فيلم نابليون: سؤال العنف ومصير الشعوب
شادي خدام
طرحت أستوديوهات كولومبيا بالشراكة مع أبل عام 2023 فيلم «نابوليون» في دور السينما، وكان الفيلم من إخراج البريطاني ردلي سكوت صاحب العديد من الأيقونات السينمائية المعاصرة. قدم ردلي سكوت شخصية نابليون الأول في فيلمه عبر مسارين أولهما، صعوده إلى السلطة وسيطرته عليها وحروبه، والآخر علاقته بجوزفين التي أصبحت زوجته، وتخلى عنها مرغماً في ما بعد، كما حاول أن يرسم ملامح شخصية قومية وطنية متهورة، إلا أنه ومن خلال العمل ذاته نسف أي إنجاز لأبرز الثورات التي عرفها التاريخ الأوروبي، والتي غيرت خريطة أوروبا والعالم لاحقاً بشكل كامل وهي «الثورة الفرنسية» التي كان لها الدور الأهم في وصول شخصية متهورة كنابليون بونابرت إلى الحكم.
إن الأثر اللاحق الذي نتج عن الثورة الفرنسية وحروب نابليون على الممالك الأوروبية، التي استعرضها الفيلم لا يمكن أن يختلف عليه مؤرخان، نابليون الذي كان يحارب الملكيات الأوروبية بديكتاتوريته المعروفة، لم يكن حدثاً عابراً في التاريخ وحسب، فجميع الأنظمة السياسية الاقتصادية التي نعيش في ظلها اليوم وتزعم الحضارة الغربية أنها هي الأنجح عبر تاريخ البشرية كانت بطريقة ما أو أخرى نتاجاً للثورة الفرنسية وثورات الربيع الأوروبي، التي اجتاحت أوروبا في القرن التاسع عشر، كما يدعوها الأكاديمي إريك أونسو. لعل هذه الثورة التي صاحبها الإرهاب في سنواتها العشر الأولى، والتي عرفت بحقبة ماكسمليان روبسبير تقدم دليلاً على المأزق الذي تعيشه البشرية اليوم، ألا وهو تحول «العنف الثوري» المضاد «لعنف السلطة» إلى أداة التغيير الرئيسية إن لم تكن الوحيدة في ظل فشل أي محاولة سلمية لتغيير الأنظمة القمعية، أو التأثير فيها، فالربيع العربي 2010 على سبيل المثال، والعشرات إن لم نقل المئات من الثورات التي اجتاحت المجتمعات في العقدين المنصرمين وحتى اليوم، لم يكن العنف إلا طريقة حتمية في وصولها إلى التغيير، خصوصاً تلك المجتمعات التي كانت ترزح تحت الاستعمار. وكان استعمار فرنسا لمصر نصيباً من الفيلم، الذي قدمه وأنهاه سكوت في أقل من دقائق رابطاً فشل استعمار مصر بتخلي نابليون عن قيادة الحملة لاحقاً، وعودته إلى فرنسا بسبب خيانة زوجته له، وكأن كفاح الشعب المصري الذي امتد لسنوات لم يكن له وجود أساساً.
أشار العديد من النقاد إلى تدني مستوى فيلم ردلي سكوت الجديد، وأشار بعضهم إلى أن الفيلم لا يشبه ما قدمه هذا المخرج الفذ صاحب الحرفة، فأعماله السابقة شاهدة على اسمه في هذا المجال. كما أشاروا إلى خلو العمل من أي حبكة، أو أي بناء درامي معقد لشخصية نابليون الحقيقية، بل قدمها بشكل مسطح وغير مقنع.
فكان الفيلم عبارة عن مقتطفات لأبرز لحظات حياة نابليون، كاستيلائه على السلطة واستعماره مصر، وحروبه الطاحنة في أوروبا، التي قدمها سكوت بصورة وتقنياتٍ عالية ومميزة، خصوصاً تلك التي استعملت في المعارك، ويعلق المقدم الأمريكي جون كامبيه في برنامجه، الذي يذاع عبر منصة يوتيوب على مشاهد الحركة في الفيلم قائلاً، «إن مشاهد الحركة والقتال دون أن يكون خلفها قصة، هي مجرد فوضى بصرية».
ويؤكد العديد من السينمائيين اليوم أن الصورة لم تكن يوماً المقياس الأهم في نجاح العمل، فعلى سبيل المثال الحلقة الأخيرة من الموسم السادس لصراع العروش (معركة اللقطاء) التي عرضت عام 2016، كانت أكثر أهمية وجمالاً في المشاهد الحربية والقتالية، عما قدمه ردلي سكوت في معارك نابليون البائسة عام 2023.
بدأ فيلم نابليون مشهده الأول بلحظات إعدام ماري أنطوانيت على المقصلة بين الحشود، وعرفت هذه المرحلة بعصر الإرهاب أو عصر روبسبير، التي امتدت عشر سنوات حتى مجيء نابليون إلى الحكم 1799، وكان حكم الإعدام بالمقصلة من أكثر الطرق شيوعاً لجميع أعداء الثورة، حتى إنه في هذه المرحلة تم إعدام العديد ممن شاركوا في الثورة نفسها بتهمة مناهضة أهداف الثورة.
وعن عصر روبسبير ونابليون يقول سلافوي جيجك أحد أهم الفلاسفة الأوروبيين اليوم، «إن ما يقلقني ويشغلني هو ديناميكيات التغيير التي انطوى عليها العالم اليوم، فلا حراك ولا تغيير لأنظمة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، دون عنف، فعصر الإرهاب الذي مرت به الثورة الفرنسية في زمن روبسبير ونابليون لم يكن عصراً يمر مرور الكرام إنما أنذر ببداية عصر جديد، عصر ثورات وإرهاب ومكتسبات متأخرة جداً».
ولعل من المفيد أن نطرح السؤال هنا، هل فعلاً كان تاريخنا كبشر المرتبط بالتغيير على صلة وثيقة بالعنف دائماً كما يدعي البعض؟ يقول الكاتب ماريلان باتو- ماتيس في مقالته المنشورة بعنوان «جذور العنف» إن العنف ليس مسجلاً في جيناتنا كبشر، بل ظهر لأسباب تاريخية واجتماعية، ويبدو أن تغيير نمط الاقتصاد بالمرور من الافتراس والصيد إلى الإنتاج الذي سرعان ما أدى إلى تغيير جذري في الهياكل الاجتماعية، لعب دوراً رئيسياً في تطور الصراعات، وخلافاً لاستغلال الموارد البرية، فإن إنتاج الأغذية سمح بتحقيق فائض أدى إلى ظهور مفهوم الملكية وبالتالي ظهور عدم المساواة».
إذن يكمن السر في معادلة العنف هذه في كلمتين «عدم المساواة» ولعل أهم ما يميز هذه الحقبة التي نعيشها منذ تاريخ نشوء الدولة الحديثة وحتى اليوم هي «اللامساواة» فحسب بعض الدراسات الحديثة، فإن أغنى 30 فرداً اليوم في العالم يملكون ثروة أكثر مما يملكه ثلثا سكان الكرة الأرضية مجتمعين. لم ينجز فيلم نابليون ما كانت تأمله استوديوهات كولومبيا للإنتاج بشراكتها مع أبل، فكان النقاد والجمهور على صفحة واحدة تقريباً من موقفهم تجاه الفيلم الذي اعتبر مخيباً للآمال، حسب العديد من المواقع والمنصات التي رصدت ردود فعل الجمهور وتقييم النقاد، فكان التقييم الذي حصل عليه عبر موقع الطماطم الفاسدة 57% من إعجاب الجمهور، و6.5 من عشرة فقط من موقع IMDB، كما أن الفيلم وحتى تاريخ كتابة ونشر هذه المادة لم يقم بتغطية تكاليف إنتاجه التي تجاوزت الـ200 مليون دولار، على الرغم من أن الفيلم يضم العديد من نجوم الصف الأول كخواكين فينكس وفينيسا كرب.
وفي النهاية إن أبرز ما نستطيع الإشارة إليه في فيلم نابليون، أن الآليات وديناميكيات التغير في هذا العالم الحديث الذي شكلته الحداثة والاستعمار ومنتجاتهما أصبحت مقتصرة لدرجة كبيرة على العنف ولا نتحدث هنا عن العنف كما كان في السابق في التاريخ القديم، بل نتحدث عن شكل مختلف عما كان عليه في السابق. فمعادلة العنف في التاريخ الحديث لم تعد مقتصرة على من ينتصر في النزاع، بل أصبحت المعادلة «من أكثر وحشيةً ونوويةً» في النزاع ليبيد الآخر مع قائمة مطولة من المبررات العنصرية والاستعلائية، فالحروب الأوروبية الحديثة الأولى والثانية (التي تدعى عالمية لسبب ما) أودت بحياة أكثر من 60 مليون إنسان في ظرف 40 سنة فقط.
وختاماً لا بد من أن نطرح على أنفسنا جميعاً ذلك السؤال الضروري، هل سيبقى العنف أداة التغير؟ أم أنه مرتبط بشكل جذري بما آل إليه شكل العالم اليوم؟ فآلية التغيير الديمقراطية والاقتراع لا تنجح إلا في دول العالم الغربي وبشكل حصري! إذن ماذا عن باقي دول العالم المسيطر عليها من قبل ديكتاتوريات وميليشيات وعصابات مدعومة من قبل دول العالم الغربي وروسيا والصين؟ ما السبيل لتغيير واقعنا البائس؟
كاتب سوري