عروبة الحضارة الإسلامية: إشكالية العرق واللغة والهوية
مصطفى عطية جمعة
ثمة منازعات فكرية عن كينونة الحضارة الإسلامية، من ناحية العرق واللغة والهوية، فهناك من يدّعي أنها حضارة عربية في الأساس، أي أنها مقصورة على العلماء العرب وحدهم، وفي المقابل رأى البعض الآخر أن الأعاجم المسلمين لهم الفضل الأكبر في تكوين علوم الحضارة الإسلامية، ومنهم ابن خلدون، وشوقي ضيف، إلا أن ناظم رشيد في كتابه «الأدب العربي في العصر العباسي» لا ينكر جهود العلماء الأعاجم في مسيرة علوم الحضارة الإسلامية، وفي الترجمة والتأليف، ولكنه يقرر أن هذا لا يعني أنهم الوحيدون، أو المتفردون، الذين قاموا بحفظ العلم وتدوينه، فأين نضع الخليل بن أحمد الفراهيدي، والأصمعي، وأبا عمرو بن العلاء، والمفضل الضبي، والكلبي، وابن هشام، والرازي، والكندي، والفارابي، وابن سينا، لقد عاش الجميع تحت مظلة الإسلام، وروحه الحضارية القوية، فتفجرت طاقاتهم الإبداعية.
ولا بد من أن نقرر أن القضية ليست في جنس العلماء، أكانوا عربا أم عجما، وإنما في اللغة التي صاغوا بها علومهم، والخلافة التي استظلوا بها.
وحول هذه النقطة يرى أحمد فؤاد باشا في كتابه «التراث العلمي للحضارة الإسلامية»، أن المؤرخين والفلاسفة اختلفوا حول الحضارة العربية، والحضارة الإسلامية، وكثر الجدل حول العرب، هل هم سكان الجزيرة العربية، أم هم الذين دخلوا في إطار الدولة الإسلامية الكبرى، واتخذوا اللغة العربية لغةً لهم، واقتبسوا عادات العرب، وتقاليدهم.
ويقرر أنه مهما يكن من هذا الجدل، فإنه يصعب الفصل بين العالم الإسلامي والعالم العربي، فالدولة الإسلامية الكبرى بدأت في صدر الإسلام، في صورتها المركزية، ثم قامت وتمددت في أمصار مختلفة في الأندلس والمغرب ومصر وفارس وسوريا، بعد ضعف ثم سقوط الدولة المركزية (دولة الخلافة)، وانتشرت اللغة العربية بين الطوائف والشعوب التي لا تنتمي إلى السلالات العربية بفضل الإسلام، وبفضل البيئة العلمية الزاهرة في عصور الإسلام الذهبية.
ويقرر أحمد فؤاد باشا أن الحضارة الإسلامية قامت من الناحية المادية (العلوم الطبيعية والرياضية والتقنية) على ما وصل إليها من إنجازات الحضارات القديمة، واعتمدت على ثروات الطبيعة التي امتلأت بها رقعتها الممتدة، من الشرق إلى الغرب، في موقع جغرافي يتوسط حضارات الهند والصين وفارس شرقا، وحضارات روما واليونان غربا، ولكن هذه الموارد الضخمة، لم تكن لتقيم حضارة لولا ظهور الإسلام الحنيف، وانتشار دعوته وشريعته وتعاليمه لتشمل شعوبا كثيرة اعتنقت الإسلام، كما شملت طوائف من غير المسلمين، بقوا على أديانهم ومذاهبهم، ونعموا بحرياتهم في ظل دولة الإسلام.
أما عن اللغة العربية وتأثيرها على الثقافات والمجتمعات، فإن العربية أضحت لغة الحضارة الإسلامية المعتمدة، وظهر في عصور الإسلام أصحاب اللسانيَنِ، الذين أجادوا العربية مع لغاتهم المحلية. وكما يقول أحمد عتمان في كتابه «المنجز العربي الإسلامي في الترجمة وحوار الثقافات من بغداد إلى طليلطة»، عن انتشار اللغة العربية في أنحاء العالم الإسلامي، وتوغلها في الحياة الثقافية بأن: «الدولة العباسية امتدت من حدود الصين وأواسط الهند، شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن المحيط الهندي والسودان جنوبا، إلى بلاد الترك والخزر والروم والصقالبة شمالا، وبذلك كانت تضم بين جناحيها بلاد السند وخراسان، وما وراء النهر، وإيران والعراق والجزيرة العربية ومصر والأندلس، وهي أوطان كثيرة، وبقاع شتى، وكانت تعيش فيها منذ القدم شعوب متباينة، في الجنس واللغة والثقافة، غير أنها لم تكد تدخل في نطاق العروبة، والإسلام، حتى أخذت عناصرها المختلفة؛ تمتزج بالعنصر العربي امتزاجا قويا، فإذا بنا إزاء دولة عربية، تتألف من أجناس مختلفة، وقد مضت هذه الأجناس تنصهر في الوعاء العربي الإسلامي، حتى غدت كأنها أمة توحّدت».
فكلمة السر في الحضارة الإسلامية هي الإسلام ثم العروبة، فبهما ينضوي الشعب تحت لواء المسلمين، وإن شاء الاحتفاظ بديانته ولغته الأصلية فذلك من حقوقه، فهو في النهاية في مظلة العالم الإسلامي، بفكر إنساني مفاده، على حد قول برهان زريق، التدامج مع الشعوب كافة، فالبعد العالمي عنصر أساسي في تكوين الأمة الإسلامية، فمحمد (صلى الله عليه وسلم) جاء ليختم على مرحلتي العائلة والقبيلة، ليبدأ طريق البشرية العالمية الشاملة، ومن هنا تكتسب العروبة شخصيتها المركزية في إطار عالمية الأميين العرب (يقصد العرب الذين لم يكن لهم كتاب منزل من قبل)، كقوة مستنبطة لكل الحضارات، ولكل الأعراف ولموقع الوسط في العالم، خاصة أن القرآن الكريم حمل عالمية الخطاب، بدعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾،(الأعراف، 158). فالخطاب القرآني ورسالة الإسلام موجهان لكل الناس، أما العرب فهم الذين أكرمهم الله بإنزال القرآن بلغتهم، ومنهم النبي المبعث، وهم الذين حملوا لواء الدعوة والفتوحات، بل إن الأمة العربية هي ثمرة تفاعل الإسلام مع العروبة، فلولا الإسلام لما تكونت أمة العرب، لتصبح شعبا واحدا، بدلا من شعوب متفرقة، ولما استوت العروبة بمفهومها الحضاري، فالإسلام ثورة حضارية قادرة على الإبداع.
كاتب مصري