يدٌ أنهكها الجمال: فائق حسن في لحظته الأخيرة

يدٌ أنهكها الجمال: فائق حسن في لحظته الأخيرة
جمال العتابي
استيقظ الفنان فائق حسن في صباح باكر، ثمة أشعة شمس خجولة تتسلل إلى مرسمه المطلّ على حديقة فسيحة، تحيط بها أشجار النارنج، كان صباحاً بارداً، مدّ يده كعادته نحو فرشاة الرسم، لكن شيئاً غريباً حدث، تجمّدت أصابعه، بل ارتجفت أولاً، ثم انثنت للوراء كأنها تأبى الطاعة. حاول أن يرسم لكن أصابعه تتوقف عند الحافة، كأنها تقول: كفى، لقد رسمت ما يكفي من الأحلام لدهر بأكمله، أما آن لك أن ترتاح؟
فائق بدهشة:
ـ ما بكنّ؟ هيا، أمامنا لوحة تنتظر الحياة.
ـ كفاك يا فائق.. منذ الساعة نعلن احتجاجنا، نتوقف عن الرسم، جفّ الجلد، وتخشبت الأصابع لفرط ما نالها من تعب وجفاف وأمراض جلدية، بسبب المواد الكيميائية التي تصنع الألوان، لم تعد الفرشاة أداتك الوحيدة في الرسم، أرفق بنا قليلاً، دعنا نستريح!
ـ نعم ! أعرف ذلك، لكنني أذهب إلى يدي حين أشعر بتهديد يهاجم الفكرة، أخشى عليها من الضياع، فألجأ إلى اليد التي تنطق الألوان صمتاً وبسرعة، لأسكب الروح على (الكانفاس). امهليني أيتها اليد ريثما أنجز أعمالي قبل أن أشيخ..
ها هو رغم الألم يشرع في تحضير اللوحة.. قد لا تكتمل، لكنها ستظل تشهد على يدٍ أرهقها الجمال. كانت يده معجزة صغيرة، تبدع حين يشيح العالم وجهه عن الجمال، أصبحت ثقيلة، متعبة، كأنها تشيخ قبله، ليس الألم فقط ما يربكها بل تعب السنوات المتراكم في طي المعجزات على القماش، يشدّها الشغف، لكن الجسد يأبى، واليد ترتجف. تهمس له في صمت:
ـ أرهقتني يا فائق! ما زلت تعيش في الحاضر بكل أمجادك ومسراتك، حاضرك المفعم بصهيل الخيول والتداعيات، تضخّ مشاعرك في اللون بقوة مثل عازف سمفونية بالفرشاة، تتنقل أصابعك على أوتار خفية، تجلس أمام لوحتك غارقاً في لحظة صمت، الغليون «البايب» هو جزء من طقوسك الإبداعية، ومن كيانك، لا تتخلى عنه للحظة، لكنه يخنق أنفاسنا. لم يكن مجرد عادة، بل أصبح رمزاً لشخصيتك، كان رفيقك الدائم.
يرتجف قلب فائق، بصمت يحاوره:
ـ هل انتهى كل شيء؟ أم أن الفن مثل الحياة، يولد من العجز أحياناً؟ ينظر إلى يده بحزن العاشق الذي خانته محبوبته:
ـ حتى لو خذلتني يدي، فلن تخذلني روحي، سأرسم بك يا ذاكرة الضوء، يا ظل الفرشاة. الفن.. لا تصنعه اليد وحدها، الفن رؤى وأفكار وخيال وموهبة. وبطبعه لا يستأّذن، بل يسكن الجسد رغماً عنه. الفن في الفكرة التي تضيء قبل أن تولد، في الخيال الذي لا يموت، في بقعة ضوء على جدار مهجور، فليتوقف الجسد، وليصمت الألم، لكن اللوحة باقية.
يقف أمام لوحته، يحدّق في بياضها الفارغ، لا يعرف إن كان هو أنهك يده، أم أن اليد أنهكت روحه؟ لقد تخلّت اليد عن سطوتها على الفرشاة، كأنها تخاطب الرسام:
ـ لقد منحتك كل ما أملك.. والباقي عليك!
مات فائق حسن، توقف قلبه عن الخفق، لكن قلبه ظلّ نابضاً فوق القماش، لوحته الأخيرة لم تكتمل، لكنها تنبض بظله، بصمته، أبت فرشاته أن تجفّ، ما زالت طرية، لم تغلق باب الحلم، كأنها تبكي في صمت نبيل، تتلمس الهواء، تبحث عن كتفه، عن دخان غليونه، ودفء أنفاسه.
أما اللوحة، فوقفت وحيدة في الضوء، تقول للعابرين: هنا مرّ.. هنا رسم عمراً من المعنى. لم يمت فائق، بل عبر إلى الضفة الأخرى من الخلق، حيث يرسم من دون ألم، ويخلد من دون نهاية.
كاتب عراقي