ثقافة وفنون

مغامرة بلمسة جديدة مختلفة: باليه «شهرزاد» في مسرح مارينسكي الروسي

مغامرة بلمسة جديدة مختلفة: باليه «شهرزاد» في مسرح مارينسكي الروسي

بهاء بن نوار

كدأب أغلب المسارح الرصينة، يخوض مسرحُ مارينسكي الروسيّ المعروف بعنايته بتقديم العروض الكلاسيكيّة مغامرَتَه مع باليه «شهرزاد» بلمسةٍ جديدةٍ مختلفةٍ عن لمسة مسرح البولشوي، وإن اتفقت معها في الخطوط العامّة لحبكة الليبريتّو؛ الحكاية الإطاريّة لألف ليلة وليلة:
يبدأ العرضُ بمنظرٍ عامٍّ للديكور، يبدو من خلاله مكانُ الأحداث وزمانُها واضحيْن، محدديْن؛ فالمكانُ هو قصرُ شهريار، وتحديدا جناح حريمه، وموضع راحته ونعيمه، نستشفّ هذا من بعض القرائن: المحظيّات الكثيرات المتفرّقات في أنحاء القاعة، و«كبير الخصيان» الذي يطوف متأهّبا، ويعطي الأوامرَ لتابعيه، فيشرعون في العزف، وعلى إيقاع موسيقاهم، ترقص ثلاثُ محظيّاتٍ، ويشيع جوٌّ من البهجة، نتلمّسه من إقبال شهريار على زوجته، ومعانقتها، ومنحها هديّةً ثمينة: عقدا لؤلؤيّا، تفرح له كثيرا، لولا عدوٌّ لدودٌ يجلس غير بعيدٍ عنها، وينتظر الفرصة السانحة ليكيد لها: شاه زمان؛ شقيق زوجها، وموضع سرِّه وثقته.
يبدو الديكورُ بسيطا، فعدا مخدع السلطانة الصغير جهة اليسار، لا نكاد نرى سوى بعض السجاجيد المتناثرة جهة اليمين، وفانوسيْن ينحدران من أعلى ستارةٍ خضراء تمتدّ على طول السقف، وتبدو من خلالها نقوشٌ ذهبيّةٌ، تعكس خصوصيّة بيئة الأحداث وتحتويها. أمّا الجدران، فيعكس عليها تدرّجا الأزرق؛ الداكن والفاتح أقواسا شرقيّةً، تبدو مثل الشبابيك المغلقة وقد غمرها الظلامُ والسكون.
أمّا الزمان، فيشير اللونُ الأزرق الداكنُ الطاغي على الأجواء، والملتحم بإضاءةٍ خافتةٍ، تتدرّج بين الظلام الكثيف يمين المسرح وبعضٍ من الضوء الشاحب يساره إلى إيقاعٍ ليليٍّ، تعلو فيه الحميميّة، ويبدو السلطانُ وقد ترك مؤقّتا أعباءَ الحكم والسياسة، وانفرد بنسائه، وبزوجته: «زبيدة» ولا شيء يقلق راحتَه سوى وسوسات أخيه ووشاياته.
أمّا فيما يخصّ علاقات الشخوص فيما بينها، والظلالَ الخفيّة المتحكّمة في سلوكها، فيمكن الوقوف عند بعض النقاط، أهمّها: ذلك التوتّر الخفيّ الذي يشيعه حضورُ «شاه زمان» الذي يبدو ضيفا غير مرغوبٍ به من نساء القصر، وإلى جانب هذا نلاحظ علامات قلقٍ ثقيلٍ بادية على وجهه، وهو كثيرُ الشرود، شديد الكرب والاهتمام: هل يفكّر في مصيبته الشخصيّة بعد أن وجد زوجته التي يعشقها، تخونه مع أحد أفراد حاشيته، أم أنّه يفكّر في مصيبة أخيه، ويودّ إيقاظه من غفلته؟ فلا يني يهمس له بتحذيراته ومخاوفه، فيهملها هذا، ويقنع بابتسامةٍ رقيقةٍ ونظرة حبّ حانيةٍ من زوجته، فيطمئنّ، وتهدأ نفسُه.

الوجه المراوغ

وهنا يبدو الوجه المراوغ لهذه المرأة؛ فهي ومنذ أول حضور لها على المسرح تبدو في غاية الاكتفاء، والسعادة؛ تبتسم بهدوء لسيّدها، وتكاد تطير فرحا لذلك العقد الذي أهداه لها، ولا تبدو عليها أيّة بادرة حقد عليه أو على محظياته، اللواتي يعانقهن دون خجل أمامها، لا شيء يوحي بنقمتها، وما من بادرةٍ تشير إلى نفورها منه. وممّا يلفت النظرَ أيضا: ذلك البرود القاسي الذي يغلّف علاقتها ببقيّة المحظيّات، فلم يحدث طوال العرض أيُّ تواصلٍ أو حتّى شجار بينها وبينهنّ؛ فلدى اقترابهنّ من زوجها، تُعرض عنهنّ، وتراقب المشهدَ من خلال مرآتها، دون أن يبدو على وجهها أيُّ غضبٍ، أو انفعالٍ، ولدى محاولتهنّ خداعَ كبير الخصيان واختلاسَ المفاتيح منه، تكون هي في منأى عنهنّ، ولا تحضر إلا بعد تمكّنهنّ من إدخال عشاقهنّ، فتبدو الدهشة عليها، وتسعى بطريقتها إلى فتح الباب، ودخول عشيقها أيضا، فتأمر الخصيَّ بذلك، وحين لا يستجيب، تلقي إليه بازدراءٍ بعقدها الثمين؛ هديّة زوجها، وتفتح البابَ بنفسها، فيدخل صاحبُها: «العبد الذهبيّ» وتركّز الكاميرا على طقوس عشقهما الطويل، فيما ينزوي البقيّة في الظلام، ولا نكاد نلمح سوى خيالاتٍ شحيحةٍ لهم. ثمّة إذن مسافةٌ هائلةٌ تفصل بينهنّ، رغم تساوي وضعهنّ، ولنا أن نتساءل مع كلِّ هذه الأبواب والشبابيك المغلقة دونهنّ، وكثافة الرقابة المسلّطة عليهنّ عن سرِّ سهولة وصول العشّاق السريّين إلى مخدعهنّ: هل هناك عيون خفيّة تنقل لهؤلاء تفاصيل ما يجري في القصر، ومواعيد خروج السلطان وقدومه؟ أم أنّهم دائما متأهّبون قرب البوّابة في انتظار أيِّ طارئ يمهّد جوَّ العشق والمتع أمامهم؟ وماذا عن رفيقهم: «الذهبيّ» الذي لم يدخل معهم وفضّل الانتظارَ إلى أن تفتح له عشيقته «السلطانة» البابَ بنفسها؟ لعلّه يعلم أنّها لا تكلّم بقيّة المحظيّات، وليس من الحكمة المجازفة بالدخول دون التأكّد من أنّها هناك، أو لعلّ لتأخير قدومه دورا آخر أدائيّا غايتُه تركيز البصر أكثر عليه، وتمييزه عن بقيّة العبيد، وهو المختلف عنهم، في موقعه، ودوره، ومظهره؛ فهو عشيق السلطانة وصاحب الحظوة الأولى لديها. وهو ما تأكّد لدى تركيز الكاميرا عليه هو دون غيره من العشّاق، الذين اختفوا في الأركان المظلمة من القاعة، ولم يخرجوا من عزلتهم إلا في لحظة الذروة، حين تدفّقت الموسيقى، وتفجّر إيقاعُها عاليا وسريعا، لينهمكوا كلّهم في رقصةٍ جماعيّةٍ، اشترك فيها أيضا كلُّ مَن في القصر من جوارٍ، وخصيانٍ، وساقياتٍ، وراقصاتٍ، وغيرهم، ليبلغوا بهذا قمّة التمرّد، وذراه، ولم يكن عبثا تزامنُها نغَميّا مع الحركة الرابعة في متوالية كورساكوف، التي أتت ختاما لبقيّة الحركات، وتميّزت بسرعتها، وتناوسها بين الشدّة التي وقّعتها آلاتُ النفخ وضرباتُ الوتريّات العالية، والرقّة، التي تدفّقت من صوت الكمان المفرد، فكانت بهذا صوتا مفردا وجمعيّا في الآن نفسه، تداخلت معه حكاية زبيدة وعشيقها الذهبيّ بحكايات بقيّة نساء القصر وعشّاقهنّ.

فرصةٌ نادرةٌ للانتقام

ومن بين التفاصيل التي تجذب الانتباهَ، كأس الخمر التي يناولها كبير الخصيان لزبيدة، فتناولها بدورها للعشيق، الذي يعبّ منها، ويترك فيها بعضَ البقايا، تأتي هي عليها، ممّا يوحي بتواطؤ كبير الخصيان، ومشاركته الفاعلة فيما يحدث؛ فهو حين فتح الأبوابَ، فإنّما فعل ذلك منقادا بضعفه نحو الذهب والجواهر، ولكنّه بإحضاره الشرابَ، ومباركته للعشيقيْن، يوحي بموافقته على جميع ما يحدث: إنّه شديد التشفّي في سيّده، وإنّ هذه لفرصةٌ نادرةٌ للانتقام، والثأر لكرامته المهدرَة. ويلفت انتباهَنا أيضا ولعُ هذا الخصيّ بالجواهر، وعشقه الشديد لجميع أنواع الحلي والنفائس، ممّا يوحي بمدى التشوّه العميق الذي نال روحه، فلم تعد تستهويه سوى زينة النساء ومقتنياتهنّ، وهو ما أدركته المحظيّاتُ بشدّةٍ حين حاولن بدءا مغازلته، واستفزاز بقايا رجولته، فلم تثمر محاولتهنّ، ولم يستطعن التأثير فيه إلا بعد أن منحنه بعضا من جواهرهنّ، عندها فقط لان، وقام إلى الباب يفتحه، وطوال جلسات الغرام الطويلة تلك، لم يكد يرفع عينيْه عن كنوزه الصغيرة، فكان العشّاق بقربه مختلين ببعضهم، يتطارحون الهوى، وهو يختلي بجواهره، ويجعل منها موضوع عشقٍ بديلٍ عن المرأة التي حُرم منها.
ويذكّرنا العشيق الذي يتناول الخمرَ الآن بالزوج الذي تناولها أيضا قبيْل خروجه للصيد؛ كلا الفعليْن يستجلب معنى طقوسيّا، ونفَسا سحريّا، أوّلهما يأتي طقسا للحبّ، والرغبة، والغرام، والثاني يأتي طقسا للإبادة، والعدوان؛ أوّلهما أيروسيٌّ، ينشد الانفتاحَ والحلولَ في ذاتٍ ثانيةٍ؛ هي ذات المرأة، وجسدها الطافح بالخصب والحياة، والثاني عدَميٌّ، يعلي طاقات التوتّر، والإقصاء، ولا يستجلب غير متعةٍ قاسيةٍ، أساسُها العنفُ والدماء.
وبذكر طقس الصيد والإبادة هذا، فإنّ ما يلفت انتباهَنا ذلك الجوُّ الليليّ المخيِّم على مخدع الحريم، فهل أدلج «شهريار» حقّا للصيد حينها؟ وأيّ صيدٍ هذا الذي يُطلَب في ذلك الليل البهيم، حيث تأوي الطرائدُ من طيرٍ أو وعولٍ أو جوارح إلى أعشاشها ومغاراتها، ولا تلوح سوى مخلوقات الليل التي لم تكن يوما هدفا للقنص؟ ما الغاية من اختيار هذه الفسحة الزمنيّة التي فضلا عن عدم إمكان تحقّقها واقعيّا، تتناقض أيضا مع النصّ المرجعيّ، الذي وقعت فيه الأحداثُ نهارا، فدامت في الأصل العربيّ منذ بداية الصباح حتّى ولّى النهار، وامتدّت حتّى منتصف الليل في النسخة الفرنسيّة. وهو ما يحيل إلى أنّ اختيارَ الليل زمنا للأحداث في هذا العرض لم يأتِ إلا لغاياتٍ ترميزيّةٍ، أوحى من خلالها بأمريْن؛ أحدهما جوّ الحميميّة والخصوصيّة، اللذيْن لا يتحقّقان إلا في ذلك الزمن الليليّ الهادئ، والثاني جوّ الغموض، والتكتّم، اللذيْن يشيعهما عالم الحريم، وفضاؤه المغلق، والمحتشد بالمكائد والأسرار.
وهكذا أتت هذه النسخة من العرض على غايةٍ من التركيز والإتقان، وقد اختصرت أهمَّ جماليّات العرض الأول برؤية فوكين، ويأتي الأداء المتقن للنجميْن: سفيتلانا زاخاروف (Svetlana Zakharova) وفاروخ روزيماتوف (Faroukh Rouzimatov) بدوريْ «زبيدة» و«العبد الذهبيّ» ليعلقا طويلا في الذاكرة، ويغدوا اثنيْن من أهمّ أيقونات هذا العرض

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب