مقالات

اليوم العالمي لدعم ضحاياه: 40 عاما على معاهدة منع التعذيب

اليوم العالمي لدعم ضحاياه: 40 عاما على معاهدة منع التعذيب

د. سعيد الشهابي

ما الذي يحمله العالم في جعبته وهو يستعد للاحتفاء باليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب الذي يحل في 26 من يونيو من كل عام؟ هل يستطيع إعلان انتهاء المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية بحق الذين تكتظ السجون بهم بسبب آرائهم؟
هل ستشتمل إحصاءاته على أعداد الذين تمت محاكمتهم أمام محكمة الجنايات الدولية أو محكمة العدل الدولية بتهمة «ارتكاب جريمة ضد الإنسانية»؟ أليس التعذيب من الجرائم ضد الإنسانية؟ هناك أمور ستحدث قبل حلول ذلك اليوم الذي تهفو له نفوس من ذاقوا أصناف العذاب على أيدي الجلادين في سجون الطغاة والمستبدين من حكام هذا العالم.
من المتوقع أن يصدر مجلس حقوق الإنسان، بيانا يؤكد فيه رفضه التعذيب كمبدأ، وسيفعل الأمر نفسه المفوض السامي لحقوق الإنسان وكذلك المقرر الخاص حول التعذيب. وستهرع المنظمات الحقوقية الدولية لتأكيد مواقفها الرافضة لهذه المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية.
وبالإضافة لهذه الجهات فمن المتوقع حدوث سباق بين أشد الأنظمة السياسية قمعا لإصدار تصريحات نارية تؤكد احترامها حقوق الإنسان وتجريمها التعذيب وتنفي ممارسته بحق معارضيها الذين يرزح معارضوها وراء القضبان بعد أن تعرّضوا لأقسى أساليب التعذيب. من المتوقع أن يحدث هذا، بالإضافة للندوات التي ستعقد حول هذه القضية. ولكن هل هذا انعكاس للواقع الحقيقي لأوضاع حقوق الإنسان في عالم اليوم؟
هل تحقق ما كان روّاد حقوق الإنسان يتطلعون له قبل ثلاثة أرباع القرن عندما بدأوا بتدويل منظومة حقوق الإنسان كمحاولة لمنع تكرر ما حدث في النصف الأول من القرن الماضي خصوصا خلال الحربين العالميتين؟
برغم ما قطعه العالم من أشواط في مجال التشريعات القانونية الهادفة لحماية حقوق الإنسان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما تزال تلك الحقوق تعاني من الانتهاكات المتواصلة حتى في بلدان ما يسمى «العالم الحر».
وللتأكد من ذلك يمكن الاطلاع على التقرير السنوي للمنظمات الحقوقية الدولية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووج التي تتطرّق لأوضاع حقوق الإنسان، وتبرز عدد ضحايا التعذيب والمحرومين من المحاكمات العادلة ومدى انتشار سياسة تكميم الأفواه في دول العالم.
ما الذي اقترفه آلاف المعتقلين السياسيين في الكثير من البلدان سوى أنهم عبّروا عن آرائهم معتقدين ان ذلك من حقهم. بعض هؤلاء تحدث عن تردّي أوضاع بلاده السياسية والاقتصادية، وآخر ربما طرح مطالب سياسية لتطوير منظومة الحكم، أو دعا لمنح الشعب مساحة في صنع القرار السياسي أو الشراكة في إدارة شؤون بلده. البعض الآخر ربما انتقد سياسات بعض الحكومات، أو دعا للإفراج عن المعتقلين السياسيين. هذه المواقف والتصريحات حق طبيعي للإنسان لا يجوز للحاكم معاقبته بسببها.
بمناسبة «اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب» يتجاوز الحديث مسائل الاعتقال والسجن، ويتصل بمعاملة من يُعتقل لأيّ سبب، سواء لرأيه وموقفه السياسي، أو لارتكابه جريمة. فليس من حق أي موظف حكومي الاعتداء على كرامة المعتقل السياسي أو الجنائي بالتنكيل.

هل تحقق ما كان روّاد حقوق الإنسان يتطلعون له قبل ثلاثة أرباع القرن عندما بدأوا بتدويل منظومة حقوق الإنسان كمحاولة لمنع تكرر ما حدث في النصف الأول من القرن الماضي؟

فإذا كان المعتقل قد ارتكب جناية يعاقب القانون عليها، فيجب تقديمه لمحاكمة عادلة، وليس من حق أحد تنفيذ الحكم قبل صدوره من القضاة بعد محاكمة عادلة. فقد خلق الله الإنسان ومنحه قداسة وحرمة وكرامة. وجاء في صحيح مسلم عن رسول الله: «إن الله يعذّب الذين يعذّبون الناس في الدنيا». بمناسبة «اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب» يتجاوز الحديث مسائل الاعتقال والسجن، ويتصل بمعاملة من يعتقل لأي سبب، سواء لرأيه وموقفه السياسي، أو لارتكابه جريمة. فليس من حق أي موظف حكومي الاعتداء على كرامة المعتقل السياسي أو الجنائي بالتنكيل. فإذا كان المعتقل قد ارتكب جناية يعاقب القانون عليها، فيجب تقديمه لمحاكمة عادلة، وليس من حق أحد تنفيذ الحكم قبد صدوره من القضاة بعد محاكمة عادلة.
وليس بعيدا عن الحقيقة اتهام دول «العالم الحر» بمسؤوليتها عن استمرار سياسات التعذيب على نطاق واسع في الدول الحليفة لها. فما معنى أن يُتوفي الدكتور إياد الرنتيسي البالغ من العمر 53 عاما بعد أربعة أيام فحسب من اعتقاله من قبل جهاز الشاباك الإسرائيلي؟ وما معنى أن تفرض الحكومة الإسرائيلية منع انتشار خبر الجريمة ستة شهور؟ هذا الطبيب كان يدير مستشفى للنساء تابعا لمستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمال القطاع عندما اعتقله الشاباك في 11 نوفمبر، وأُعلن عن وفاته بعد 6 أيام في سجن شيكما الذي يتخذه الشاباك موقعا للاستجواب. إنها جريمة ارتكبت مع سبق الإصرار والترصد. والرنتيسي هو ثاني طبيب من غزة لقي حتفه أثناء توقيفه على ذمة التحقيق، بعد الدكتور عدنان البرش (53 عاما) الذي كان يرأس قسم جراحة العظام في مستشفى الشفاء بمدينة غزة. وتوفي البرش، وهو أبٌ لـ 6 أبناء في 19 أبريل/نيسان من العام الماضي بسجن عوفر في الضفة الغربية. وكان قد اعتقل في خان يونس في ديسمبر/كانون الأول. ويفترض أن لا تمر جرائم التعذيب بدون معاقبة مرتكبي جرائم التعذيب ومثولهم أمام محكمة عادلة. ولكن العالم الذي يغض الطرف عن قتل 37 ألفا من الفلسطينيين، بينهم إبادة عائلات بأكملها، لن يهتز لزعمائه طرف لوفاة معتقل تحت التعذيب. فأرواح البشر وكراماتهم وحقهم في الحياة والمعاملة الإنسانية، ضمن مقولة الواقعية والبراغماتية الغربية والنظرية الميكافيلية، تصلح مادة للترويج الدعائي وليس كقضية تؤثر على المصالح الاقتصادية او التعامل السياسي مع الأنظمة التي تضطهد مواطنيها وتستخدم أبشع الأساليب للانتقام من معارضيها.
في عالم تتضامن أنظمته السياسية لحماية بعضها أصبحت حقوق الإنسان على رأس ضحايا أنظمة القمع والاستبداد. فهناك حماية ضمنية حتى لكيان الاحتلال الذي لم يخضع لعقوبات حقيقية في مقابل ما يرتكبه من جرائم بحق الفلسطينين، وهي جرائم يصل بعضها إلى مستوى «الإبادة». كما لم يتم تفعيل الآليات الدولية لمواجهة جرائم التعذيب. وهناك حالات معدودة تم تفعيل تلك الآليات بشأنها. فقد أدانت المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوادني السابق، عمر البشير في إثر حرب دارفور، ولكن هذه الآليات لم يتم تفعيلها بشكل جاد مع زعماء آخرين. وكانت هناك محاولة لاستهداف مسؤولين إسرائيليين من قبل القضاء الدولي ولكن هناك رضوخا لضغوط أمريكية لمنع ذلك.
ففي 20 مايو الماضي أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان أنه قدّم طلبات الى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال بتهم ارتكاب جرائم حرب، وإبادة ضد الإنسانية، في ما يتعلق بالحرب في غزة وهجوم السابع من اكتوبر/تشرين الأول الماضي. وقال خان إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، يتحملان المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية في غزة، وأضاف أن الأدلة خلصت إلى أن مسؤولين إسرائيليين حرموا بشكل ممنهج فلسطينيين من أساسيات الحياة، وأن نتنياهو وغالانت متواطئان في التسبب بمعاناة وتجويع المدنيين في غزة. ولكن لم تصدر مذكرة اعتقال بحق أي من هؤلاء حتى الآن.
في 10 ديسمبر 1984 اعتمدت الجمعية العامة «اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة» في القرار 39/46، وفتحت باب التوقيع والتصديق عليها والانضمام اليها، وبدأ العمل بها في 26 حزيران 1987. واعتبر ذلك قفزة نوعية في الأداء السياسي والأخلاقي لعالم اليوم. وتسمح تلك الاتفاقية لضحايا التعذيب بالتظلم أمام المحاكم المحلية في الدول التي تصادق على تلك الاتفاقية. فإذا لم تنظر تلك المحاكم في دعاوى التعذيب، فيمكن الترافع أمام القضاء الدولي مثل محكمة الجنايات الدولية والعدل الدولية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
يجدر بالنشطاء الحقوقيين تكثيف جهودهم لتجريم التعذيب ورصد حالاته والتعاطف مع ضحاياه والتصدّي لمرتكبيه بالوسائل القانونية. فمن غير المقبول التغاضي عن معاناة سجناء الرأي الذين يرزحون وراء القضبان في سجون أنظمة الاستبداد والقمع، فذلك هزيمة للإنسانية وانتصار لأعدائها الذين لا يقيمون وزنا للإنسان وروحه ومشاعره.
مطلوب من النشطاء الحقوقيين مضاعفة جهودهم لحماية أبطال الفكر والفقه والموقف والنضال من أجل الحرّيّة. فعالمنا العربي والإسلامي في حاجة لحرية حقيقية ومنظومات حكم منسجمة مع القيم الإنسانية والإسلامية، تحترم الإنسان وتوفر له حصانة ضد التعذيب والمعاملة الحاطّة بالكرامة الإنسانية.

كاتب بحريني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب