسد، فقط، لأنّه دون شبيه، ولا يقبل القياس، بمنطق الفقهاء، «الشاذّ لا يُقاس عليه» وكأنّ الشعر هو نفسه الفقه أو الدين.
□ ختاما وبصريح العبارة، كيف وصل المشهد الثقافي إلى أن يصبح «بركة راكدة» كما وصفت، وضياع سنوات من الاشتغال والجدية عبر عقود خلت؟
■ من الطبيعي أن يركُدَ الماء ويفسد، ويصاب بالسّواد، حين يفقد النهر تدفّقه وجريانه، وحين لا نراقب الصيرورة، ويبقى المثال والنموذج، في كل شيء، هو ما يهيمن على فكرنا وخيالنا، ولا نستطيع أن نفكر ونتخيّل ونكتب بذواتنا، بلغتنا، بشعرنا نحن، ذلك الشِّعْر الآخر، كما أسميه. وهذا ينطبق على الثقافة نفسها، وعلى تدبير وإدارة الشأن الثقافي، فمن ينقصه الخيال والإبداع، والجرأة، وثقافة وفكر الاختلاف، سيبقى مشدوداً إلى كلام غيره، وهو بالتالي، لم يدرك أنّ القيثارة واحدة، لكن سرّ اللحن والعزف موجود في أصابع من يحرّك هذه الأوتار. فنحن، في كلّ شيء، نَتَّبِع، ونقلّد، ودائما نبحث عن العكاكيز التي سنتوكأ عليها، ولا نستطيع أن نحرّك أصابعنا بما تحتمله من خيال، ومن مشاعر، ومن أفكار، كما لا نستطيع أن نحرك أقدامنا لنسير دون آلة، ودون وساطة أو تبعية وتقليد. وهذا جوهر ما نحن فيه، في كل شيء مع الأسف.