ثقافة وفنون

الأدب عنده كان وسيلة لتحقيق الوعي: كونراد آيكن الشاعر الأمريكي الذي لم ينل الشهرة التي يستحقها

الأدب عنده كان وسيلة لتحقيق الوعي: كونراد آيكن الشاعر الأمريكي الذي لم ينل الشهرة التي يستحقها

د. سارة حامد حوّاس

ما مصير طِفلٍ بدأ حياته بصوتِ صراخٍ وطلقات رصاص؟ ماذا كان يتوقع أن يجد نتيجة لهذه الأصوات؟ هل كان يتوقع أنها صدرت من مسدس أبيه لقتل أمه؟ هل كان يتوقع انتحار أبيه بعد ذلك؟ ما تأثير ذلك كله على طفلٍ يبلغ الحادية عشرة من عمره؟ ماذا فكر في تلك اللحظة التي وجد فيها جثتيْ أبيه وأمه ملقاتين أمامه في المنزل؟
تساؤلات كثيرة هاجمت عقلي فور قراءتي عن حياة وطفولة هذا الشاعر الذي بدا لي كأنه فيلم أمريكي حزين وسعيد في آن، لكنه شائق أيضًا مليء بمغامرات ونجاحات وإخفاقات كثيرة، انتهى نهاية سعيدة بفوز الشاعر بأرفع الجوائز الأدبية في الشعر الأمريكي.
إنَّه الشَّاعر الأمريكي كونراد آيكن الذي ولد في سافانا بولاية جورجيا في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1889 والذي نشأ بعد تلك الحادثة في ماساتشوستس منذ سن الحادية عشرة تحت رعاية عمَّته الكبرى. تلقَّى آيكن تعليمه في مدارس خاصة ومدرسة ميدلسكس في كونكورد قبل دخوله جامعة هارفارد العريقة. وفي الجامعة زامل الشاعر الأمريكي الشهير ت. س. إليوت وطوَّر صداقته به حيث عملا معًا في تحرير مجلة ”أدفوكيت».
وكرَّس آيكن نفسه بالكامل للكتابة بعد أن عمل مُراسلًا، وكما أثرت فيه الصدمة التي تعرَّض لها في طفولته، فنجد أيضا تأثير كل من عالم النفس الشهير فرويد، والعالم والطبيب النفسي البريطاني هافلوك إليس، والفيلسوف وعالم النفس الأمريكي ويليام جيمس، والشاعر والناقد الأدبي الأمريكي إدغار آلان ب، وأيضا الرمزيين الفرنسيين. وكان فرويد قد اعتبر ”الدائرة العظيمة» لآيكن عملاً رائعاً في التحليل النفسي.
أما عن التأثير الأكبر في حياة آيكن الشعرية فكان للبروفيسور جورجي سانتيانا، الفيلسوف والشاعر والروائي الإسباني الأصل الذي نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن كان في الثامنة من عمره. وفي مقابلة لآيكن مع «ذا باريس ريفيو» أكد أن سانتيانا قد شكَّل ”رؤيته لما ستكون عليه شعريته” فكانت فلسفة سانتيانا الشخصية وتركيزه على المحتوى الفلسفي للشعر جذابة جدا لآيكن.

نقطة انطلاق

«الأرض المنتصرة»هي أول مجموعة شعرية لآيكن وقد ظهرت في عام 1914 وكانت نقطة انطلاق بالنسبة له حيث جعلته شاعرا معروفا. وكان محررا مساهمًا في مجلة ”ديال” وأدى ذلك إلى صداقته مع الشاعر الأمريكي الشهير إزرا باوند. وأما مقالات آيكن التي جمعها في ”شكوك» عام 1919 و”أبجدية الناقد» في عام 1958؛ فقد تناولت الأسئلة التي أثارها التزامه بالأدب كوسيلة لفهم الذات.
كانت حياة آيكن مليئة بالرحلات عبر المحيط الأطلسي ففي عام 1921 انتقل من ماساتشوستس إلى إنكلترا، واستقر في راي، ساسكس. أما في عامي 1927 و1928 فقد عمل معلمًا للغة الإنكليزية في هارفارد وتزوج من الكندية جيسي مكدونالد في عام 1912 وأصبح جميع أبنائه الثلاثة جون وجين وجوان كُتَّاباً معروفين. وفي عام 1922 أبحر مرةً أخرى إلى بوسطن، ثم قضى عامين في راي حيث كتب ”رسائل لندن» لمجلة «نيويوركر» وبعد ذلك عاد إلى نيويورك وبوسطن وسافر إلى المكسيك، حيث تزوج من الفنانة ماري هوفر وانتقلا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
في عام 1930 حصل آيكن على جائزة بوليتزر عن مجموعته الشعرية ”قصائد مختارة” وكتب معظم رواياته في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وكان الفكر النفسي التحليلي متجليًّا في معظم أعماله مثل رواية ”الرحلة الزرقاء» التي استخدم  فيها المونولوغ الداخلي، حتى أن الرواية تدور ظاهرياً حول رحلة إلى إنكلترا، لكن في الواقع الرحلة الحقيقية في هذه الرواية هي تيار اللاوعي في العقل. وأيضا رواية ”الملك كوفين” ومجموعات قصصية قصيرة ومنها ”احضرْ احضرْ» و”بين الناس المفقودين».
كان لآيكن دور كبير بوصفه ناقداً في تحرير ”قصائد مختارة من إميلي ديكنسون” وفي تأسيس سمعة هذه الشاعرة بعد وفاتها، ولعب دورا مهما في تقديم أعمال الشعراء الأمريكيين للجمهور البريطاني. وقد حصد العديد من الجوائز الأدبية الكبرى، منها جائزة بوليتزر، وجائزة الكتاب الوطنية، وجائزة بولينغن، وميدالية ذهبية في الشعر من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، وميدالية وطنية للأدب. ومع كل هذه الجوائز الأدبية التي نالها، فلم تلق رؤى آيكن النفسية وغناه اللفظى الاستحقاق الكبير الذي يستحقه، وكان من أسباب ذلك حياته العابرة للأطلسي، حيث جعلت من الصعب على العامة تحديد ما إذا كان أمريكيًّا أم إنكليزيًّا، على عكس إليوت الذي أصبح مواطنًا بريطانيًّا.
وبوصفه ناقدًا، كان آيكن يحاول دائما قول الحقيقة كما يراها من دون تزويقٍ أو تزييفٍ، فكانت حادة وزادت مع مرور الوقت حتى قلَّتْ شعبيته بدرجةٍ كبيرة. ففي مقابلة مع الشاعر والكاتب المسرحي الأمريكي هارفي بريت في عام 1950 وصف ويليام فوكنر بأنه ”عبقري أمريكا العظيم، الكاتب البالغ الوحيد في الخيال الذي شهدناه على نطاق واسع في العشرين عاما الماضية».
وتلك الآراء التي تتسم بالحدة لم تساعده في كسب ود زملائه من الأدباء.
أرى في ذلك نوعًا من الجمود في التفكير وعدم وجود دبلوماسية في التعبير عن الرأي، وأستنتج من ذلك أن ما تعرَّض له من صدمات أثناء الطفولة ليس بالهيِّن على النفسية، فأنا أراه جبلا كبيرا عظيما ويكفينا أنه بعد كل ذلك أصر على النجاح والاستمرار من دون الالتفات إلى ماضيه المؤلم. ولعل من المفترض أن يكون ذلك شفيعا له بين زملائه أو بمعنى آخر أن يكون سببا وجيها في التماس العذر لآيكن في أي تصرُّف يتسم بالغرابةِ بعض الشيء، فما تعرض له كان شيئا مؤلماً ومهيناً أيضاً للغاية، لأنه شعر بعدم احترام والده له بقتله لأمه وانتحاره بعد ذلك، وتركه وإخوته في العراء من دون ظل أو سند في هذه الحياة.
كما أن خجله حال دون قيامه بقراءات شعرية عامة والتي تعد جزءًا من الطريق نحو الشعبية والشهرة، وفي ذلك قال الأكاديمي والناقد الأمريكي بنجامين ديموت، في مقالته عن آيكن في مجلة ”ساترداي ريفيو” عام 1971: ”تتعلق أسباب الإهمال جزئيًّا برغبة هذا الشاعر في عدم الانفصال عن بعض تقاليد القرن التاسع عشر الميلادي في الصوت والحالة».

كاتب ذاتي

أما الكاتب الأمريكي ريتشارد هاور كوستا فكتب في مجلة «نيشن” أن آيكن ”في جميع الأحوال كاتبٌ ذاتيٌّ”. لم يكن بإمكانه أو لم يكن يرغب في فصل حياته عن عمله، فكتاباته كانت ملأى بموضوعات نفسية، مستخدمًا غالبًا استعارة الرحلة للدلالة على رحلة نحو المعرفة الذاتية. فطوال مسيرة آيكن الأدبية كان يقيَّم تقدم شخصياته على طول الرحلة باستخدام مقياس فرويدي: كانت الموضوعات النفسية تُستكشف في أشكال رسمية غير تقليدية. وكان آيكن يتسم بالتواضع عندما يتعلق الأمر بمكانته في التاريخ، فكتب مرة في ردٍّ على طالبٍ في المدرسة: ”لا ليس لديَّ أي فكرة عظيمة عن مكانتي بوصفي شاعرا، سيتولى ذلك الأشخاص الذين سيأتون لاحقًا بعدنا».
وفي مقابلة مع» ذا باريس ريفيو» قرب وفاته، قال آيكن إن تأثير فرويد في كل أعماله الشعرية والروائية حاضر بقوة حتى أنه حاول تجسيد الدوافع المدفونة في اللاوعي، كما كان يؤمن أنه إذا لم يُعبَّر عن تلك الدوافع فكان يمكن أن يكون لها تأثير مدمر كما حدث في حياة والده. وفي هذا فالأدب كان وسيلة لتحقيق الوعي، وطريق يمكن للإنسان من خلاله أن يصبح واعياً بالدوافع المظلمة المخفية بداخله.
نحن أمام شاعرٍ خاص، فيه الكثير من الموهبة والجمال تمثلت في قصائده، التي اتسمت بالرومانسية والكلاسيكية معا، والتي أشعرتني منذ الوهلة الأولى أنني أمام شاعر إنكليزي كلاسيكي، فذكرتني برومانسية ويليام شكسبير في قصائده المليئة بالحب والهيام، وعذوبة توماس كامبيون في قصيدته الأشهر ”كرزٌ ناضجٌ” والحب الأفلاطوني المتجلي في قصائد كريستوفر مارلو. أثناء قراءتي لقصائده شعرت بأنني في حاجة إلى الاستماع إلى مقطوعةٍ موسيقية لشوبان أو سيمفونية لموتسارت، فهو شاعر ذو طابع خاص وكلاسيكي.
أغدق علينا مزيداً من التحليلات النفسية، وأيضا مزيداً من الحب والرومانسية التي يفتقدها العالم أجمع، فالمادة أصبحت لغتنا الأم، واندثرت أمامها لغة الحب والمشاعر فجاء آيكن ليعصف بهذا الجمود ويحل الحب والرومانسية مكانه.
توفي آيكن في سافانا سنة 1973 تاركًا وراءه إرثًا أدبيًّا كبيرًا من كتاباتٍ شعريةٍ ورواياتٍ أثَّرت في الثقافة الأمريكية تأثيرًا كبيرًا وأضافت إليها الكثير. وبرغم عدم شعبيته في أمريكا فإن قيمته الأدبية لا يستطيع أحد أن ينكرها، وإرثه الأدبي يشهد بذلك، كما أن شاعرا غيره مرَّ بتلك الصدمة الصعبة كان يمكن أن يُجَنَّ أو يُصاب بأمراضٍ نفسيةٍ مزمنةٍ، ولكن برعاية عمته الكبرى له ولإخوته واهتمامه بعلماء النفس وقراءاته الكثيرة لهم ساعدته كثيرا في تجاوز تلك المحنة وتقبلها ومعايشتها.
والكتابة الشعرية المليئة بالتحليلات النفسية والغوص في ذاته للتعرف إليها وتحليلها وفك شفراتها من خلال هذه الكتابة، كانت بمنزلة طوق النجاة من الموت أو الجنون أو الانحراف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب