ثقافة وفنون

فروغ فرخزاد: شاعرة وأربعة رجال (3)

فروغ فرخزاد: شاعرة وأربعة رجال (3)

بروين حبيب

عاشت الشاعرة فروغ فرخزاد منذورة للحب منذ أن كانت بحاجة إلى حب والدها ولم تجده، بل وجدت مكانه القسوة التي تصل حدّ الإيذاء الجسدي، ناهيك عن إيذاء الروح، من يومها لم تعش يوما واحدا دون أن تُحِبّ أو تحَبَّ، ففي بداية مراهقتها أحبّت برويز شابور تعويضا عن حب والدها المفقود وتزوجته، لكنها طارت من بيته بجناحين: الشعر والحرية، وعوضت حبّ زوجها بحب ابنها الذي حرمت منه، وبقيت ثلاث سنوات تخللتها محاولة انتحار تعاني الفقر والكآبة، ولم يشفها السفر مما بها، وحين وجدت وظيفة متواضعة كعاملة ترد على الهاتف وتنظم الأرشيف في أكبر استديو تصوير في إيران يملكه مخرج ومثقف كبير يدعى إبراهيم كلستان، لم تكن تعلم أنها كانت على لقاء العمر مع أكبر حب في حياتها. لكن من هو إبراهيم كلستان؟
قصّة حب هربت من الشاشة:
«لَمْ أَكُنْ حِينَ أَبْصَرْتُ عَيْنَيْكَ/أَدْرِي بِأَنِّي سَأَغْفُو عَلَى كَتِفٍ لَا تَنَامْ»*
كان إبراهيم كلستان قبل التقائه بفروغ واحدا من أكبر الوجوه الثقافية في إيران متعدد المواهب، فهو من كتّاب القصة المشاهير أصدر ست مجموعات قصصية ومصوّر البورتريه الأول في بلده، كما كان مترجما متمكنا من الإنكليزية والفرنسية نقل إلى اللغة الفارسية روايات لهمنغواي وفلكنر وتشيكوف ومارك توين، وبعض الكتب الماركسية فقد كان قياديا في حزب تودة اليساري، لكن نقطة تميزه الكبرى كانت الإخراج السينمائي فيكفي أن نذكر أنه أخرج فيلمين روائيين و16 فيلما وثائقيا وهو أول مخرج إيراني يحصل على جائزة دولية هي الميدالية البرونزية في مهرجان البندقية للأفلام القصيرة. ويملك استوديو ضخما حديثا في أفخم منطقة في طهران، وهو الذي اشتغلت فيه شاعرة شابة تدعى فروغ عاملةً ترد على الاتصالات الهاتفية من بين أربعين موظفا آخر، فما الذي جمع بين شخصية مشهورة تملك كل شيء، وفتاة لا تملك إلا موهبتها وجرأتها؟

لخصت فرزانة ميلاني كاتبة سيرة فروغ، الفروقَ بين فروغ وإبراهيم فكتبت «أحدهما في السادسة والثلاثين والآخر في الرابعة والعشرين، الأول رجل متزوج ولديه طفلان، والآخر امرأة مطلقة ومحرومة من رؤية ابنها، أحدهما له تاريخ سياسي أما هي فمكسورة، أحدهما غني والآخر يعيش في شقة مستأجرة صغيرة، أحدهما له وجاهة قاص ومترجم ومصوّر ومخرج وصاحب أهم استديو في إيران، وهي شاعرة مثل بقية الشعراء من حولها». ومع هذا كان للحب رأي آخر إذ رمى كيوبيد بسهمه قلب إبراهيم كلستان، فعشق هذه البنت النحيلة السمراء، أما هي فقد ركضت إلى اختها ومستودع أسرارها بوران قائلة «لقد التقيت برجل مثير للاهتمام للغاية، لقد ترك انطباعا كبيرا عليّ، إنه قويّ ومؤثر، مختلف تماما عن الرجال الذين عرفتهم من قبل. هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف من شخص ما. أنا أعوّل عليه، إنه حازم جدا».

ومن هذا اللقاء الذي حدث سنة 1959 إلى رحيل فروغ المفجع بعد ذلك بثماني سنوات في 1967 ظهرت إلى العلن نسخة معاصرة من قصة قيس وليلى، ورغم أنهما لم يتزوجا إلا أنهما كانا دوما معا في سفرهما وحضورهما، بل اشترى ابراهيم بيتا لحبيبته قرب دارته، ورغم علم زوجته وطفليه بقصتهما إلا أن ذلك لم يزده إلا تعلقا بها، ووصل به الأمر إلى أن عرض الزواج عليها، لكنها رفضت ذلك وهي تستحضر التعاسة التي عاشتها أمها بعد زواج والد فروغ عليها، بل حدث أن تراجعت على الزواج منه في اللحظة الأخيرة بعد أن أبدت موافقتها كما روت أختها بوران معلِّقة «أصابت حبيبتها كلستان إلى حد الموت» ولعل تجربة زواجها السابقة الفاشلة كانت عاملا إضافيا منعها من الارتباط بإبراهيم رسميا، وإن كانت قد أرجعت ذلك إلى تعودها على الوحدة حين كتبت له يوما «لماذا لا أستطيع تحمل الحياة العائلية؟ أنا معتادة على أن أكون وحيدةً لدرجة أنني أشعر على الفور بالقمع والاضطهاد في أي موقف آخر». والملاحظ أنها كانت تقف في كل مفترق عمر أمام هذا الخيار، بين تكوين أسرة كحلم أغلب النساء أو الارتباط اللامشروط بشعرها، قالت هذا لأبيها «لا أجد نفسي متحملة حياة عادية مثل ملايين البشر، لا أفكر في الزواج» وأعادته لأخيها فريدون «إما أن تُخدع بسعادة سريعة وعادية مثل الأطفال والزوج والعائلة، أو بسعادة بعيدة مثل الشعر والسينما والفن» فلا خيار ثالث لديها. بل ذهبت إلى حد إسقاط حملها من كلسان ووثّقت ذلك في قصيدتها «الوردة الحمراء». لكنها لم تكن مستعدة للتخلي عنه، بل وصلت إلى درجة النيرفانا في عشقه. تقول ناشرةُ رسائلها إلى إبراهيم كلستان، إنها في خمس عشرة رسالة كررت فديتك 59 مرة وأحبك 54 مرة.

تكتب مرة «أحبك، من المضحك أن أكتب أحبك، ولو بت في الثمانين أبقى أحبك مثل الشباب، ولو جئت بعد ألف عام للعالم سأحبك من جديد، وإذا أخذت الريح ترابي وأتحول للاشيء فأنا أحبك مرة أخرى» وتخشى إن فقدَته أن تصبح حفرة موتا وعدما «أحبك إلى حد أنّه يرعبني ماذا قد أفعل إن اختفيت فجأة.. سأصير بئرا فارغة». وبادلها إبراهيم حبا بحب فقد تعرض لنقد لاذع من مجتمعه وساءت علاقته بعائلته، ورغم أنه كان متحفظا بطبعه في إذاعة حبه لأنه كان يرى أن الحب ليس للإعلان عنه في الشوارع والأسواق، فقد قال بعد نصف قرن من وفاتها «أشعر بالحزن وأعلم ما أنا فيه من مأزق، أمشي وأرى فروغ، فروغ تجري في داخلي، فروغ كانت في دمي ولا تزال هناك».
آمن إبراهيم كلستان بموهبة فروغ بغض النظر عن حبه الكبير لها ودعمها، وكان أثره في شعرها وفي حياتها كبير، وإن كنتُ ضد المبالغة في إظهار دوره في تطوير شعرها، وكأن النظرة الذكورية استكثرت عليها امتلاك موهبة استثنائية فيجدون لها دائما مرشدا وحاميا، ففي بداياتها كان زوجها برويز شابور، ثم استلم المهمة منه إبراهيم كلستان. ما أضافه إبراهيم إليها رأيي أنه أعطى بعدا إنسانيا لشعرها من خلال توجيهها إلى قراءات متعددة، فصار شعرها أهدأ لكنه أعمق. وجرها إلى عالمه السينمائي لكن قبل ذلك سلحها بالمعرفة فأرسلها في بداية علاقتهما إلى بريطانيا لدراسة إنتاج الأفلام، كما شاركت في إيطاليا في ورشة عالمية لكتابة السيناريو، وقبل سنة من وفاتها عاود إرسالها إلى بريطانيا مجددا لدراسة الإخراج بتمويل من استوديو كلستان. وكان نتيجة هذا التكوين والاحتكاك اليومي بإبراهيم أن أخرجت فيلمها الأشهر «الدار السوداء» عن مصحة المجذومين، الذي نالت عليه جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان ألمانيا الغربية السينمائي. مثلت فروغ تحت رعاية إبراهيم كلستان وأخرجت وأنتجت للسينما، لكن قصة فيلمها العظمى كانت حبها لإبراهيم التي لخصتها بقولها «أحبك أحبك ولا يحتمل قلبي كل هذا الحب، قلبي يكبر أكثر من صدري». رغم أن هذا الحب لم يكن مثاليا، فغيرتها الزائدة ورفضها للقيود أيّا كانت تقابلها شخصية إبراهيم القوية ونرجسيته دفعاها أكثر من مرة إلى الانتحار. ولم تسلم الجرة في كل مرة فحتى في اليوم الأخير من عمرها القصير خرجت غاضبة من استديو الرجل، الذي كتبت له يوما «لا أستطيع دونك، دونك لا أريد، دونك لا أفهم، لا أشعر، لا أرى، لا أمتلك قوة حياة». واتجهت بسيارتها لتعانق الموت متفادية حافلة نقل تلاميذ، نقلها إبراهيم بنفسه إلى المستشفى واشترى لها قبرا بماله الخاص قرب أمه، وابتعد عن عائلته وعن عمله بهدوء، وعاش نصف قرن في قصره في الريف البريطاني لم يؤلف كتابا أو يصنع فيلما، مجترا ذكرياته مع امرأة استثنائية كانت مثل شهاب سماوي لمع وانطفأ بسرعة، قال عنها يوما بأنه لم يكن لديها شيء لتعطيه له سوى الحب، وقبل موته عن عمر قرن كامل قال لصحيفة «الغارديان» البريطانية «أنا أتحسّر على كل تلك السنوات التي لم تكن فيها هنا، لقد كنا مقربين جداً، لكني ما زلت لا أستطيع أن أقيس حجم مشاعري نحوها».
رحل إبراهيم كلستان بعد 56 سنة من رحيل فروغ وصداها يتردد في أذنيه وقلبه ذات عشق: «أنت أعز ما لديَّ في الدنيا، أنت الوحيد الذي أستطيع أن أحبه، شاهي، أحبك».

(*) من قصيدتي «أربع رسائل من فروغ»

شاعرة وإعلامية من البحرين

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب