لكاتبة الفلسطينية رائدة طه: الرواية وسيلة مقاومة لدحض الأكاذيب

لكاتبة الفلسطينية رائدة طه: الرواية وسيلة مقاومة لدحض الأكاذيب
بيروت /زهرة مرعي
لم يكن لرائدة طه أن تنتقل من الحيز النظري إلى العملي في بحثها حول «أهمية الرواية في الذاكرة الفلسطينية من خلال المسرح»، قبل إنجازها لمسرحيات أربع من صلب رواياتها الخاصة المسقطة على العام. قدّمت بحثها في الجامعة الأمريكية في بيروت، ومن ثمّ في ملتقى السفير، ووصفته بالأولي والمبدئي، علماً أنّ مواعيد أخرى تنتظره في أكثر من مكان، وهو يقع بحدود الـ16 صفحة، نورد موجزاً عنه.
بدأت الكاتبة والمخرجة والممثلة الفلسطينية رائدة طه بحثها بقراءة مشهد مختار من كتاب «سأخون وطني» لمحمد الماغوط، يُظهر مواطناً يُعرّف عن نفسه في حضرة «اللجنة».
مقطع وجدت فيه مدخلا تأكيداً لاستمرار الحرب على الذاكرة الفلسطينية دون هوادة. عددت أكاذيب سوقتها الصهيونية بحق الذاكرة الفلسطينية، منها اضطهاد اليهود في العالم العربي، وأرض الميعاد، والتعايش المسالم. ولدحضها ذكّرت بمئات المجازر بحق الفلسطينيين والقرى التي هُجّرت لإنشاء المستوطنات على انقاضها.
بدخولها المباشر إلى صلب الذاكرة قالت طه: كثيراً ما أسأل نفسي كيف يبتدِئ التاريخ بالنسبة إلى الأفراد في سنوات الطفولة الأولى، وكيف يؤثر في الذاكرة؟ ووجدت الجواب في ما تختزنه ذاكرتها عن طفولتها في مدينتها القدس. فخلال حرب 1967، اختبأ أهل الحارة من نساء وأطفال في مغارة في رأس العمود، ولدى مرور الطائرات يُسمع من يصيح «إنبطاااااح». وتذكر والدها «علي طه الذي كان كما كافة أبناء جيله منخرطاً في حركة القوميين العرب»، حين شاهدته يخفي كيساً من النايلون في سور الحديقة، والذي وقع أرضاً بعد هبوب عاصفة قوية، فنبهته «جيب الأوراق قبل ما ييجيو اليهود». إنه الإحساس المبكر بالخطر.
وفي واقعة أخرى من ذكريات الطفولة تشير رائدة طه إلى علاقتها القوية بعمتها عبلة التي اُعتقلت سنة 1968 بعد محاولتها تهريب حقيبة متفجّرات من جسر اللنبي إلى القدس. وإصرارها على مرافقة والدها لزيارتها في سجن المسكوبية. والماراثون الهستيري الذي عاشته حين نادتها عمتها من خلف الشبك الحديدي، وراحت تركض بين وجه عمتها ووالدها وتنادي «عمتو عمتو».
ذاكرة خصبة راكمتها رائدة طه منذ الطفولة والتي تتوجت لاحقاً باستشهاد والدها في عملية فدائية. فكيف عبّرت المرأة الناضجة عن تلك الذاكرة؟ تقول في بحثها: ابتدأتُ مرحلة التوثيق وتوظيفها في المسرح لحاجةٍ ملحّةٍ في نفسي وعقلي وقلبي، لأتحرّرَ من الشعور بالظلم واللاعدالة التي تكبُر وتتأجج مع الوقت. فالإحساسُ المستمرُّ بالظلمِ في حالتِنا الفلسطينية منذ 75 عاماً من دون انقطاع، هو الذي يولّد الحاجةَ إلى التعبير بشتّى الطرق.
وخلاصة ما بلغته طه بشأنها الخاص يتمثّل بقولها: إنَّ روايتي الخاصة هي انعكاسٌ للرواية العامة. فلا يجوز للفلسطيني أن ينفصل عن واقع وقضية شعبه، ولسان حالي: «أنا فلسطين، وفلسطين أنا». إنّ فلسطين هي هُويتي التي أمارسُها وأعبّر عنها من خلال خَياراتي واختياراتي ولهجتي!
وقبل خوضها في اعمالها المسرحية والإسقاط الذي تمثّله بين الخاص والعام، عرضت ما خلُصت إليه عن حال المسرح الفلسطيني قبل النكبة. مسرح كان موجوداً في المدارس التبشيرية المنتشرة في القدس وحيفا ويافا وبيت لحم. وعبر الأندية والجمعيات الفلسطينية. هؤلاء غرزوا بذور النهضة المسرحية، كجمعية الشبّان المسيحيين في القدس والتي تأسست سنة 1877.
ومن الأسماء التي كتبت نصوصاً مسرحية بين سنوات 1919 و1949 جميل حبيبي البحري، والإخوة صليبا، وجميل وفريد الجوزي. كما وتأسست مدارس وطنية اهتمت بالمسرح. ولعبت الفرق الشامية والمصرية والأجنبية التي زارت فلسطين بين 1920 و1930 دوراً مهماً في النهضة المسرحية. ومن أبرزها فرقة جورج أبيض، والريحاني وعلي الكسّار، وفرق أجنبية قدمت مسرحيات شكسبير وموليير. فتشجّع الشبّان لتأسيس فرق مسرحية، منها ثلاثون فرقة في القدس بغض النظر عن مستواها. إلى مسرحيات لعبت خلال الانتداب البريطاني في فلسطين «دوراً توعوياً رغم الرقابة». وحلّ الانقطاع سنة 1948. شتت اللجوء شمل الفنانين، «وأوقف التطور التراكمي للمسرح». وهذا ما وصفته بـ»العملية الإجرامية». قطع قسري للنمو والإزدهار على المستويات كافة. وأبرز الفرق بين سنة 1948 و1967 في القدس والضفة الغربية دبابيس، وبلالين وكشكول. والمسرح الشعبي والمسرح الحديث، والمسرح الوطني.
المحور الأخير خصصته رائدة طه لمسرحياتها وإسقاطها على الرواية الفلسطينية والذاكرة. الإسقاط في مسرحية «ألاقي زيك فين يا علي» تمثّل بدور عمّتها سهيلة، سمتها إحدى «انتيغونات فلسطين». لاحقت محتجزي جثمان علي طه على مدى سنتين. نجحت بتحريره وبات لعائلته قبر تزوره.
وفي مسرحية «36 شارع عبّاس حيفا» تمثّل الإسقاط بحق العودة بعد النكبة عبر قصة عائلتي ابو غيدا والرافع. وفي «شجرة التين» بحثت عن الذكريات والأماكن، والتمسك بما بقي منها. ذكريات إمرأة عاشت بعض طفولتها في باب العمود، وزاوية الأفغان، وكنيسة القيامة ودرب الآلام، وباحات الأقصى، وقهوة الباسطي وغيرها، لتكتشف أن ذكرياتها في القدس يمتلكها والداها علي وفتحية، وهي وريثتهما. «غزال عكا» تروي مراحل وفصول من حياة الأيقونة التاريخية غسّان كنفاني.
خلاصة رائدة طه «بأن المسرح وسيلة مقاومة مهمة، في مواجهة من يحاول كتابة تاريخنا نيابة عنا(…) تلك هي روايتي على خشبة مسرح محررة من الظلم والطغيان.
– «القدس العربي»: