ثقافة وفنون

مقاربات نقدية

مقاربات نقدية

بالفوبيا والشعر نحارب الزمان:
قراءة في ديوان ‘بطابقين من الفوبيا نقاتل الوراء
قراءة / أيمن دراوشة
صاحب الديوان/ الشاعر فتحي مهذب

———————–
يعد ديوان “بطابقين من الفوبيا نقاتل الوراء” للشاعر فتحي مهذب تجربة شعرية متفردة، تمزج بين الحداثة والوجودية في طابعٍ سوداويٍّ مكثف، حيث يسود فيه التوتر الشعري العميق واللغة المنفلتة من القوالب التقليدية. يمزج الشاعر بين الواقع والخيال في نسيج مشبع بالمجاز والرمز، ليقدم تأملات حادة حول الإنسان، العزلة، الفقد، والمصير، بأسلوب صادم ومتحرر من القيود.

1- البنية اللغوية والمعجم الشعري
يهيمن على الديوان معجمٌ شعريٌّ صادمٌ وموحش، يقترب من الرؤيا السوداوية التي تعتمد على صور قاسية، مفككة، تحاكي الفراغ الوجودي. تتداخل المفردات الحسية مع المجاز المكثف في لغة تحمل أبعادًا فلسفية وتاريخية، حيث تتكرر ألفاظ مثل:

الفوبيا، العدم، الظلام، المقابر، الجنون، الفقد، الحرب، النزيف، القبور، الليل، الغياب
توظيف ألفاظ من الطبيعة مثل: الغيمة، النوارس، المطر، البحر، الريح، النسر، الحصان لكنها تأتي بصور محمّلة بالمفارقة والرمزية العميقة.
على سبيل المثال، يقول الشاعر:

“الندم كلب أسود في باحة البيت.”

هذه الصورة القوية تجسد فكرة الندم ككيانٍ محسوسٍ ومرعبٍ، مما يمنحه طابعًا مرعبًا وقاسيًا، وكأن الندم كائن حيٌّ يراقب، يتربص، ويعوي في الذاكرة.

أما في قوله:
“موتي خسارة لا تقدّر بثمن لأني منذ ستين سنة عيناي مسمّرتان إلى أعلى لعل الله يمضي مسرعًا من هناك.”
فهذا تعبير عن العبثية القاتمة التي تسود فكر الشاعر، إذ يصور علاقته بالسماء كعلاقة ملتبسة، مشحونة بالانتظار والخيبة، وهو نزوع وجوديٌّ واضح.

2- البناء الفني والأسلوب الشعري
يعتمد الشاعر على التكثيف والتقطيع الشعري، حيث تأتي القصائد على هيئة مقاطع متفرقة، لكنها مترابطة عبر تيمات دلالية، مما يمنحها بعدًا تفكيكيًا يبتعد عن الأشكال التقليدية للقصيدة.

استخدام السرد الشعري الذي يحول بعض المقاطع إلى لوحات سردية شعرية، لكنها لا تخضع لقوانين السرد المتتابع، بل تتحرك بشكل متاهة ذهنية مفتوحة.
يتكرر أسلوب الجملة الصادمة والمفارقة الفلسفية، مثل:
“قلت للسماء: أنت لا شيء. سأطردك بعكازة الفيلسوف لأنك كذبت علي سبعين ألف مرة.”
حيث تتحول اللغة إلى أداة تحدٍ وصراع فكري بين الشاعر والمطلق.

الإيقاع الموسيقي
رغم أن الديوان لا يعتمد على الأوزان التقليدية، إلا أن الإيقاع الداخلي حاضرٌ بقوة، من خلال:

التكرار الموسيقي لبعض الكلمات والعبارات لإحداث أثر صوتي ونفسي قوي.
الإيقاع الصوري والتباينات اللغوية التي تصنع موسيقى داخلية عبر تناقض المفردات.
إيقاع التدفق والتوقف، حيث يعتمد النص على التقطيع السريع بين الجمل لخلق إحساس بالتوتر والقلق.

3- الموضوعات والأبعاد الفكرية
أ- العدمية والوجودية
يتمحور الديوان حول الإنسان القلق، المحاصر بمتناقضات الوجود، حيث تتكرر الأفكار الوجودية مثل:
عبثية الحياة والموت، كما في قوله:
“الحياة تكذب كثيرًا في الحانة، وفوق سرير المومسات، في الباص أكتفي ببعض الفراغ من كتفيه.”
هنا يتحول الواقع إلى وهم كبير، حيث تتساوى المأساة مع السخرية، والجدية مع العبث.
نقد المفاهيم الدينية والتقاليد بطريقة فلسفية رمزية، مثلما في قوله:
“فردوسك يا رب موحش لا يسكنه أحد.. إلام لا تدخلني أنا وريتا الشقية؟”
حيث يتحدى التصورات التقليدية عن الجنة، ويعيد قراءتها من خلال رؤيته القلقة.

ب- الهجرة والمنفى النفسي
يستحضر الشاعر فكرة الغربة، ليس فقط كمنفى جغرافي، بل كعزلة داخلية يعيشها الإنسان الحديث، كما يقول:

“قلبي لاجئ فلسطيني عالق في معبر رفح، لا يهمه غير شميم عرق الأسرى.”
هنا تصبح الهوية الشخصية أشبه بوطن مفقود، والمنفى حالة دائمة تلاحق الإنسان في داخله.

ج- المرأة والأنوثة
يحضر المرأة كرمز مزدوج، فهي من جهة المخلص، وهي من جهة أخرى مصدر الفتنة والخذلان، كما في قوله:

“المرأة فراشة، هشة وقصيرة النظر، مكلفة جدًا جدًا، ومغرية حد الإغماء.”
وفي مقطع آخر:
“أحب النساء، لأن امرأة واحدة لا تكفي لقطع أصابع وحدتي وإضاءة ستين مترًا من الظلام الخالص.”
هنا تتجلى النظرة المركبة للعلاقة بين الرجل والمرأة، حيث تمتزج الرغبة بالخذلان، والأنوثة بالغياب، والوصال بالفقد.
4. الرمزية والأسطورة في الديوان
يستعين الشاعر بالرمز والأسطورة لتكثيف الدلالة وإضافة أبعاد تاريخية وفكرية لنصوصه، ومن أبرز الرموز:
الرموز الدينية والتاريخية: مثل “يوسف”، “رفح”، “زرقاء اليمامة”، “القيامة”، حيث يوظفها بشكل تهكمي أو تفكيكي.
الرموز الطبيعية: مثل “النسر”، “الحصان”، “الغابة”، والتي تعكس بُعدًا غرائزيًا للصراع الوجودي.
الرموز الفلسفية والأسطورية: مثل “سيزيف”، “ميشيل فوكو”، “البوذي”، حيث يستدعي هذه الشخصيات في مشاهد تتداخل مع الواقع.
5- التحليل العام للديوان
الإيجابيات
✅ الجرأة الأسلوبية والتجديد في اللغة والتصوير الشعري.
✅ الإيقاع الداخلي القوي رغم غياب الأوزان التقليدية.
✅ التوظيف الذكي للرموز والاستعارات الممتدة.
✅ المزج بين الفلسفة، الشعر، والتأمل الوجودي.
الملاحظات النقدية
** بعض المقاطع تنزلق إلى الغموض الزائد، مما قد يصعب قراءتها.
** النزعة التشاؤمية الطاغية قد تجعل الديوان يفتقر إلى التوازن العاطفي.
** كثرة الاستعارات المكثفة قد تجعل بعض المقاطع مفتوحة على التأويل الزائد.

6- الخاتمة
يقدم الديوان رؤية شعرية وجودية عميقة، تتأرجح بين الحنين والعبثية، بين الحب والخذلان، بين الأمل والعدم. إنه تجربة فكرية تتجاوز حدود الشعر التقليدي، ليكون عملًا يجمع بين التأمل الفلسفي، الهواجس النفسية، والتحولات الجمالية.
ديوان يتحدى القارئ، يقتاده إلى متاهة من الصور والمجازات، يخلخل المألوف، ليعيد ترتيب الفوضى بأسلوب فريد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب