
«الهيدونية» والطريق السريع للدونية

نعيمة عبد الجواد
كرَّس الكاتب الإنكليزي «أوسكار وايلد» Oscar Wildeنفسه للسعادة، وكان يجترّ منها قدر الإمكان بكل الطرق حتى غرق فيها وصار يبحث عن كل ألوان السعادة المشروعة وغير المشروعة بطريقة «هيدونية»؛ أي تستهدف الإغراق التَّام في كل ألوان اللَّذة مهما كانت. وكان يساعده على الحصول على تلك الملذَّات ذكاؤه الفذّ وشخصيته السَّاحرة التي جعلت الجميع يلتفون حوله. وتمجيدًا لذاته، كان يردد دومًا: «هناك البعض يصنعون السَّعادة أينما حلُّوا، وهناك آخرون تحلّ السَّعادة كلَّما رحلوا». ولقد كان بالتأكيد يرى نفسه ذاك الشخص صانع السَّعادة أينما حلّ. لكن بدراسة تاريخ حياة «أوسكار وايلد» ينبلج أنه لم يكن سعيدًا، بل كان مجرَّد باحث عن السعادة، بل إنه أغلب الوقت كان يحاول اقتناصها، لكنها اعتادت على الفرار منه، كما لو كانت ظلُّه الذي يلازمه، لكنه بعيد كلّ البعد عنه. ولقد عبَر عن هذا الحزن العميق الذي صار نصيبه في خطابه الفني المفتوح الذي كتبه في فترة سجنه تحت عنوان «من الأعماق» De Profundis. ومن الغريب أن «أوسكار وايلد» قد عبَّر عن تلك الفكرة بالفعل سابقًا عندما كان يؤكِّد: «عندما تغمرنا السعادة نشعر أننا بخير، بيد أنَّ عندما نكون بخير لا يعني ذلك بالضرورة أننا سعداء». وكان هذا حال «أوسكار وايلد» الذي أحاطه كل شيء يجعله يبدو بخير، لكنه لم يكن سعيدًا.
وعلى الجانب الآخر، نجد الفيلسوف «فريديريك نيتشه» Frederich Nietzsche الذي تمتَّع بذكاء فذّ واحترام شديد من قبل القريبين منه، لكن حياته الأسرية البائسة كانت دومًا تلقي بظلال كئيبة عليه. الشعور بالتعاسة والاكتئاب أنهى حياته مُبكِّرًا. ومن الجدير بالذكر أن إرثه الفلسفي، القليل نسبيًا، من كتب ومخطوطات شكَّل القاعدة الأساسية لمفاهيم القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، وعلَّم المليارات من البشر في جميع أنحاء العالم كيفية الاعتزاز بالنفس والعقلانية الجالبين للشعور بالسعادة، لكنه كان على الجانب الآخر غارقًا في التعاسة.
وتذكر صفحات التاريخ الحكاية الشهيرة لـ «فريدريك نيتشه» والحصان. فعندما رأى سائق عربة يشعل ظهر الحصان الذي يجرُّه بالسياط، أدمى قلبه ذاك الشعور بالعذاب الذي يتحمَّله الحصان، بل وتماهى معه؛ لأنه يشعر بنفس ذاك العذاب الدَّاخلي. ولذلك هرع واحتضن الحصان وأخذ يبكي مُرددًا أنه يشعر بما يمرّ به الحصان، وأن كليهما أرواح معذَّبة. وبعد تلك الواقعة حل به مرض شديد لدرجة أنه ألزمه الفراش لفترة أحد عشر عامًا، وبعدها فاضت روحه إلى بارئها. في عصرنا هذا، تبدو الحادثة من إحدى الزوايا أساسها الرفق الشديد بالحيوان، لكن في عصر «نيتشه» في القرن التَّاسع عشر، كان سلوكه يعدّ تكديراً للأمن، ولولا تدخُّل صاحب العقار الذي يسكنه «نيتشه»، لقبضت عليه الشرطة وزجَّت به في السجن، ما يعني أن حُرِّية صاحب الحمار تحقق له سعادة شخصية لا يجب المساس بها ما دام لا يتعدَّى على حُرِّيات الغير.
تلك القاعدة لم يفهمها «راسكولنيكوف» Raskolnikov بطل رائعة «فيودور ديستوفسكي» رواية «الجريمة والعقاب»، ذاك الخريج الجامعي الذي تلقَّى تعليمًا راقيًا في جامعة «سانت بيترسبرج» المرموقة، ولم يحاول أن ينقذ نفسه من براثن الفقر المدقع. لقد كان -مثل «أوسكار وايلد»- مزهوًا بنفسه، ويرى أنه شخص يتمتَّع بشخصية عظيمة مثقَّفة، بل وصل به الأمر أنه رأى في نفسه قوَّة نابليونية. كل لحظات السعادة التي كان يقتنصها من الشعور بالزهو والفخر بنفسه كان مصدرها سجنه لحاله في قوقعة من الوحدة بناها بشخصيته غير الاجتماعية. وعلى شاكلة «أوسكار وايلد» تمامًا، لم يقنع بتلك اللحظات التي كانت تغمره بالإحساس أنه «بخير»، بل أراد المزيد بصورة «هيدونية».
ويبدأ تمرُّد «راسكولنيكوف» غير المبرر على وضعه، الذي ساهم بالنصيب الأكبر في صناعته، عندما رهن ساعته عند مُرابية عجوز. فلقد أحزنه أن يرى تلك المُرابية تكدِّس الأموال وهي على مشارف الموت، في حين أنه غارق في فقر لا يستطيع الفكاك منه وهو في ريعان الشباب. وبدلًا من أن تحمِّسه تلك المقارنة وتجعله يبحث عن عمل لعلَّه يصبح يومًا يمتلك أموالًا مثلها، خطط لأن يقتل المُرابية العجوز، بل وأقنع نفسه أن جريمته تلك من أجل تحقيق هدف سام؛ ألا وهو تخليص المُدانين لها من الدين ومن جشعها. أضف إلى ذلك أنه عقد العزم في مخططاته أن يستخدم الأموال التي سوف يسرقها لمساعدة المحتاجين. لكم كانت لحظات ماتعة بالنسبة له عندما كان يرسم الخطط بإحكام، ويراقب العجوز من كثب. كانت سعادته «هيدونية» منشأها تحقيق أحلام غير مألوفة ومحفوفة بالمخاطر.
وللمرَّة الثانية ينجح ببراعة في الوصول لشقَّة المرابية، وللمرَّة الأخيرة ينعم بالسعادة اللحظية التي تنقلب فيما بعد لجحيم أبدي، كما كان الحال بالنسبة لـ «أوسكار وايلد». لقد تمكَّن بالفعل من قتل المُرابية كما كان يطمح، لكنه لم يحسب العواقب جيِّدًا؛ لأنه اضطر لقتل أختها التي لم تسئ لأي شخص؛ حتى لا ينكشف أمره؛ وهذا لأنها شاهدته بجانب القتيلة الغارقة في دمائها ومعه أداة الجريمة. والأسوأ من كل هذا، أنه لم يستطع سرقة أي أموال ذات قيمة من المُرابية المقتولة، بل فرّ ومعه ساعته التي رهنها، وكيس صغير لم يحص مقدار ما به من نقود.
وبالرغم من أن «راسكولنيكوف» لم يستطع أحدهم أن يكشف أمره أو حتى يشكّ في أمره لبعده عن مسرح الجريمة، لكن بلوغ سعادته المُحرَّمة التي بناها على أنقاض حرِّيات الآخرين كان مثل ظلّه. فهو لم يستطع نهل الأموال التي كان يطمح إليها، بالرغم من أن ثروة المُرابية العجوز المقتولة سانحة له لينهل منها كيفما شاء. وفضلاً عن هذا، فلو كان الخوف منعه من سرقة ما خطط له من أموال، كان يجب عليه أن يكون شاكرًا لأن أمره لم ينكشف، ولم يكن محلّ شك، وخاصة أن بعد سرقته للساعة التي كان قد رهنها عند المرابية أصبح بعيدًا كل البعد عن دائرة الشكوك، إلَّا أنه كان لا يزال متبرِّمًا، وكان يقنع نفسه بكل الوسائل أن أمره لسوف ينكشف في أية لحظة.
وتضاعف حُزنه عندما رأي أخته «دونيا» توافق غلى الخطبة من رجل غني متعجرف حتى تنقذ العائلة من الفقر، وهذا بعد أن كان يتحرَّش بها رب عملها عندما كانت تعمل مُربية لأولاده. كانت «دونيا» تقنع نفسها أن الخطبة من ذاك الكريه هي أيضًا عمل، ولكن بعقد يقبله القانون والمجتمع. ومن الطريف أن حزن «راسكولنيكوف» لم يجعله يحرِّك ساكنًا للانطلاق للحياة العملية والهروب من الخوف والإحساس بالفشل، بل إنه أيضًا بتصرُّف غير محسوب العواقب وأناني، منح كل ما في جيبه من أموال لسيدة فقيرة رحل زوجها؛ لمنح نفسه شعورًا خاطفًا بالسعادة يجعله يظهر أمام نفسه في صورة رجل بار، ولم يفكِّر أن الخمس والعشرين روبية تلك هي آخر أموال في جيبه، وهي من الأموال التي تكدّ والدته في إرسالها له.
ويذكر «ديستويفسكي» أنه خلال فترة سجنه كان يدرس شخصيات المساجين عتاة الإجرام من كثب، وأنه لاحظ أن المساجين قد يتناحرون ويتعاركون دون سبب في كثير من الأحيان؛ والسبب في ذلك ليس طبيعة شريرة أو سلوكهم الوحشي، بل توقهم لأن ينعموا بلحظات من التواصل الإنساني الحقيقي عندما يأتي أحدهم لتهدئة الوضع والحديث مع مفتعل الشجار. الرغبة في الإحساس بالسعادة عند الشعور بآدميتهم بالقرب من الآخرين تجعلهم يقترفون أفعالاً حمقاء لنيل سعادة لحظية لا تدوم، كما هو الحال بالنسبة لشعورهم بالآدمية.
ويعني هذا أن السعي وراء السعادة من خلال الوقوع في الخطأ طريق سريع لتعاسة أبدية وحرمان دائم من راحة البال. فالسعادة الحقيقية تأتي من تلقاء نفسها دون الانزلاق في الخطأ لتحقيقها. لقد فهم «أوسكار وايلد» تلك الحقيقة عندما قال: «من أصعب الأفعال هو ألَّا تفعل شيئًا على الإطلاق، فذاك هو أصعب الأمور، لكنه أيضًا أكثرها حصافة». لكن، للأسف، لم يستطع «وايلد» تطبيق هذا الأمر على ذاته، ولم يستطع أيضًا أي ممن انزلقوا في التعاسة إدراك تلك الحقيقة إلَّا بعد فوات الأوان.