أطفال غزة: الذين لم تقتلهم النيران قتلهم الخوف والمرض!
مريم مشتاوي
قصص كثيرة انتشرت هذا الأسبوع على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان أبطالها أطفال القطاع الموجوع. من أين نبدأ؟ أنبدأ من زاوية صغيرة في مخيم متهالك في غزة؟
كانت ندى، طفلةٌ لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات، تنام بهدوء في حضن الليل، ملفوفة ببطانيتها الرقيقة، وهي تمسك دميتها الوحيدة المحبوبة بقوة. كانت دميتها قد أضحت عالمها الصغير، ترافقها في كل مكان، تحكي لها أحلامها وتلعب معها بلا ملل.
لكن في تلك الليلة، ازداد صوت القصف الذي استهدف المخيم. فجأةً، استيقظت الصغيرة على أصوات باتت مألوفة، لكنها كانت تزداد قوة مع مرور الدقائق. سمعت أصوات خطوات ثقيلة تقترب من مكانها.. فتحت عينيها، وقلقٌ عميق يتغلغل في قلبها الصغير، رأت ظلال الجنود الشرسة.
بقيت في مكانها، مختبئة تحت بطانيتها، خائفة من أن تُظهر أي حركة قد تكشف مكانها. لكن الخطوات لم تتوقف، بل اقتربت أكثر فأكثر، حتى التصقت بها. بدأ الجنود بإطلاق النار، وبدأ قلب ليلى ينبض بسرعةٍ لم تعهدها من قبل. شعرت بأن كل دقة من قلبها تعلن عن وجودها، وكأنها تنادي عليهم ليكتشفوا مكانها.
ثم، ومن دون سابق إنذار، اقتحموا المكان. ارتجف جسدها الصغير، وتحولت أنفاسها السريعة إلى شهقاتٍ مكتومة. تملّكها الرعب وهي ترى الجنود بأعينهم الوحشية يبحثون في كل زاوية، يزيحون كل شيء من مكانه. اقترب أحدهم منها، كانت عيناه خاليتين من الرحمة، رفع البطانية عن وجهها بيدٍ مرتجفة. في تلك اللحظة، التقت عيناها المتعبتان الخائفتان بعينيه، وشعرت ببرودة تسري في عروقها.
لم يقتلوها برصاصة، بل قتلوا طفولتها بأعينهم الخالية من الشفقة، بصراخهم وأصواتهم العالية، وبخطواتهم الثقيلة التي رنّت كالأجراس في أذنيها. لم تتحمل كل هذا الخوف. شعرت بشيء ما في صدرها يضيق.. راحت نبضات قلبها تركض بشكل أسرع وأسرع، كأنها تحاول أن تهرب من قفص صدرها الصغير.
أغمضت ندى عينيها مجددًا، وهي تحاول أن تتخيل نفسها في مكانٍ آخر، بين أحضان والدتها، تلعب وتضحك، كما كانت تفعل قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لكن الخوف كان أكبر منها بكثير. تسارعت أنفاسها، وزادت ضربات قلبها حتى.. توقف.
في ذلك الصمت القاتل، وبين الجنود الذين كانوا يبحثون عن «خطر» وهمي، توقفت الفتاة عن التنفس. قلبها الصغير الذي لم يكن يعرف سوى الحب والخوف، توقف عن النبض، ليس بسبب رصاصة، بل بسبب خوفٍ لم يتحمله جسدها الهش. رحلت ندى، وعيناها ما زالتا مفتوحتين، تبحثان عن السلام، الذي لم تجده في هذا العالم الظالم. لم تبكِ، لكنها رحلت، تاركةً خلفها حزنًا لن يمحوه الزمن، ودمية صغيرة، فقدت صاحبتها إلى الأبد.
رحلا معاً خلف الشمس
قصتنا الثانية بطلها عمر. كان الطفل عمر يحمل في عينيه الواسعتين لون السماء المفتوحة على المدى البعيد، يتأمل الأفق ببراءة وحلم لا حدود له. شعره بني، مضاء بخيوط من الشمس، كانت قد لامسته بلطف، تاركة ضوءها يرقص بين خصلاته كلما مر نسيم عليل. كان عمر يحب الحياة، يحبها بكل تفاصيلها المضيئة، التي لا يراها أحد سوى قلبه الصغير.
على كفه الصغيرة، كان ينام عصفوره الأخضر، صاحب المنقار البرتقالي، عصفوره الذي لم يفارقه منذ أن وجده يوماً مختبئاً بين أغصان شجرة زيتون قديمة وأحضره معه. كان العصفور خائفاً جداً، صغيراً جداً، مثل عمر. احتضنه بحنان، وأصبحا منذ تلك اللحظة صديقين لا ينفصلان. أينما ذهب عمر، كان عصفوره معه، يحمله في يده أو يضعه على كتفه، ويحرص دائماً على إطعامه بفتات الخبز أو بضع حبات قمح يجمعها من الحقول.
لقد نزح عمر عدة مرات من مكان إلى آخر مع عائلته، يبحثون عن مأوى آمن يقيهم شر الحرب وضجيج القصف. لم يكن يفهم تماماً معنى الحرب، ولكنه كان يعرف أن كل شيء تغير، أن البيوت لم تعد كما كانت، وأن الأطفال لم يعودوا يلعبون في الشوارع كما اعتادوا. كان يشعر بحزن يثقل قلبه، لكن عصفوره كان يبعث فيه الأمل، كلما غرد بصوته الرقيق.
منذ أيام، بينما كان يسير مع عصفوره الأخضر بين أنقاض منازل مهجورة، سمع دوي قصف عنيف قريب. ارتجف قلبه، لكنه تشبث بعصفوره، ضمه إلى صدره وكأنما يحميه من شر العالم كله. كان يشعر أن الخطر يقترب، لكنه لم يفكر لحظة في ترك عصفوره.
وفجأة، انطلقت رصاصة من بعيد، رصاصة واحدة اجتاحت الهواء البارد، لتخترق جسد عمر الصغير. سقط على الأرض، وعيناه الواسعتان ما زالتا تبحثان عن السماء. انحنى العصفور إلى صدره، اقترب منه وكأنما يحاول أن يفهم ما حدث، لكن عمر لم يعد يتحرك. غرد العصفور قليلاً ليوقظ صديقه الصغير. وحين تأكد من رحيله فتح جناحيه ولحق به خلف الشمس.
لقد رحل عمر، وحمل معه عصفوره الأخضر إلى مكانٍ لا تصل إليه الحرب ولا يعرفه القصف.
هكذا، انتهت حكاية عمر وعصفوره، ولكنهما لم ينفصلا أبداً. فالسماء احتضنتهما معًا، وتركت ضوءًا لا ينطفئ في قلوب من عرفوهما، ضوءًا مثل الذي تركته الشمس في خصلات شعره البني.
المرض أو النيران
إنها حكاية هناء وطفلها الرضيع يوسف. كانت تحتضنه وهو يغفو على صدرها. تنظر إلى وجهه الصغير وتحدق في ملامحه، وكأنها تحاول حفر تفاصيلها في قلبها. يوسف، طفلها الأول، لم يبلغ بعد عامه الأول.
يوسف لم يعد يتحرك كالسابق؛ ساقاه الصغيرتان لا تركلان الهواء بحيوية، ولم يعد يحاول الوقوف كما اعتاد. في البداية، بدأت الأم تقنع نفسها بأن الأمر مجرد إرهاق أو نزلة برد عابرة. لكن القلق راح يزحف إلى قلبها يومًا بعد يوم، ومع كل محاولة فاشلة من يوسف لتحريك ساقيه، يخنقها الخوف شيئًا فشيئًا حتى علمت أن ابنها مصاب بشلل الأطفال.
شلل الأطفال؟ كيف؟ هذا المرض لم يُسجل في غزة منذ خمس وعشرين سنة! كيف أصيب به طفلها الصغير، الذي تحتفل قريبًا بعامه الأول؟ لقد عاد المرض بسبب انهيار النظام الصحي تحت الحصار، والإهمال الذي يلف كل جانب من جوانب الحياة في القطاع.
هكذا انتشر الخبر بسرعة في الحي، وتحولت نظرات الناس إلى يوسف مزيجاً من الشفقة والخوف. وبدأت الأمهات بسحب أطفالهن بعيدًا عنه، وهن يتهامسن عن العدوى والخطر. اليوم تشعر هناء وكأنها تحمل وصمة، وكأن ابنها قد تحول إلى شيء يخافه الناس.
ومع كل يوم يمر، تتدهور حالة يوسف أكثر. لقد أصبح عاجزًا عن تحريك ساقيه.. هكذا أكد الأطباء أن حالته تحتاج إلى علاج عاجل، علاج لا يمكن العثور عليه في غزة. فهو يحتاج إلى مغادرة القطاع، لكن الحصار لا يرحم، والمعابر مغلقة في وجه من يحتاجون إلى الحياة بقدر ما تغلق في وجه الموت.
في كل ليلة، تجلس هناء بجوار يوسف، تراقب أنفاسه القصيرة المضطربة، وتبكي بصمت. «سامحني يا صغيري»، تهمس له وهي تمسك بيده، «سامحني لأنني لا أستطيع أن أخرجك من هنا…» في غزة، الموت يلاحق الأطفال من كل زاوية؛ إن لم تأخذهم النيران، فإن المرض يتربص بهم، والشلل ينتظر في الزوايا المظلمة من نظام صحي محطم.
إنه سلاح آخر لقتل الأطفال الذين لم تقتلهم النيران، سلاحٌ خفي لا يراه أحد، يختبئ بين ثنايا الحياة الصعبة، يصيب الأجساد الصغيرة بالشلل، ويحول كل نفسٍ إلى معركة للبقاء.
*كاتبة لبنانيّة