المسرح الليبي في رحلة لإعادة الحياة والبحث عن الإمكانيات بعد ركود طويل

المسرح الليبي في رحلة لإعادة الحياة والبحث عن الإمكانيات بعد ركود طويل
نسرين سليمان
حُرمت ليبيا إثر الصراعات المتتالية التي ضربت شرقها وغربها وجنوبها من مصافحة الفنون والمهرجانات التي توقف تنظيمها منذ 15 سنة، وكان ذلك انعكاساً للأزمات التي ضربت كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
ومن جديد استطاعت ليبيا تحت بند إعادة الحياة الذي تبنته حكومة الوحدة الوطنية، إعادة الحياة للمسرح كما أعيدت في المشاريع الأخرى التي شملت نهضة في البنية التحتية أيضاً، حيث تسابقت مسارح العاصمة طرابلس ومصراتة لتروي عطش الجماهير للفنون والممتد منذ عام 2011.
وكان بداية نهضة وإعادة إحياء المسرح منذ نهاية عام 2023 حيث عادت فعاليات المهرجان الوطني للفنون المسرحية لتنفض غبار الصراعات السياسية التي ألقت بثقلها على المسرح والفنانين في البلاد.
وفي ذلك الوقت نظمت الدورة الثانية عشرة للمهرجان على خشبة ثلاثة مسارح في طرابلس ومصراتة الواقعة على بعد 200 كيلومتر شرق طرابلس، وجمعت رواد المسرح وممثلين من 11 مدينة من كل أنحاء ليبيا على مدى عشرة أيام.
وقدم معظم الفنانين عروضاً مسرحية تتناول الجانب الإنساني والحالة الاجتماعية التي يعاني منها الليبيون، خصوصا منذ اندلاع الثورة التي أطاحت بنظام العقيد الراحل معمر القذافي وما تلاها من انفلات أمني ومعاناة وصراعات وتراجع الحالة الاقتصادية والمستوى المعيشي في البلاد.
وعكست الأعمال المسرحية التي قُدمت على خشبات عدة بالعاصمة، تنوعاً في التناول ما بين الترفيه، وبين التعرّض لهموم الوطن الإنسانية، والأمة على اتساعها أيضاً، بداية من المآسي التي تعيشها مدينة درنة التي ترك إعصار دانيال المتوسطي آثاره على وجهها، وصولاً إلى قطاع غزة، الذي ينزف تحت ضربات الاحتلال الإسرائيلي.
ونظمت آخر دورة لهذا المهرجان قبل الدورة الماضية في العام 2008 حيث أكد أنور التير، المدير العام للمهرجان الوطني للفنون المسرحية، أن انعدام استقرار ليبيا حال دون انتظام عقد الدورات.
وحصدت المسرحية الليبية فعلا بعض ثمار إعادة الإحياء فنالت مسرحية «الرجال لهم رؤوس» من إخراج حسن ميكائيل، وتأليف محمود دياب، معظم جوائز مسارات الدورة السابعة عشرة من مهرجان «عشيات طقوس المسرحية الدولي» في الأردن التي أقيمت هذا العام باسم المخرج والممثل الأردني المسرحي الراحل خالد الطريفي قبل أيام.
وحسب وكالة الأنباء الأردنية «بترا» حصلت المسرحية على جائزة أفضل ممثلة الفنانة يقين عبد المجيد عن مسرحية «الرجال لهم رؤوس» كما حصل على جائزة أفضل ممثل عن ذات المسار الفنان حسن ميكائيل عن نفس المسرحية، التي حصلت على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل.
وفي تصريح صحافي قال المخرج وبطل المسرحية الفنان حسن ميكائيل إن المسرحية دراما واقعية اجتماعية رمزية كُتبت في أواخر الستينات، وهي مزج بين الكوميديا السوداء والتراجيديا، وهي رمزية تعبر عن الوضع العربي بعمومه، كالخوف من المشاكل والانهزامية، والصراع بين الزوج وزوجته بشكل قيمي إنساني، والرمزية في انبطاح الإنسان العربي وإحباطه، وعدم مواجهته، حتى أصبح ينتظر الحلول من غيره.
وأوضح ميكائيل أن الفنانة يقين عبدالمجيد شاركته البطولة وكذلك شارك الفنان محمد زكري في التمثيل والعمل لفرقة أجيال المسرحية البيضاء.
واختتم مهرجان عشيات طقوس المسرحية بدورته الـ17 مساء السبت الماضي في مديرية الفنون البصرية والمسرح التابعة لوزارة الثقافة الأردنية.
أزمة وجودية
ويواجه المسرح في ليبيا أزمة وجودية تهدد استمراريته وتطوره، وتتنوع جذور هذه الأزمة بين ضعف التمويل وتراجع الرواتب للعاملين، وانحسار عدد قاعات العرض المسرحي.
ويتحدث ممثلو المسرح الليبي عن الصعوبات التي يواجهونها وعن الإجراءات التي يتخذونها للبقاء على قيد الحياة والحفاظ على الفن المسرحي الذي يعتبرونه جزءًا لا يتجزأ من هويتهم الثقافية والفنية.
ويعيش المسرح في ليبيا، التي تضم عددا من المسارح الرومانية القديمة في لبدة وصبراتة وقورينا، أزمة دعم كبيرة فضلا عن تأثر معنويات العاملين فيه إذ لا يستطيع الفنانون العمل من دون التفكير في كيفية سد الاحتياجات اليومية في ظل ضعف الأجور وقلة الأعمال.
ويعوّل مسرحيون ليبيون على أن تتسع الحركة المسرحية في البلاد وتتنوع، لا سيما في ظل حالة الهدوء السياسي المسيطرة على البلاد.
وفي إطار ضغطهم لتنفيذ مطالبهم أكد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة في نهاية العام الماضي على دعم حكومته الكامل للفنون المسرحية، معلنا إنشاء أول مسرحين خاصين بالهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون في بنغازي وطرابلس، مطلع العام.
وفي وقت سابق وعند إطلاق مهرجان المسرح بطرابلس اعتبر رئيس الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون عبدالباسط بوقندة أن الهدف هو إعادة إطلاق الحركة المسرحية بدون توقف وتجاوز الصراعات، وقال إن عجلة المسرح ابتداء من اليوم لن تتوقف، وسيواصل الفنانون من مختلف البلاد تقديم عروضهم، وأضاف أن الانقطاع في المسرح كان سببه الإهمال وخلاف السياسة الذي أضر بكافة الفنون وعلى رأسها المسرح، واليوم مجتمعون مع كل فناني ليبيا لتجاوز الصراع.
كما أكد أنور التير المدير العام للمهرجان الوطني للفنون المسرحية، أن انعدام الاستقرار في ليبيا حال دون انتظام عقد الدورات، وقال إن المسرح يتأثر بالواقع السياسي والاجتماعي في البلاد، وأنهم يريدون إيقاد الشعلة مجددا، والاحتفاء بقامات فنية كبيرة يجب ألا يحرم منها الجمهور لا لتهميش المسرح الليبي.
ويربط مراقبون بين حالة الاستقرار في ليبيا، وبين عودة الحركة المسرحية، حيث يقولون إن عودة المهرجان إلى طرابلس جددت الآمال في رؤية مسرح بكل مدن ليبيا وأن يكون هناك مهرجان في طرابلس العاصمة، هذا مهم جداً ومؤثر جداً، فما بالك بعودة المهرجان الوطني للفنون المسرحية الذي تعطل 13 عاماً منذ دورته الحادية عشرة.
وتحرص عدة مدن ليبية في أنحاء مختلفة من البلاد على إقامة المهرجانات سواء الثقافية أو الشعبية كل عام في مواعيدها، التي عادة ما تتضمن معارض للتراث والفنون والمسرح، وسباقات للخيل، فضلاً عن إقامة أمسيات شعرية وعروض للأزياء الرسمية للتعريف بهوية البلاد.
وفي حديث بين صحيفة «القدس العربي» والباحثة أمال مصطفى قالت إن المسرح الليبي قديم جدا وله تاريخه، وقد تم اكتشاف 14 مسرحا قديما كانت ملحقة بمعابد قديمة، ما يثبت أن الحضارات القديمة في ليبيا عرفت المسرح.
وتابعت الباحثة لكن للأسف توقفت هذه الاستكشافات الأثرية ولا يوجد دعم لعمل بحوث توضح وتتعمق في الماضي الليبي وتاريخه العريق وخاصة التاريخ الفني ويجب أن تتجه البحوث والدراسات لهذه الكنوز المدفونة.
وأضافت هناك تواريخ وأسماء مهمة لعل أهمها عام 1928 عندما عاد من لبنان الفنان المسرحي محمد عبد الهادي ليؤسس أول فرقة مسرحية ليبية في مدينة طبرق وقام بتقديم مسرحية «لو كنت ملكا» وواجهت فرقته صعوبات مما دفعه للانتقال إلى مدينة درنة في عام 1930 وحدث نشاط بتلك الفترة وتأسست عدة فرق مسرحية.
وتابعت إنه وفي عهد القذافي تم تشديد الرقابة ثم تحولت إلى قمع، وشهد خلاله المسرح تقلبات، فتارة تغلق كل قاعات العرض السينمائية والمسارح ويتم تجميد كل الأنشطة وأحيانا كان يتم استقدام بعثات فنية والسماح ببعض الأنشطة. ورغم أن القذافي أنتج فيلم «الرسالة» ثم فيلم «عمر المختار» وصرف الملايين إلا أنه لم يشجع ميلاد سينما ليبية.
ما بين الانتعاش والركود
وبالفعل وحيث أن عمر المسرح في ليبيا قد يرجع إلى ما قبل الميلاد حسب ما يذكره الكاتب خالد الرفاعي، فبالتأكيد قد مر بعدة حقب ما بين الانتعاش والركود، بل لا نبالغ لو قلنا بأن المسرح الليبي عاش أحيانا في سبات عميق غيبه عن مشهد الحياة بتفاعلاتها السياسية والاقتصادية وانفعالاتها الاجتماعية والثقافية.
وقد يكون المرجع الوحيد الذي تضمن بالتفصيل مسيرة المسرح الليبي المعاصر هو كتاب الأستاذ عبدالحميد المجراب المعنون: «المسرح الليبي في نصف قرن: 1928 ـ 1978» والذي جمع فيه الكاتب بين السرد التاريخي للمسرح الحديث خلال نصف قرن وكذلك أدب المسرح بل وتعدى ذلك إلى تضمين وثائق وإحصائيات خاصة بحركة المسرح الليبي خلال تلك الفترة.
ومن بين هذه المسارح يأتي المسرح الأمازيغي حيث قد يتبادر للوهلة الأولى أن المسرح الأمازيغي جاء متأخراً بعد انتفاضة 17 فبراير في 2011 إلا أنه في الحقيقة يرجع إلى حقبة زمنية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ القديم. وقد يعبر البعض، وبحيادية، عن وقع المسرح على الشعب الليبي بأنه: «في ليبيا للمسرح مكانة مرموقة ومميزة عن بقية المجالات الفنية إذ كان ركيزة لحضارات قديمة عدة شهدتها البلاد وهو ما يظهر في انتشار المسارح في عدة مدن كلبدة وقورينا وغيرها «.
وحسب ما تذكره المصادر التاريخية بأن النص لأول مسرحية هو «الحمار الذهبي» وهي للكاتب الأمازيغي لوكيوس أبوليوس أو أفولاي. إلا أن الانقطاع الذي شهدته السلسلة التاريخية للمسرح الأمازيغي القديم والذي تشهد عليه المسارح الراسخة على الأرض الليبية فلا يمكن أن يتم استيراد كتبة نصوصه المسرحية وممثليه بدون أن يكون من ضمنهم أمازيغ سواء كانوا من كتبة النصوص بالأمازيغية أو بغيرها من اللغات الوافدة إلى ليبيا، أو كانوا ممثلين، ولو كمبارس! أو من مصممي ديكور أو موسيقيين أو رسامين! وفي النهاية لا يمكن أن يتم استجلاب جمهور من دول بعيدة لمشاهدة العروض المسرحية وعلى مسارح مبنية على الأرض الليبية، فلا بدأ أن تكون غالبية الجمهور في الماضي أمازيغ ولو اختلطت بهم بعض العرقيات الأخرى بحكم موقع ليبيا وحركة بعض التجمعات البشرية المتنقلة بدافع التجارة أو الهروب من المجاعات والحروب والكوارث الطبيعية.
ويقول باحثون إنه يفترض ان تتغير التحديات التي تواجه المسرح الليبي حسب الظروف التي يعيشها إلا أنه وفي المرحلة الأخيرة وبعد انتفاضة 17 فبراير بدأت تتكرر الإشكاليات فبعض العقبات تعرض إلى سردها في السابق الأستاذ عبدالمجيد المجراب فمن الواضح أن المسرح الليبي يحتاج إلى وقفة جادة من المسؤولين للانطلاقة من جديد وبروح تجديدية لإشباع حاجات ومتطلبات الإنسان المعاصر من قيم باتت تبهت في حياته نتيجة للوقع السريع لها وولوجه عالم من الفضاءات الافتراضية للعلاقات الاجتماعية.
كذلك من التحديات ما تفرزه التكنولوجيا من تقنيات قد تكون عاملا مساعدا لتوظيفها لخدمة المسرح الليبي، أما بما قد تلقيه بظلالها على الحياة المعاصرة فتتسرب منه إشكاليات اجتماعية وأخلاقية قيمية قد تصبح مادة خام تحرك أقلام كتاب المسرح، أو ما تضيفه من خدمات تقنية على تجهيزات وإعداد المسرح لظهوره بلوحات فنية، تخدم العرض المسرحي، ترسمها خيوط إشعاعات العرض الضوئي.