ثقافة وفنون

أحمد الشيباني: كيف حدث أننا لا نعرفه؟

أحمد الشيباني: كيف حدث أننا لا نعرفه؟

حسن داوود

لم أكن قد قرأت لأحمد الشيباني من قبل، ولا ذيبان الشمّري، وهو الاسم الذي اعتمده في فترة لاحقة من حياته. مؤخّرا، بعد صدور الكتاب الذي يؤرّخ لسيرته وفلسفته ومعاركه الأدبية والفكرية، وجدت بأنني إزاء أحد الكتاب الموسوعيين الذين لم تُرفق أسماؤهم بإنجازاتهم الكبيرة. غاب اسمه عني، وعن قرّاء جيلي وكتاّبه، لكن شاعت في أوساط هذا الجيل كتب أساسية كان نقلها الشيباني إلى العربية، أولها كان «تدهور الحضارة الغربية» لأزوالد شبينغلر، ذاك الكتاب الذي لعب دورا فاعلا في نقد الفكر الغربي حتى إلى ما بعد سنوات من صدوره، ثم كتاب ويل ديورانت «قصّة الفلسفة» الذي عمل على نقل الفلسفة إلى من ليست الفلسفةُ اختصاصهم الأكاديمي.
أما أبرز ما ترجمه فهو «نقد العقل المحض» لعمانوئيل كانط، ذاك الذي، رآه الشيباني نفسه: «أعظم مؤلَّف صدر في النصف الأول من القرن العشرين (1917). أما صدوره بالعربية فكان في سنة 1964 (عن دار الحياة في بيروت) في نحو 1500 صفحة.
وكان الشيباني في مطلع اهتمامه بالثقافة والسياسة قد عرف الماركسة وقرأ العديد من مصنّفاتها: «قرأت بإمعان كل حرف خطّه ماركس، وسطّره إنجلس، وكتبه لينين، ودوّنه ستالين عن الشيوعية في الحقلين النظري والعملي». غير أنه، بعد اعتناقه الفكر الماركسي الشيوعي، تحوّل عنه بعد أن تبين له، كما قال، أن تلك العقيدة الفكرية، بتركيزها على الاحتياجات المادية للإنسان، أهملت نازعه إلى الحرية والكرامة الشخصية. ولم يقف الشيباني عند تخلّيه عن الشيوعية، بل إنه، في فترة مقاربة، نحّى نفسه عن الفلسفة الغربية بعمومها «كون تلك الفلسفة ترى في الكائن البشري كائنا لا يختلف إطلاقا، ولا في أي وجه من الوجوه، عن أحطّ أنواع الحيوان في الدوافع إلى وجوده». إثر ذلك وجد نفسه وفكره يتجهان إلى الفكر القومي العربي ممارسا إياه، بالعقيدة ومن ثم بالممارسة السياسية، حيث كان حاضرا في مرحلة التغييرات السياسية الانقلابية في سوريا. ولم يطل به الحال هناك فما لبث أن رجع إلى الإسلام ناهجا بذلك سيرة مخالفة، بل عكسية لتلك التي ساقت المثقفين العرب من الإسلام إلى القومية فالماركسية والفكر الغربي (وإن كان منهم من رجع إلى الإسلام بعد ذلك). أما الشيباني، وكذلك ذبيان الشمري، وهو الاسم الثاني الذي اتخذه من بعد إقامته في المملكة العربية السعودية، وكتابته في صحافتها، فكتب «نظرتي إلى الكون والأخلاق والسياسة هي نظرة الإسلام الدين والنهج والنظام». وكانت تحولاته الفكرية مرتبطة بأحوال عيشه المتبدّلة، والمتنقّلة من مكان إلى آخر (كان منشؤه في بعلبك، هو الذي ينتمي إلى إحدى القبائل في البادية السورية، ثم انتقاله إلى سوريا فمصر فالسعودية).
لا يختلف الشيباني عن غالب المثقفين العرب في تحوّلاته السياسية فقط، بل أيضا في الاستعاضة عن الاختصاص بتنويع الاهتمام، فإلى جانب معرفته الواسعة بالثقافة الغربية نجده ملما بالثقافة والأدب العربيين. فها هو يخوض سجالا طويلا مع علي أحمد الشامي (بالاسم الثاني الذي هو ذيبان الشمّري) حول كتاب عبد العزيز التويجري عن المتنبي. ذلك النقاش في حدّ ذاته يشير إلى قرب الشيباني من التراث الشعري العربي، وإن كان تركيزه على الناحية النفسية والفكرية، وليس الفلسفية، إذ كان يعتقد أن الشاعر الفيلسوف الوحيد في الشعر العربي هو أبو العلاء المعري، لكن مع ذلك بدا مساجلنا عميق المعرفة بالمتنبي، في وقت ما كان لا يزال مالئ الدنيا وشاغل الناس، حسبما كتب معدّ كتاب الشيباني محمد بن عبدالله السيف، الذي عنون مقدّمته عن السجال بوصف ديوان المتنبي «مذكّرات شخصية كتبت بأسلوب اعترافي، وهذا التوصيف ينم عن معرفة عميقة بشعر المتنبي.
كما يشير ذاك السجال إلى أن الاهتمام بالتراث العربي ترافق مع انشغال المثقفين العرب آنذاك بالثقافة الغربية، ذاك الذي، بعد عقود تضاءل إلى حد بدا فيه كأنه حُفظ في أرشيف السابقين، أو فلنقل أن كتاب التويجري عن المتنبي، أو كتاب طه حسين عن الشاعر نفسه، أثارا نقاشا، بل انقساما يكاد يقرب مما يجري بين مناصري التيارات السياسية ودعاتها، فيما المتنبي وغيره من الشعراء العرب أعيدوا إلى ماضيهم القديم.
الكاتب المثقف نفسه، المساجل حول شعرية المتنبي، ساجل عبدالله الغذامي حول بنيوية كلود ليفي شتراوس وميشيل فوكو، مقدّما في أثناء ذلك لمؤسسي هذا التيار النقدي ولوي ألتوسير ولرولاند بارت وسواهم. كما ساجل حول هيغل. كل تلك المعرفة أراد أحمد الشيباني أن يبقيها خارجه، على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله لتحصيلها، على ما يصف بنفسه عمله على ترجمة عمانوئيل كانط، أو فلنقل أن سعيه العلمي كان أشبه برحلة طاف بها العالم ثم لم يلبث أن حطّ رحاله حيث كان.

«أحمد الشيباني أو يبان الشمري» كتاب عن الكاتب والمترجم والمفكر الراحل قدم له وجمعه محمد بن عبدالله السيف، صدر عن دار «جداول» في 670 صفحة، لسنة 2024.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب