
ما يتعلمه الممثل السوري في طهران!

راشد عيسى
لماذا يثير خبر زيارة فنانين سوريين لطهران الاستهجان!
لا بد من الاعتراف أن الزيارة مستهجنة حقاً، وأن صور الوفد السوري، المكوّن من طلبة وأساتذة وخريجين من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، في طهران أخيراً، أثارت الدهشة والفضول، واستحقت تعليقات شتى لمعارضين سوريين على مواقع التواصل.
هنيهة تفكير قصيرة ستقود إلى الاستنتاج بأن الزيارة متأخرة قياساً لعلاقات مبكرة ووثيقة بين طهران ودمشق. وهي علاقات لم تكن من ذلك النوع الدبلوماسي العادي المنسوج بأواصر واضحة وشفافة، كما يحدث بين سائر الدول، فقد كشفت الثورة السورية التي انطلقت العام 2011، أن «الحرس» بأصنافه المختلفة كان موجوداً ومتحكِّماً وجاهزاً لأي طارئ، كطارئ آذار السوري.
زيارة الفنانين السوريين إلى إيران متأخرة قياساً للعلاقات المبكرة والوثيقة بين طهران ودمشق. وهي علاقات لم تكن من ذلك النوع الدبلوماسي العادي المنسوج بأواصر واضحة وشفافة، فالـ«الحرس» كان موجوداً ومتحكِّماً
هنيهة فقط، وستعود بك الذاكرة إلى سوريين اعتُقلوا لانتقادهم إيران، إلى التشييع وانتشار الحوزات الحسينيات، الذي كان على قدم وساق، إلى مقام السيدة زينب (والبلدة برمتها) الذي غدا إيرانياً جملة وتفصيلاً، وزيارات كتّاب ونقاد سينما ومسرح إلى طهران للمشاركة في مهرجاناتها، وصولاً إلى الجامعات واعتماد الفارسية فيها على نحو أوسع، وتخصيص ركن ثابت وبارز في قنوات إعلامية إيرانية لسوريا (انظر قناة العالم)، إلى حد بدا وكأن سوريا محافظة من محافظات إيران ليس إلا، ولا ننسى أن جزءاً من الهيمنة جاء عبر لبنان، فقد كان «حزب الله» جاهزاً على الدوام، قوةً عسكرية ضاربة فعلت فِعلها في السيدة زينب، كما في القصير وريف إدلب وحلب ودير الزور، وإعلامية وثقافية ودرامية، وخلافه.
مقام السيدة زينب فرّخَ مقامات أخرى، كمقام الست رقية في قلب دمشق، ووفود السياح الإيرانيين لم تعد تقتصر على المقامات، أما عقود الإيجار والتملّك ومنح الجنسية السورية لإيرانيين فالأخبار تورد الكثير عنها، توطئة للتملك وللتغيير الديموغرافي.
يكفي أن اللغة الفارسية أصبحت واحدة من أهم اللغات التي يتحدث بها سوق الحميدية، كان ذلك حتى قبيل الهيمنة الصريحة، بالتجاور مع لغات أخرى تَعَلَّمَها «الحَوّيصة» لزوم جذب الزبائن. وليس من المستبعد اليوم، مع انفضاض أنواع السياح واقتصار السوق على الإيرانيين، أن تصبح الفارسية لغة أسواق الشام الأولى.
كل ذلك، ورُحنا نستهجن زيارة بضعة فنانين ومشتغلين في المسرح لطهران. قد يكون الجواب في أن تلك العلاقات (السورية الإيرانية) كانت دائماً محاطة بالشك، بل والزعم بأن هناك (من بين أنصار النظام) من يرفض الهيمنة والوجود الإيراني في البلاد، ويمكن القول إن هناك مساراً منفصلاً عن ذلك العالم، فالهيمنة لم تكن تعني أن ترى زواراً إيرانيين للمعهد العالي للفنون المسرحية أو دار الأوبرا أو مختلف العروض في مسارح دمشق، والعلاقات الثقافية لم تصل إلى حدّ استعارة أساتذة إيرانيين للتدريس في المعهد، لذلك فإن في إمكان المغفّلين إنكار الهيمنة، تماماً مثلما كانوا قادرين على إنكار تظاهرات العام 2011 والسنوات التالية.
الآن، وبجهود عميد المعهد المخرج المسرحي ثامر العربيد، ورفاقه، بالتعاون مع السفارة والمستشارية الإيرانية في دمشق، اجترحت الزيارة، وضمن برنامجها، حسب تصريحات الوفد، البحث حول إمكانية استثمار هذه الزيارة بشكل عملي من خلال ورشات عمل وتبادل الخبرات وزيارات بين المسرحيين وإقامة عروض مسرحية مشتركة والمشاركة في المهرجانات في كلا البلدين.
وقد زار الوفد بالفعل متحف «الدفاع المقدس» «الذي يعكس التاريخ النضالي للشعب الإيراني بحروبه وانتصاراته». كما حضر الوفد عرضاً لفناني المسرح الإيرانيين على مسرح «وحدت» الكبير المعروف في طهران، ومسرحية بعنوان «العباس ثابتاً».
وزار الوفد الحوزة الفنية لعموم الفنون في طهران، ومختلف الأقسام الحرفية في الحوزة من فنون الأطفال والفنون المسرحية والكتاب والفنون التشكيلية.
ومن بين كل أهداف الزيارة تبدو فقرة «العروض المسرحية المشتركة» مثيرة للاهتمام، إذ في الإمكان من الآن فصاعداً أن نتخيل مسرحاً بشروط رقابية إيرانية، نتذكر (ونقيس في ضوء الذكرى) كيف أن إيطاليا، بجلال قدرها، غطت التماثيل «العارية» في متحف كابيتوليني أثناء زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني، العام 2016، واستجابت المآدب الرسمية الرئاسية الإيطالية لرفض روحاني حضور مآدب تتضمن الكحول.
وقد تتطلب عروضُ مسرح مشتركة شروط الاحتشام وفق شرطة الأخلاق الإيرانية، الحجاب على الرأس حتماً، والملابس تغطي الصدور والأكمام، والزوجة عليها ارتداء الحجاب حتى لو ظهرت على سرير الزوجية مع زوجها، والمصافحة ممنوعة بين الجنسين، ولركوب رجل وامرأة على دراجة نارية لا بد من وضع حاجز مفتعل يمنع التلامس بينهما، حتى لو كانت المرأة أماً لسائق الدرّاجة،.. هذا إذا غضضنا الطرف عن الأفكار والمعاني ذاتها المطروحة في العروض الفنية المشتركة.
قد تتطلب عروضُ مسرح مشتركة شروط احتشام وفق شرطة الأخلاق الإيرانية، الحجاب على الرأس حتماً، والملابس تغطي الصدور والأكمام، والزوجة عليها ارتداء الحجاب حتى لو ظهرت على سرير الزوجية مع زوجها، والمصافحة ممنوعة
لا يفوتنا بالطبع أن الزيارة تأتي فوراً إثر مشهد دموي عاشته البلاد بعد تظاهرات وقمع دموي بسبب مقتل مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق بزعم ارتدائها الحجاب بشكل غير مناسب. وفي الوقت الذي تحوّل فيه الاحتجاج على الحجاب إلى احتجاج سياسي يتوق إلى الحرية، تذهب ممثلات سوريات إلى طهران مُمْتَثِلات لشروطها، ويسافر ممثلون وأساتذة وتقنيون لاستلهام التجربة الإيرانية في الوقت الذي ينفض عنها أعلامها، الذين دفعوا ثمن احتجاجهم ومناكفتهم للسلطات من حياتهم وفنهم، سجناً ونفياً وهروباً وأحكام إعدام. (آخر الواصلين إلى المنفى محمد رسولوف، الذي غادر إيران سراً، وقرر البقاء في الخارج بعد تجربة سجن مضنية).
لكن من يتوقع غير هذا من ثامر العربيد؟! من يتوقع من مخرج عديم الموهبة، لم يصل إلا بقوة «البعث» (وسائر المؤسسات الرديفة وأقبيتها)، وانتعش بالضبط في غياب زملاء معارضين، أن يرفض شيئاً، أو يتخذ موقفاً، أو يطالب بشيء من حرية؟
وبالعكس؛ إنه، هو وأمثاله، قد نذروا أنفسهم لزمن أكثر انصياعاً، ففي أيام الرفض لن يكون لهم ذكر.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»