
بورتريهات حزينة: هاني نديم يرسم أوجاع العظمة بأسلوب شاعري

أماني فارس أبو مرة
«إلى الوجوه التي امحّت لتثبت غيرها..
إلى الحياة التي تحتاج دوما إلى عمليات تجميل وتنقيح.. إلى أبطالي الحزانى رغم نجاحهم، أبطالي الذين وظّفتهم لدى إحالاتي واستدلالاتي، وكانوا جاهزين أبدا بأخطائهم وكمالهم وسيرهم التي تطاوعني على المحو والتثبيت.
إلى الصحافة والكتابة والبورتريهات الأدبيّة التي تنازع البقاء بكل كبرياء أمام وحش الميديا البشع. إلى هذا الطالب الصغير الذي يكتب بالممحاة لأنّ أقلامه سُرقت أو نُسيت»
كيف لنا أن نتخطّى مثل هذا الإهداء، أو أن نتجاهل الرعشة المفزعة التي تنتابنا عند قراءته؟ كيف لنا أن نتخطّى مثل هذه الكثافة والعمق؟ كيف وقد حذرّنا جينيت من المناص، إنّها العتبات، ما أكثر العتبات، وما أصعب اقتحام أيّ فضاء دون اجتياز العتبة. العتبة فضاء كما قال سعيد يقطين. هناك بالفعل من يُتقن هذا الفن، نعم كتابة الإهداء فن لا يجيده أي كان. مثلُ هذه الإهداءات تسلبك من ذاتك لا يمكنك إلا أن تقف عندها إجلالا ودهشة، هي بمثابة ومضة من نار وضوء، رسالة مكثّفة لا يمكن أن تمرّ عليها مرور الكرام.
يشدّك هذا الإهداء إلى النّص ثمّ يسحبك ويرميك بين ذراعيه، لتُكمل برعشتك ودهشتك على مدار 240 صفحة. بورتريهات حزينة من استديو الأفراح هي بورتريهات منفصلة، عنونها الكاتب بعناوين لافتة ولدت معظمها من رحم سيرة الشخوص نفسها، وأن يكتب هاني نديم عن هذه الشّخصيات، هذا يعني أنّه أحبّها حبّا جما، وأثّرت فيه تأثيرا جما أيضا.
الشخصيات :
«خادم الموسيقى العربيّة سيّدها» سيد درويش، «تحياتي يا مارلين الجميلة» مارلين مونرو، «نينا التي أعادت تفاصيل الأنوثة» نينا ريتشي، «فيلليني رجل السيرك الحزين» فيديريكو فيلليني، «طواحين الهواء التي لا تهزم» ميغيل دي ثربانتس صاحب رواية دونكيشوت، «سيّدة الخذلانات بحركة زائدة من النوم» داليدا وحياتها المضطربة الكئيبة، «لمسة من كعبك أحلى من الحضارات يا دكتور» كابتن البرازيل سقراط برازيليرو سامبايو الطبيب الذي لم يُر خارج التمرين إلا وبين يديه كتاب يقرأه، «دفن غيتاره إلى جانبه وما زال يصدح» روبرت نيستا مارلي مغني البوب الأسطوري الذي كرّمته الأمم المتحدة كرسول سلام. «الخبز الحافي» عار على «الشطار» الخبز الحافي رواية سيرة ذاتية لمحمد شكري، التي وصف فيها عالم طنجة السفلي.»الفجل الذي طال السماء» جوزيه ساراماغو، وهو كاتب إيطالي مثير للجدل، «انهض وقاتل أيّها الضعيف» محمد علي كلاي، «شاكيرا السخيفة» المغنية الكولومبية، «لم يغب، بل قل توارى كبلبل في عريشة» ناظم الغزالي، «أكتب بسرعة لأنّني لا أكتب ببطء» جورج سيمنون، «قنديل في جوف العتمة « طه حسين، «ياسينو «كلاكيت» آخر مرة» ياسين بقوش، «المدفون عاريا في الغضب» الكاتب الجزائري رشيد بو جدرة، «فيروز.. دمشق.. فيروز» «ذاكرة العشب القصير في كرك بينار» المصارع يوسف إسماعيل التركي، «أهرام الشام» نزار قباني، «القصبجي قصب من ذهب» محمد القصبجي، «نقطة الضعف اللي عندي» فايزة أحمد ومحمد عبد الوهاب فرنكشتاين الموسيقى العربية، «أُحد الشّعر» محمد مهدي الجواهري، «ما الذي لم يفعله بيير كاردان؟» «حدائق الفانيلا، سندويشة الشّعر والرّفيف» سعاد حسني، «منى واصف… قدود دمشقية» «بابا الحزين، بابا المبهج» إرنست همنغواي، الإله الفادح «بورتريه لماردونا.. بورتريه لنابولي».
قدّم الكاتب بورتريهات هذه الشخوص بأسلوب أدبيّ سرديّ كثيف كثير الشّاعرية والشّفافية، فكّكها بقلبه وعقله وشاعريته ورهافة لغته، سلّط الضوء على هوامشها ومسيرتها المُتعبة الهشّة المهمّشة، رغم عظمتها وشهرتها، سلّط الضوء على مأساتها وتعاستها، تارة يخاطبها مغازلا بؤسها، وتارة يخبرها كيف سارت الحياة من بعدها، ينصفها يجلّها، يبكيها ويواسيها بحروفه.
يقول في بورتريه مارلين مونرو: «أوه يا مارلين.. أنت لست فوتوجونيك.. كيف أشرح الأمر؟ أعني تلك النظرة في عينيك! يا للبلاهة، افعلي شيئا لتتخلصي من هذه النظرة الطفولية، أوه يا عزيزي المخرج، كيف ستتخلّص مارلين من تلك الطفولة المرعبة؟ كيف ستنسى أنّها تنقّلت بين إحدى عشرة أسرة تبنّتها، وكانت تقول لاثنين وعشرين رجلا وامرأة: «بابا» و»ماما» ولم يكن أحدهم كذلك…» هذه البداية الخانقة هي ما بدأ به نديم بورتريه مارلين مونرو مخاطبا طفولتها. خاطب أيضا فيروز بسرد شاعريّ شفيف وذلك في رسائله الطفولية التي ضمّنها أيضا نصوصا من نتاجه الثري. يقول لها (لفيروز): مدجّج هذا الوطن سيدتي بالثورات والحروب المؤجلة والبدلات الخاكية، لكن العصافير والسنونو لم تقطع سماءه يوما، ولا صوتك أيضا. كان يأتي… ليمسحنا ككف نبيّ، يعيد تشكيل يومنا وما لحق بليله من كوابيس وبؤس وجوع وقهر». ولم يكتف بالحديث عن هذه الشخوص فقط، إنّما نقل حواره معها هو الصحافيّ الإنسان، ها هو يسرد لنا ما دار بينه وبين سنديانة دمشق منى واصف من حديث، يقول: «قلت لها: ما زلت تؤمنين بالمسرح سيدتي؟ قالت: تسألني وأنت هنا مثلي، ماذا تعمل هنا؟ أجبتها: إنّه أكل عيشي، قالت: أمّا أنا فإنّه عيشي». ونجده في بعض البورتريهات يتحدّث عن سبب تغلغل هذه الشخصيات في قلبه كقوله في بورتريه جورج سيمنون: «أنا لا أكتب عن جورج سيمنون لأنّني أحب أدبه، قرأت له أربع روايات ومجموعتين قصصيتين ولم يلامس ذوقي.. إلا أنني منذ عرفت تفاصيل حياته وما فعله ومرّ به، تغلغل في روحي وقلبي ولم أستطع تجاوز الكتابة عنه كأحد نماذجي الكبرى في الاستدلال على الإدمان المهني والالتزام الكتابي بفضائله وشروره». يخيّم الحزن على هذه البورتريهات، لكنّه لا يفقدها اللّذة والمتعة والسّحر الذي ينفثه الكاتب من روحه الشّاعرة في سرده، هذا السرد الذي يمزج فيه بين الحكاية والشّعر بجهد عظيم، لا يقل عظمة عن شخوصه ومسيرتها المثيرة للجدل وللمشاعر.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ اللافت في هذا الكتاب ليست فقط لغته العالية المدهشة المطعّمة ببعض المفردات العاميّة المنثورة بين فصاحة الكاتب ونصوصه الفارقة، ولا بذائقة كاتبه المتفرّدة باختيار شخوصه وبدّقة تواريخه والمعلومات التي يضمنّها فيه، ولا بكرمه وصدقه وسحر واقعية ما يبوح به، بل بالموسوعية المذهلة التي يملكها هذا الكاتب الرحّالة، الموسوعية التي تأسرك وتشعرك بالغبطة، نجد بين دفتيه الكثير من الأخبار والأسماء السياسيّة والاقتصادية، بالإضافة إلى الكثير من أسماء الأماكن والبلدان والكتّاب والممثلين والنقّاد والفنانين والرسامين والموسيقيين والمصممين، ولاعبي كرة القدم والمصارعة، وأسماء العطور أيضا.
كتاب فيه الكثير من الثقافة والمعرفة والإبداع والمتعة والسلاسة والجمال والغنى. هذا الحزن الدفين أثمر عن هذا الكتاب الغني المتين، ووضع العدسة المكبّرة على التفاصيل المنسية في مسيرة أبرز الشّخصيات من المشاهير، الذين أثرّوا في هاني نديم بحيواتهم وتجاربهم ومأساتهم.
وسأختتم بقول لنزار قباني يقول فيه: «بعضهم يكتب لتصبح مساحة الفرح في العالم أكبر» وهاني نديم يكتب الحزن للسبب نفسه.
« بورتريهات حزينة من استديو الأفراح» لهاني نديم، صادر عن دار كنعان للدراسة والنشر، دمشق عام 2021
كاتبة سورية