ثقافة وفنون

من يوميّات عاشها متفرّج على الحرب

من يوميّات عاشها متفرّج على الحرب

حسن داوود

ما عجزنا عن رؤيته بأمّ العين وثّقه لنا الفيديو الذي أعاد نشره التلفزيون مرّات عدة. كنا على وشك أن نكون شهودا على عملية القتل، لو أننا وصلنا إلى هناك قبل خمس دقائق. لكننا لم نرَ من ذلك إلا زحمة السير التي علقنا فيها، ووقوف الناس على شرفة متطاولة في الأعلى، يتفرجون على ما لا نستطيع رؤيته ونحن في الأسفل. لم يدم ازدحام السير طويلا على أي حال. فضّته الشرطة كما لو أن ما جرى حادث سير. الشرطي الذي أتاح لنا العبور قال لنا، رادّا على سؤالنا، إن اثنين قُتلا. كان يهمّ بأن يوضح أنهما رجل وامرأته، لولا أن أصمه زمّور السيارة التي خلفنا، داعيا إيّاه إلى أن يُمشّي السير. ما حصّلناه من مصادفة مرورنا من هناك لم يزد عن الخبر المستعجِل الذي قرأه أحدنا، قبل ثلاث دقائق من ذلك، على محموله.
لم يستفد مضيفونا، بعد وصولنا إليهم، من كوننا كنا هناك. لم نزد لهم شيئا على ما كانوا قرأوه على تلفوناتهم.
***
هي مطاردة جرت في الفاصل المزدحم من الأوتوستراد، ومع ذلك لم يتدخّل أحد. فقط الرجل وامرأته. الصاروخ الأول لم يقتلهما بل اكتفى، حسب الفيديو، بأن أفرغ عجلات سيارتهما الهوندا من الهواء. وهما تمكّنا من الخروج، ولاذا بالفرار راكضين في الأرض المزروعة تحت الطريق. لكن المسيّرة التي كانت صوّبت نحوهما صاروخها الأوّل استدارت لتتبعهما، مثلما كان سيفعل رجل ينوي قتلهما، نازلة مثلهما إلى الأرض المزروعة. هناك ماتا. لم نعرف ماذا جرى بعد ذلك للمسيرّة حاملة الصواريخ، هل عادت، أو هل أعيدت، إلى حيث كانت؟ أم هل هي مثل طلقات المدافع، لا تُزوَّد بما يمكّنها من العودة. نحن، كما أولئك الذين علقوا مثلنا في الزحمة القليلة، كما أولئك الذين كانوا واقفين يتفرّجون في الأعلى، انصرفنا جميعا كلّ إلى غايته. انفتحت الطريق لنا، نحن الذين في السيارات، وسررنا بالعودة إلى سرعتنا السابقة، واستدار أولئك الذين في الأعلى ليعود كل منهم إلى ما كان يفعله قبل سماعه الانفجار. كان يمكن لهؤلاء، في وضع طبيعي، أن يفكّروا بما رأوا، أن يفكّروا بالمصير المأساوي للمرأة والرجل اللذين قُتلا للتوّ، لكن صرفتهم عن ذلك أفكار مثل: إنها المرة الأولى التي تُضرب فيها جونية، وإن لبنان كلّه لم يعد آمناً ربما.
***
الشعور بالأمان والشعور بالخطر يسيران جنبا إلى جنب. في أحيان يتناوبان، أي أن يكون أحدهما أقوى من الآخر. هو اطمئنان خادع حينا، وحينا هو شعور بالخطر غير داهم. نحن لسنا مستهدفين، قال بائع الفواكه من أمام باب محلّه في شارع متفرّع من كورنيش المزرعة، لكن رغم ذلك يمكن أن تموت، أجابه بائع الحلوى الملوّنة من بسطته الملاصقة. وهو أعطاه مثلا عن العشرات الذين قضوا بغارة النويري بينما كان رجل واحد هو المستهدف.
***
الضاحية خالية. هذا ما تظهره الجولات التي تقوم بها كاميرات المصوّرين التي تعبر الشوارع هناك. لا أحد على الطريق التي تساقطت عليها الحجارة من الأبنية التي قصفتها الصواريخ. ولا أحد في المحلات أسفل الأبنية التي اختلّت هندستها فمالت على أحد جنبيها. وعلى الرغم من علمه أنه لم يعد أحد هناك، في الشقق، يدعو صوت الضابط الإسرائيلي الناسَ إلى المغادرة خلال عشر دقائق، حفاظا على سلامتهم.
***
عدنان يقول عن طائرة الاستطلاع إنها تئزّ مثل برغشة. أحد الجالسين، وهو حسن، عارضه بقوله إنها تئزّ مثل ذبابة. ولكي يقدّم هذا الأخير دليله قال إن البرغشة يُسمع أزيزها فقط قبل ثانية واحدة من انقضاضها، فيما الذبابة تظلّ تئزّ ولا تنقضّ. وهي، طائرة الاستطلاع، تظل على ذلك جاعلة أهل بيروت يعيشون على إيقاعها الرتيب. الغاية من طوافها طيلة النهار والليل هو الإزعاج، وإعطاء أولئك الذين لن يُقصفوا، كما يدعو الاتفاق الذي جرى مع الأمريكيين، حصّتهم من الحرب. وهي تقول لمن هم تحتها إن من غير اللائق أن يسخطوا من أزيزها، فيما آخرون غيرهم يُقصفون بالصواريخ.
***
السبعمئة ألف سيارة التي أضيفت إلى المليون سيارة المتجوّلة كل يوم في بيروت، عرفت كيف تُظهر عددها قليلا. تعوّدت على بيروت وصارت تعرف كيف تُركَن وكيف تسير. في الأيام الأولى لمجيئها كانت تُضيّعها المفارق وتظلّ تتساءل إلى ماذا تفضي نهاياتها. ثم إنها كانت تجد نفسها متجّهة إلى شارع الحمرا من دون أن تكون لها حاجة في الذهاب إليه. الآن تآلفت مع الجوّ، بل إنها بالغت في ذلك فصارت تتبع السيارات الأخرى كيفما اتجهت. لم يعد خطّا الكورنيش ممتلئين ذهابا وإيابا بما يوحي بأن الناس ذاهبون إلى أشغالهم وعائدون منها في الوقت نفسه. الآن عاد السير إلى ما كان عليه. في الصباح صار خطّ القادمين مزدحما وخطّ الراجعين فارغا. هل اعتاد الوافدون على الإقامة هنا فاندمجوا إلى حدّ أنهم صاروا يتصرّفون كأنهم ذاهبون إلى الوظيفة، مثلهم مثل غيرهم، ليعودوا منها، مثلهم مثل غيرهم أيضا، في آخر النهار؟

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب