مقالات

صمت بأكثر من لسان

صمت بأكثر من لسان

رشيد المومني

يمتلك الصمت جماليته الاستثنائية، بالنظر لقابليته التلقائية للتموضع في مختلف سياقات التواصل، بصرف النظر عن تنوع دلالاته المتماهية مع خصوصية المقام.

إنه يحضر في تقطعات لغة الحديث اليومية، محيلا بذلك على مدونة البروتوكولات السائدة، والمعتمدة في تنظيم الحياة العامة، حيث نلمس توزع أنفاسه بين تفاصيل الخطابات، المساهمة في بلورة مواقف هذه المنابر أو تلك.

فقد يوحي باحتمال حدوث شيء ما، بما يفيده فعل الحدوث من ظهور وانكشاف، لما كان من قبل متوقعا، أو غير متوقع. ظهور الصاعقة، على سبيل المثال لا الحصر، أو تباشير هديل الغيم، وبالتوازي مع ذلك، يمكن الإنصات إلى هسيس أسئلته، السارية في تضاعيف المقاربات الفلسفية والجمالية، غير أنه في حالات مغايرة، يصبح حدا تعبيريا قائم الذات، كلما مال إلى الاستقلالية بدلالاته، لذلك يمكن القول، إن الصمت هو النسق الملائم لاشتغال الأعمال الفكرية والجمالية، حالما تنكفئ دلالاتها على ذاتها، تفاديا لاحتمال تعرضها للاستنطاق الهجين من قبل العامة، التي لا ترقى شروطها المعرفية إلى مقام الإلمام بجلال إيماءاتها.

إنه وتبعا لذلك، زمن توجس بامتياز، لم تتردد غير قليل من القراءات التأويلية لأصل الكون في اعتباره المؤشر الفعلي على أسطورة التجلي الكبير. كما رأت فيه الذات الموشومة بضوء الكتابة هبة استثنائية، تحيل ميتافيزيقيا على زمن الأصل، حيث لم يكن الصخب الداخلي والخارجي قد استبد بعد بكيانها. وإذا كان الصخب هو الإطار الذي يتحقق به التفاعل العام والجماعي في بوتقة اليومي، كترجمة طبيعية لتداخل أصوات الضرورة التي تلهج بها ألسنة الواقع، فإن الصمت على النقيض من ذلك، هو حائط الغياب الذي يصطدم به اللغو بجبروت غموضه وجاذبيته.

هكذا يمكن القول، إن ظاهر الكلام، هو في الأصل إبلاغ وتوصيل، قوامه اللفظ الممهور بختم العرف، فيما يصح اعتبار باطنه، صمتا يحجب ما عجز مقال العرف عن استشرافه واجتراحه. من هنا يكون الذهاب إلى الصمت، نوعا من الذهاب إلى ما يومئ وليس إلى ما يبوح، أي السير باتجاه لغة خالية من أي إشارة ضاجة، تسعى حواس الإنصات إلى تمثل أبعادها. إنه الذهاب إلى خلوة الحجر، حيث اللغات الأخرى تطبق أجفانها خشية أن تراك. ربما وبسبب ذلك، أمسى الصمت بمثابة الخزان السري الذي تمتح اللغات من سلسبيله زلال قولها.

لقد أمسى أصلا ورحما، تتشكل فيه أزمنة الكلام. كما أمسى ملاذا لما كان وما سيكون. من هنا، كانت جمالية الشعري وستظل، مجسدة في اهتدائها إلى مرابع الصمت الآهلة بالأسرار، وبكل ما هو مسكوت عنه ومنسي، أو مندرج في خانة اللامعنى، ولذلك أيضا، اقتضى هاجس الذهاب بلغة الشعر إلى مرابعها، توافر ما أمكن من خبرة البناء الدلالي، الكفيل بنقل هباتها من زمن الصمت إلى زمن البوح المغاير، وفق ما يقتضيه المقام من استثمار جد متقدم لكيمياء الصياغة. هناك تحديدا، حيث تعتري اللغة الوظيفية حالة مزمنة من الحبسة، وهي تعاين مشهد دخول القول الآخر، رحاب تلك المنطقة الرمادية، التي يتطلع فيها لسان الحال إلى البوح بما لم يخطر على صوت اللسان.

في السياق ذاته، ينبغي التنبيه إلى صلة الصمت بظاهرة حلول الأمكنة والأزمنة العامة والعادية في صلب أحوال طارئة، لها فقط يطمئن الإنصات إلى فتنة ترتيبه للعناصر، كي تنتشي بالكشف عما توارى من حقائقها. حلول الأمكنة والأزمنة في مقامات الصمت الهادر بأسراره، هو الذي يعود له فضل تحفيز شعرية الكتابة على تجريب صياغة قول لا يشبه القول. وهي بامتياز، لحظة التملك الفعلي لكينونة الكائن، حيث ما من أحد سواه. والسوى هنا يأخذ شكل استحضار حتمي، فرح وعصي، لما يكون عادة في حكم الغائب، بفعل تسلط قانون العرف الذي لا يلبث أن يتنازل خلسة عن بؤس هيمنته وتعاليه. مع التنويه بأن حالة الحلول هذه التي تجود بها منازل الصمت، هي بحق المحل الأكثر حظوة وملاءمة، لاشتغال شعرية الرؤيا، وشعرية الكلام.

إنها الشعرية المجبولة على التقاط الإيماءات الصادرة عن العناصر، والمدركة بحدسها الجارح، أن أشياء العالم هي في الواقع جماع تجلياته العيانية، والمسبوكة في ما تخفى منه وفيه. يتعلق الأمر هنا باشتغال فيزياء الحذف، البتر، والإلغاء، التي بها تتجدد هندسة الكون، والتي بها تتحدد كما تتلاشى أطياف هوياته. ونعني بها الاشتغال المندرج في مدونة المحو المستهدف لغلظة تلك الزوائد، الفاعلة بشكل أو بآخر، في تحجيب أطياف المعنى. تلك هي إيقاعات الصمت، الكاشفة لما يتعمد الصخب تعميته، سواء بواسطة الإشارة أو اللفظ. فما يغيب، غالبا ما يكون نتاج متواليات ذلك الشيء المهيمن بحدة حضوره. باعتبار أن الحضور الذي يتمكن الشيء من تحقيقه، لا يقارب إلا من خلال تساؤلنا عن العناصر التي تم تغييبها، تلافيا لتراكم ما يؤثر سلبا على رؤيتنا وسماعنا، بالنظر لمحدودية بؤرة الرؤية، التي لا تسمح بظهور كل ما هو مسكون بحظوة الحضور.

نشير في هذا السياق إلى شراسة تلك الحرب الضروس، القائمة بين شتات الشيء المهووس بإحكام هيمنته على الرؤية والسماع، من خلال إضرامه لما أمكن من الحرائق الدلالية في نسيجه. وبالتالي ما من غائب هناك إلا ويتربص بالحاضر، كي يستحوذ هو أيضا على بؤرة الرؤية، التي هي بؤرة الحضور الشعري بامتياز. وبالتالي، فإن الصمت هو تلك البؤرة التي تنبجس منها الحركية الملموسة للشيء، والتي يغادر منها بؤرة تخفيه، باتجاه بؤرة تجليه. أيضا، إن الصمت الذي يعنينا هنا، له نكهة صمت آخر، يحتجب بين طيات الصمت. وفي حالة تعاملنا مع الصخب، بوصفه القاعدة الناظمة لعلاقة الكائن بالوجود، فإن اختلاء الكائن بذاته بعيدا عن الأخر، لا يعني مطلقا حلوله ضيفا على الصمت. إنه وعكس ذلك، قد يجد نفسه محاصرا بصخب داخلي، يتجاوز حدود الصخب المجتمعي بما يحتشد فيه من عدوانية، أو غبطة، باعتبار أن دوي الصخب الطالع من أعماق الذات، ومن أعماق الصمت، يتجاوز بكثير حدود الصخب المجتمعي، خاصة أنه يكون مشوبا بالاستعادات الانفعالية، والعاطفية المؤطرة، بأضواء، أو عتمات أمكنتها وأزمنتها.

إنه في نهاية المطاف، خلاصة تداخل حالات متنافرة ومتعارضة، تنوء الذاكرة بخفة وجماليات عنفها، فتمارس فتنة انبجاسها الشعري، حالما تتوافر الشروط الملائمة للاختلاء بذات الكتابة، بعيدا عن فضول الفصول، وبعيدا عن فضول اللغو. هناك تحديدا، حيث يطيب لشتات العناصر أن تحتفي باستعادة أزمنة ما قبل الانفجارات العظيمة وما بعدها. ونعني بها انفجارات الذات الأولى التي على أساسها تشكلت تجليات هندسة التكوين بمجموع متاهاته الضاربة في عمق أخاديد اللامتناهي. أليس كذلك يا نينار؟

*شاعر وكاتب من المغرب

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب