مقالات

اغتيالات وحروب: فوضى الشرق الأوسط

اغتيالات وحروب: فوضى الشرق الأوسط

د. مدى الفاتح

ما تزال هذه المنطقة، التي أصبح من الشائع أن يطلق عليها اسم «الشرق الأوسط»، قادرة على جذب انتباه العالم، واليوم وبعد نجاح الكيان في اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خلال زيارته للعاصمة الإيرانية طهران، تتجه الأنظار للأطراف الفاعلة، في انتظار ردود الأفعال على هذه الخطوة، التي يمضي البعض للقول إنها قد تغير مستقبل المنطقة.
حتى نضع الحدث في موقعه، ونمنحه الأهمية اللازمة يمكن القول إنه، خلال فترة قصيرة قد لا تتجاوز العامين، اختبرت المنطقة ثلاث مراحل لانتقالات سريعة مختلفة، هذه المراحل بدأت بفترة هدوء غلب عليها التصالح وتطبيع العلاقات، خاصة بين الكيان ودول خليجية، قبل أن يمر الجميع بمرحلة عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. تلك العملية شكلت صدمة وأرخت لإعادة ترتيب المشهد وقطع الطريق على مخططات التطبيع، التي كانت ستأتي على حساب الحق الفلسطيني. أما في الأسبوع الماضي، ومن خلال تنفيذ عملية اغتيال إسماعيل هنية، فيمكن القول إننا دخلنا مرحلة جديدة ثالثة مفتوحة على احتمالات التصعيد والمواجهة، التي لا يستطيع أحد أن يتكهن بمآلاتها.
أحد الأقطاب الرئيسية واللاعبين الأساسيين في ما يتعلق بهذه المرحلة الجديدة هو إيران، فالمستهدف، وإن كان قيادياً فلسطينياً، إلا أن العملية تمت في طهران، ما جعل البلد، الذي يخوض معارك سياسية معلنة ضد الكيان منذ عقود، عرضة للاتهامات وفق سيناريوهين، كلاهما في غير مصلحة صورته. يتعلق السيناريو الأول بافتراض حدوث تواطؤ، بشكل ما، أدى لتسهيل عملية الاغتيال. هذا الاتهام، الذي طرحه منذ البداية بعض المشككين، كان بإمكانه، في حال ثبوته، أن ينسف كل دعاية المقاومة، التي ظل النظام الإيراني يستثمر فيها، حيث كان سيُظهِر الإيرانيين بمظهر المتآمر. أما السيناريو الثاني فهو أن «قبلة المستضعفين» كانت تعجز فعلاً عن حماية ضيفها المهم، الذي يعلم الجميع أنه من المستهدفين والمطلوبين من قبل أعداء مشتركين لاهثين في سبيل تحقيق أي نجاح. لا يتعلق الأمر بالضيف المهم فقط، ولكن بكل تفاصيل الزمان والمكان، فقد كان هنية تحت حماية «الحرس الثوري»، الدائرة الأمنية التي يفترض أن تكون أكثر تحصيناً، كما كان الحدث إبان مناسبة استثنائية وهي تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان. كان صدى هذه العملية يصيب إيران أكثر من أي طرف آخر، وهو ما جعلها لا تتأخر في إطلاق التصريحات الغاضبة والمتوعدة. الحرج الإيراني مفهوم، لأنها، ومثل ما يحدث في كل عملية يتم الاستخفاف بها فيها، عبر تنفيذ اغتيالات أو توجيه ضربات في عمقها الاستراتيجي، تجد نفسها مجبرة على الرد، الذي يجب أن يكون قوياً وموزوناً في الوقت ذاته، حتى لا يقود لرد فعل غاضب مقابل، حيث إن أي رد فعل متهور قد يجعل البلد، الذي يعاني اقتصادياً، والذي لا تنقصه المشكلات، مجبراً على الدخول في مواجهة مباشرة لا يحمد عقباها.

إيران تجد نفسها مجبرة على الرد، الذي يجب أن يكون قوياً وموزونا، لأن أي رد فعل متهور قد يجعل البلد، الذي يعاني اقتصادياً، ولا تنقصه المشكلات، مجبراً على الدخول في مواجهة مباشرة لا يحمد عقباها

هذا الوضع المحرج، الذي وجدت إيران نفسها فيه، يجعل من الصعب القبول بفكرة التقصير أو التواطؤ الرسمي حول عملية الاغتيال، وإذا كان البعض يستدعي المسألة المذهبية هنا، ويشكك في صدق دعم نظام «الولي الفقيه» لحركة حماس السنية، فإن علينا أن نتذكر أن هذه ليست عملية الاغتيال الأولى، التي تنفذ ضد قيادة بارزة، سواء كانت عسكرية أو حتى علمية. إيران كانت فقدت بالفعل بسبب الاختراق الأمني الواضح، الذي بات من الصعب إنكاره، الكثير من الشخصيات المهمة. الاختراق الأمني لم يقتصر على تنفيذ اغتيالات، بل ظهر أيضاً من خلال أعمال التخريب والعبث، التي تكررت خلال السنوات الماضية، والتي طالت مناطق حساسة، على رأسها المساحة النووية. نلفت هنا إلى أن الكيان نجح، بالتزامن مع عملية هنية، في اغتيال فؤاد شكر، الذي على الرغم من أنه لا يحظى بشهرة هنية، إلا أنه من الأسماء المهمة، فقد كان مسؤولاً عسكرياً رفيعاً وأحد المستشارين المقربين من حسن نصر الله زعيم «حزب الله اللبناني»، الذراع الشيعي الأهم لإيران في المنطقة. المفارقة أن اغتيال شكر تم أيضاً أثناء وجوده في «شقة آمنة» تابعة للحزب في الضاحية الجنوبية، ما يطرح أسئلة حول مستوى التأمين والحماية. وفق المنطق الذي نذهب إليه، وبالاستناد إلى التزامن مع عملية فؤاد شكر اللبنانية، التي تجعل من الصعب إخضاع الأمر للتفسير السهل المتعلق بنظرية التواطؤ والمذهبية، فإن الظاهر أن اغتيال هنية سيكلف إيران الكثير، حيث سيكون من الصعب عليها أن تبحث عن تهدئة، أو أن تنأى بنفسها عن الانخراط في المواجهات المقبلة المتوقعة.
من التصريحات المعتادة لـ»محور المقاومة» في مثل هذه الأجواء الملبدة برائحة البارود التهديد برد فعل فعال ومتكافئ مع حجم الحدث. يذكر هذا بحالة الترقب، التي سبقت إطلاق إيران عشرات الصواريخ والطائرات المسيرة باتجاه الكيان في أبريل/نيسان الماضي. العملية، التي أطلق عليها بافتخار حينها اسم «الوعد الحق»، كانت مثالاً للرد القوي، لكن المتوازن، فمن ناحية كان إرسال مجموعة من الصواريخ إلى داخل مناطق يعتبرها الكيان جزءاً من حدوده عملاً معبراً لا يجرؤ الكل على القيام به، ومن ناحية أخرى، فإن تأخر وصول تلك الصواريخ وغياب عنصر المفاجأة وتحديد مواقع سقوطها، بحيث لا تمس أي مكان استراتيجي ولا توقع أي ضحايا، كان يجعل الأمر أشبه بلعبة مدروسة لحفظ ماء الوجه عقب الاستهداف الإسرائيلي لمباني دبلوماسية إيرانية في دمشق، وهي العملية، التي كان نتج عنها، مقتل أحد القادة في «فيلق القدس».
اليوم يتكرر المشهد، فمرة أخرى لا يبدو الكيان، على الرغم من أصوات التهديد، نادماً على عمليته، التي تأتي ضمن سلسلة طويلة من أعمال الاغتيال، التي شملت قيادات من مختلف تشكيلات المقاومة، والتي استمرت وتحولت لسياسة منذ بداية حرب غزة. هذا الإصرار والاستفزاز، والتلويح المستمر بالقدرة على فتح باب حرب شاملة والقيام باجتياح كامل للبنان، لم يكن يترك للإيرانيين مساحة كبيرة للمناورة، فحتى لو كانت القيادة في طهران تتطلع للتهدئة، أو لاستعادة الحوار مع الغرب حول الاتفاق النووي وغيره من القضايا المتعلقة بالتطبيع السياسي، فإن الشرائح المتشددة داخل النظام لن تهدأ وستضغط من أجل القيام برد فعل مناسب. من جهة أخرى، فإنه يظل من غير المطروح على المستوى الإيراني التخلي عن الحلفاء اللبنانيين، أو السماح بتفكيك «حزب الله»، على الأقل في الوقت الحالي، ما سيوجب مزيداً من الانخراط الإقليمي.
موقف الولايات المتحدة يظل جديراً بالمراقبة، القوة الأعظم تبدو من جهة مستاءة من التصعيد الإسرائيلي، الذي يضعها في مواجهة مع العالم ويظهرها بمظهر المساند لعمليات إبادة جماعية ومجازر لا يمكن تبريرها، كما تبدو، على الجهة المقابلة عازمة على التدخل السريع لحماية الكيان، إذا ما دعت الضرورة، وهو ما يظهر في التصريحات الأمريكية الداعمة لحق تل أبيب في الدفاع عن نفسها، كما يظهر في حالة الاستعداد العسكري عبر تحريك المدمرات البحرية وحاملة الطائرات في منطقة الخليج والبحر المتوسط ووضعها في حالة تأهب.
كاتب سوداني

كاتب سوداني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب