ثقافة وفنون
د. زياد العوف – اليوم العالميّ للمسرح…
د. زياد العوف – اليوم العالميّ للمسرح…
بمناسبة اليوم العالميّ للمسرح الموافق للسابع والعشرين من شهر آذار/مارس من كلّ عام يسعدني أن أضع بين يدَي القارئ الكريم هذه الدراسة التحليلية حول المسرح الذهنيّ عند توفيق الحكيم التي احتواها كتابي :
(أعلام الأدب العربيّ الحديث- قراءة جديدة)
الصادر في القاهرة عامَ ٢٠٢٠م.
قراءة ماتعة ومفيدة أرجوها لكم.
توفيق الحكيم والمسرح الذّهنيّ(١)
الأديب والقاصّ والكاتب المسرحيّ الكبير توفيق الحكيم(١٨٩٨-١٩٨٧م) عَلَمٌ بارز، ورائد مؤسّس من روّاد النهضة المسرحيّة والأدبية العربية الحديثة.
أبصرَ كاتبنا الكبير النورَ في مدينة الإسكندرية في كنف أسرة ثريّة من ملّاك الأراضي لأَبٍ يعمل في سِلكِ القضاء، ولأمٍّ أرستقراطيّة من أصول تركيّة أحاطتْ ابنها بسياج من العزلة الاجتماعية عن البيئة الريفية المحيطة، مع تريبة منزلية صارمة أسهمتْ في توجّه الحكيم نحو عالمه الداخليّ النفسيّ والعقليّ؛ متعهداً إيّاه بالتأمّل والتبصّر والإغناء للتعويض عن فقر عالَمه الاجتماعيّ الخارجيّ.
ولعلّ في موقف الكاتب الإشكاليّ من المرأة ، وإيثاره للمسرح الذهني على غيره من ألوان المسرح الأخرى ما يؤكّد هذا التأثير العميق الذي تركته تلك التربية الصارمة على مسيرة الكاتب الاجتماعية والفكريّة.
تابع الحكيم مسيرته التعليمية في القاهرة، فحصل على الشهادة الثانوية ثمّ على الشهادة الجامعية في الحقوق عام(١٩٢٥م) فعمل لبعض الوقت محامياً متدرّباً، إلّا أنّ اهتمامه وشغفه كان منصبّاً على الآداب والفنون؛ فاغترف منها ما كانتْ أجواء القاهرة الأدبية والثقافية توفره آنذاك، ما دفع أباه للعمل على إرساله في بعثة علمية إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا في القانون، فمكث هناك ثلاث سنوات بين عامي(١٩٢٥-١٩٢٨م) عكف خلالها على الاطّلاع العميق على فنون الأدب والمسرح الفرنسي والإغريقيّ بخاصة، متجاهلاً تماماً الغاية العلميّة التي أوفِدَ من أجلها إلى فرنسا، فاستدعاه أبوه إلى مصر قبل انتهاء أمد البعثة، بعد أنْ قطع الأمل من متابعة ابنه لدراسة القانون. عاد توفيق الحكيم إلى مصر ليعمل وكيلاً للنيابة العامة في ما كان يُعرَفُ آنذاك بالمحاكم المختلطة، ثمَّ مالبثَ أنْ تبوّأ عدداً من المناصب الثقافية في بعض الإدارات الحكومية والوزارات بعد أنْ أصدر عدداً من الكتب المسرحية والأدبية والثقافية لفتتْ إليه الأنظار بوصفه رائداً من روّاد المسرح والقصّة والأدب الحديث، كما أصبح عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وعضواً متفرّغاً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ومندوباً في منظمة( اليونسكو)لفترة وجيزة في ستينيات القرن الماضي، إلى أنْ استقرّ به المطاف مستشاراً متفرّغاً في إحدى الصحف الرسمية الكبرى حتّى تقاعده الوظيفيّ.
توزّع الإنتاج الأدبي والفكري للكاتب ما بين القصة والرواية والمسرح والمقالة، إلّا أن الأدب المسرحي قد استحوذ على النصيب الأكبر من هذا الإنتاج، بل به عُرِفَ الحكيم بوصفه رائداً للمسرح العربي الحديث، وفي ذلك يقول الكتور طه حسين:” إنّ الحكيم يفتح باباً في الأدب العربي هو باب الأدب المسرحيّ”.
نعم، يستطيع المؤرّخ والباحث الأدبيّ أن يشير إلى الكثير من النصوص المسرحية الشعرية والنثرية التي كانت تُعرَض على خَشَبات المسرح، قبل توفيق الحكيم، حيث كان المُشاهِد يستمتع بالمَشاهِد المسرحية التي كان يتخلّلها الغناء والموسيقا والرقص، كما هو الشأن في المسرح الإغريقيّ القديم؛ إذ كان العرض المسرحيّ يتكوّن من مَشاهِدَ تمثيلية حوارية تتعاقب مع مقاطع غنائية تؤدّيها” جوقة” تتحرّك على أنغام الموسيقا حركات رقصٍ إيقاعيّ ينسجم مع النصّ المسرحي، وذلك قبل أنّ يستقلّ فنّ التمثيل المسرحيّ الخالص عن كلٍّ من المسرح الغنائي” الأوبرا والأوبريت” ومن الرقص التعبيري” فنّ الباليه”.
غير أنّ الأدب المسرحي النثريّ بمعناه الفنيّ الناضج قد ولِدَ على يدَي توفيق الحكيم.
ترك الحكيم عدداً كبيراً من المسرحيات جمع معظمها في مجلدين كبيرين تحت عنوان”
– مسرح المجتمع( ١٩٥٠م) ويتضمّن(٢١) مسرحية.
– المسرح المنوّع(١٩٥٦م) ويتضمن(٢١) مسرحية.
في حين حرص الكاتب الكبير على أنْ تستأثر مسرحياته الذهنية الكبيرة، التي كان يعتزّ بها،بكتب خاصة بها، كما هو الشأن مع مسرحيات( أهل الكهف) و(شهرزاد)و(بيجماليون)و(براكسا أو مشكلة الحُكم)و( أوديب الملِك ) و( سليمان الحكيم )وغيرها.
هذا..وقد وقع اختياري في هذه الدراسة على مسرحية( أهل الكهف)* الصادرة عام( ١٩٣٣م) للتعريف بها وإلقاء بعض الأضواء التحليلية والنقدية عليها بوصفها مثالاً واضحاً للمسرح الذهنيّ عند توفيق الحكيم.
لكنْ..ما هو المسرح الذهني، وما الذي يميّزه عن المسرح المتعارف عليه؟ يحاول توفيق الحكيم صياغة إجابة على هذا السؤال فيقول في المقدمة التي وضعها لمسرحية” بيجماليون”:
” منذ نحو عشرين عاماً كنت أكتب للمسرح بالمعنى الحقيقي، والمعنى الحقيقي للكتابة “للمسرح” هو الجهل بوجود” المطبعة” .لقد كان هدفي وقتئذٍ في رواياتي هو ما يسمّونه المفاجأة المسرحية…ولكنني أقيم اليوم مسرحي داخل الذهن، وأجعل الممثلين أفكاراً تتحرّك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز.
إنّي حقيقة مازلتُ محتفظاً بروح المفاجأة المسرحية، ولكن المفاجآت المسرحية لم تعد في الحادثة بقدر ما هي في الفكرة”.
يتعلّق الأمر إذاً بنقل الصراع الدرامي- وهو جوهر العمل المسرحي- من الخارج إلى داخل ذهن الشخصيات، ما يؤدّي إلى تعزيز دور الأفكار على حساب الحركة الخارجية، الأمر الذي يقلّل من حيوية الشخصيات ويحوّلها إلى مجرد أصوات تردّد أفكار المؤلّف، فيتحوّل عنصر المفاجأة المسرحية إلى الفكرة بدلاً من الحادثة، ومن ثَمَّ فإنّ هذا النوع من المسرحيات يمثّل وجبة فكريّة دسمة للقارئ، لكنّه لا يثير التفاعل المطلوب حين عرضه على خشبة المسرح، إلّا إذا استطعنا ابتكار عرض مسرحيّ يلائم المسرح الذهني من خلال فنّ الإخراج والإضاءة والموسيقا التصويرية للتعويض عن النقص في عنصر الحركة الخارجية.
واقع الحال يقول إنّ المسرح الذهنيّ عند الحكيم قد جاء تلبية لحاجة ثقافية وفكرية للتفاعل مع التطوّر العالمي في هذا المجال، ولبثِّ الحيويّة والتجديد في الأدب العربي الحديث، فكان هذا النوع من “المسرح المقروء” بمثابة بابٍ جديد في أدبنا الحديث، وقد تمَّ استقباله والإشادة به في الأوساط الأدبية والثقافية المصرية والعربية آنذاك بوصفه كذلك.
نعود إلى مسرحية” أهل الكهف” لنلاحظ أنّ الكاتب قد استمدّ أحداث مسرحيتة من القَصص القرآني( الآيات ٩-٢٦ من سورة الكهف) وكذا من كتب التفسير؛ حيث اعتمد أسماء( ميشلينا) و( مرنوش) وزيرا( دقيانوس) وكذا الراعي(يمليخا) وكلبه( قطمير) كما وردتْ في ( تفسير النسَفيّ)، وأضاف إليهم كلّاً من الفتاة ( بريسكا) ومؤدّبها( غالياس) من مصادر أخرى، هذا..مع استفادته ممّا ورد في” كتاب الموتى” عند الفراعنة، فضلاً عن المصادر الدينية والتاريخية المسيحية، إلّا أنّنا لا نلمس أثراً واضحاً لهذه المصادر في المسرحية.**
من الواضح أنّ الفكرة الأساسية لهذه المسرحية تتمحور حول علاقة الإنسان بالزمن ومعضلة الفناء والموت التي ما فتئت تؤرّق الإنسان عبر العصور. على أنّ الديانات السماوية، بخاصة، قد فتحت للبشرية باباً للأمل من خلال عقيدة البعث، ومن ثَمَّ الخُلود.
تتناول المسرحية إشكالية علاقة الإنسان بالزمن بالتأكيد على الروابط الاجتماعية التي تشكّل جوهر مفهوم الزمن؛ إذ لا معنى للزمن المجرّد من هذه الروابط، وهذا ما توضّحه المسرحية في سلوك أهل الكهف الذين عادوا إلى الحياة بعد قرون من الغياب، لكنْ بعد أنْ تقطّعت صِلاتُهم بأفراد المجتمع وقِيَمه وعاداته وتقاليده،فوجدوا أنفسهم أمام زمن جديد بكلّ ما فيه، فاستشعروا غربةً مطلقة تفصلهم عن هذا المجتمع، فلم يكنْ لهم من خيار سوى العودة إلى الكهف ليموتوا فيه.
ويرى الدكتور محمّد مندور، معلّقاً على ما وصفه بالخيار السلبي لتوفيق الحكيم، أنّه كان من الممكن اقتراح بدائلَ أخرى لصِلات الشخصيات مع المجتمع، بما يجعلهم يتابعون حياتهم في إطار الزمن والمجتمع الجديد. على أنّ المؤلّف لم يكنْ يرى ذلك على الإطلاق؛ إذ هيمنتْ هذه الرؤية على كلِّ مسرحياته الذهنيّة.
أسوق فيما يلي بعض الأمثلة الحوارية من المسرحية للتدليل على ما ذهبنا إليه.
إنّ سرعة اتخاذ القرار بالعودة إلى الكهف يتعلّق بمدى قوة الروابط مع المجتمع، لذا فإنّ الراعي( يمليخا)
كان أسرع أصحاب الكهف في أخذ هذا القرار؛ ذلك أنّ ارتباطه بالمجتمع يقتصر على قطيع الغنم الذي لم يعدْ له وجود. جاء في المسرحية:
ميشلينا: إلى أين ذاهب؟
يمليخا:(ذاهباً في كآبة) إلى الكهف.
ميشلينا:ويحكَ! ماذا تصنع في الكهف؟
مرنوش: إنّ يمليخا يزعم أنّ الحياة مستحيلة بين هؤلاء الناس.
….. ……….. ……… …
مرنوش: تكلّم يا يمليخا!
يمليخا:( في حدّة) قلتُ لكما لا تسألاني الآن شيئاً( بعد لحظة بينما ينظران إليه في وجوم) لقد صرتما أنتما غريبين عني منذ قليل. أنتما البقية الباقية بعد أن مضى كلّ شيء كحلم………. ……………
فلا أستطيع بعد الآن أن أريكما ما أرى! ابقيا إذن ماشئتما في هذا العالم، لقد صرتُ وحيداً فيه. وليس يربطني إليه سبب. ولئن كنتما لم تحسّا بعدُ الهرم فإنّي بدأت أحسُّ وقرَ ثلاثمئة عام ترزح تحتها نفسي….الوداع يا إخوان الماضي!
اذكرا عهدنا الجميل…عهد دقيانوس! والآن أستودعكما الله هانئين بشباب قلبيكما في حياتكما الجديدة…( يذهب في بطء وكآبة عل حين تتبعه أنظار ميشلينا ومرنوش حتى يختفي…) (ص.ص٨٦-٩٠)
أمّا مرنوش فإنّ صلته بالمجتمع تبدو أكثر قوّة؛ إذ إنها تستند إلى العلاقات الإنسانية التي تتمثّل هنا بزوجه وولده ، ولكنّه مايلبث أن يتهاوى ويرغب بالعودة إلى الكهف حالما تتكشّف له حقيقة موتهما البعيدة وانقطاع صلته وأسباب وجوده بالزمن والأسرة والمجتمع.
نقرأفي المسرحية:
مرنوش: لقد صدق الراعي.
ميشلينا: منذ متى؟
مرنوش: ميشلينا! لقد مات قلبي يا ميشلينا ولا فائدة منّي بعد اليوم. تعال يا ميشلينا.!.
ميشلينا: إلى أين؟
مرنوش: ( وهو يجذب يده) إلى عالمنا نحن…
ميشلينا: ( يسحب يده) أمجنون أنت؟
مرنوش: أتدَعني أذهب وحدي؟( ميشلينا لا يجيب) ميشلينا.! أتتركني أذهب وحدي؟
ميشلينا: لا تذهب. ابقَ هنا.
مرنوش: لا أستطيع…
………………………..
ميشلينا: مرنوش! لن تذهب قبل أن تقول لي…
مرنوش: لقد قالها يمليخا.
ميشلينا: ماذا؟
مرنوش: إنّا أشباح..إنّا الآن ملك الزمن.
ميشلينا: ( في تفكّر وشيء من الارتجاف) مرنوش…!
مرنوش:: إنّا ملك التاريخ.. ولقد هربنا من التاريخ لننزل عائدين إلى الزمن..فالتاريخ ينتقم!.. الوداع يا ميشلينا..!( يخرج مرنوش ويترك ميشلينا ذاهلاً).( ص.ص ١٠٧-١١٣)
وعلى الرغم من أنّ صلات ميشلينا أشدّ وأقوى من رفيقيه في الكهف إلا أنّه لا يقوى على بناء روابط وعلاقات جديدة مع المحيط الزماني والمكاني الجديد، فينتهي به الأمر إلى الاستسلام والعودة إلى الكهف؛ إذ تبيّن له استحالة تجاوز الزمن والوقوع في حبّ حفيدة محبوبته وسميّتها( بريسكا).
جاء في المسرحية:
بريسكا: ( تشير إلى جسدها) نعم…هذا الجسد! انظر ياحبيب جدّتي… ألا تعرف كم عمره؟ عشرون ربيعاً فقط.
ميشلينا”( يخفي وجهه براحتيه) يا لفظاعة ما تقولين!…
………….. ……….
ميشلينا: نعم …نعم… الوداع! . يا…يا… لستُ أجسرُ! الآن أرى مصيبتي وأحسُّ عِظمَ ما نزل بي.
لا مرنوش ولا يمليخا رُزِئا بمثل هذا…إنّ بيني وبينك خطوة…… فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها… ….
هو التاريخ. نعم، صدق مرنوش… لقد فات زماننا ونحن الآن ملك التاريخ… ولقد أردنا العودة إلى الزمن ولكنّ التاريخ ينتقم…الوداع!.” ( ص.ص١٤٧-١٤٨).
١-د.زياد العوف، أعلام الأدب العربيّ الحديث-قراءة جديدة، القاهرة، مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع، ٢٠٢٠م، ص ص١٦١-١٧٠
*-توفيق الحكيم، أهل الكهف، مكتبة مصر، القاهرة،د.ت.
**- يُنظَر،
– د.محمّد مندور، مسرح توفيق الحكيم، دار نهضة مصر، القاهرة، ط.٣، د.ت.
– د.محمّد مندور، الأدب وفنونه، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت.دكتور زياد العوف
(أعلام الأدب العربيّ الحديث- قراءة جديدة)
الصادر في القاهرة عامَ ٢٠٢٠م.
قراءة ماتعة ومفيدة أرجوها لكم.
توفيق الحكيم والمسرح الذّهنيّ(١)
الأديب والقاصّ والكاتب المسرحيّ الكبير توفيق الحكيم(١٨٩٨-١٩٨٧م) عَلَمٌ بارز، ورائد مؤسّس من روّاد النهضة المسرحيّة والأدبية العربية الحديثة.
أبصرَ كاتبنا الكبير النورَ في مدينة الإسكندرية في كنف أسرة ثريّة من ملّاك الأراضي لأَبٍ يعمل في سِلكِ القضاء، ولأمٍّ أرستقراطيّة من أصول تركيّة أحاطتْ ابنها بسياج من العزلة الاجتماعية عن البيئة الريفية المحيطة، مع تريبة منزلية صارمة أسهمتْ في توجّه الحكيم نحو عالمه الداخليّ النفسيّ والعقليّ؛ متعهداً إيّاه بالتأمّل والتبصّر والإغناء للتعويض عن فقر عالَمه الاجتماعيّ الخارجيّ.
ولعلّ في موقف الكاتب الإشكاليّ من المرأة ، وإيثاره للمسرح الذهني على غيره من ألوان المسرح الأخرى ما يؤكّد هذا التأثير العميق الذي تركته تلك التربية الصارمة على مسيرة الكاتب الاجتماعية والفكريّة.
تابع الحكيم مسيرته التعليمية في القاهرة، فحصل على الشهادة الثانوية ثمّ على الشهادة الجامعية في الحقوق عام(١٩٢٥م) فعمل لبعض الوقت محامياً متدرّباً، إلّا أنّ اهتمامه وشغفه كان منصبّاً على الآداب والفنون؛ فاغترف منها ما كانتْ أجواء القاهرة الأدبية والثقافية توفره آنذاك، ما دفع أباه للعمل على إرساله في بعثة علمية إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا في القانون، فمكث هناك ثلاث سنوات بين عامي(١٩٢٥-١٩٢٨م) عكف خلالها على الاطّلاع العميق على فنون الأدب والمسرح الفرنسي والإغريقيّ بخاصة، متجاهلاً تماماً الغاية العلميّة التي أوفِدَ من أجلها إلى فرنسا، فاستدعاه أبوه إلى مصر قبل انتهاء أمد البعثة، بعد أنْ قطع الأمل من متابعة ابنه لدراسة القانون. عاد توفيق الحكيم إلى مصر ليعمل وكيلاً للنيابة العامة في ما كان يُعرَفُ آنذاك بالمحاكم المختلطة، ثمَّ مالبثَ أنْ تبوّأ عدداً من المناصب الثقافية في بعض الإدارات الحكومية والوزارات بعد أنْ أصدر عدداً من الكتب المسرحية والأدبية والثقافية لفتتْ إليه الأنظار بوصفه رائداً من روّاد المسرح والقصّة والأدب الحديث، كما أصبح عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وعضواً متفرّغاً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ومندوباً في منظمة( اليونسكو)لفترة وجيزة في ستينيات القرن الماضي، إلى أنْ استقرّ به المطاف مستشاراً متفرّغاً في إحدى الصحف الرسمية الكبرى حتّى تقاعده الوظيفيّ.
توزّع الإنتاج الأدبي والفكري للكاتب ما بين القصة والرواية والمسرح والمقالة، إلّا أن الأدب المسرحي قد استحوذ على النصيب الأكبر من هذا الإنتاج، بل به عُرِفَ الحكيم بوصفه رائداً للمسرح العربي الحديث، وفي ذلك يقول الكتور طه حسين:” إنّ الحكيم يفتح باباً في الأدب العربي هو باب الأدب المسرحيّ”.
نعم، يستطيع المؤرّخ والباحث الأدبيّ أن يشير إلى الكثير من النصوص المسرحية الشعرية والنثرية التي كانت تُعرَض على خَشَبات المسرح، قبل توفيق الحكيم، حيث كان المُشاهِد يستمتع بالمَشاهِد المسرحية التي كان يتخلّلها الغناء والموسيقا والرقص، كما هو الشأن في المسرح الإغريقيّ القديم؛ إذ كان العرض المسرحيّ يتكوّن من مَشاهِدَ تمثيلية حوارية تتعاقب مع مقاطع غنائية تؤدّيها” جوقة” تتحرّك على أنغام الموسيقا حركات رقصٍ إيقاعيّ ينسجم مع النصّ المسرحي، وذلك قبل أنّ يستقلّ فنّ التمثيل المسرحيّ الخالص عن كلٍّ من المسرح الغنائي” الأوبرا والأوبريت” ومن الرقص التعبيري” فنّ الباليه”.
غير أنّ الأدب المسرحي النثريّ بمعناه الفنيّ الناضج قد ولِدَ على يدَي توفيق الحكيم.
ترك الحكيم عدداً كبيراً من المسرحيات جمع معظمها في مجلدين كبيرين تحت عنوان”
– مسرح المجتمع( ١٩٥٠م) ويتضمّن(٢١) مسرحية.
– المسرح المنوّع(١٩٥٦م) ويتضمن(٢١) مسرحية.
في حين حرص الكاتب الكبير على أنْ تستأثر مسرحياته الذهنية الكبيرة، التي كان يعتزّ بها،بكتب خاصة بها، كما هو الشأن مع مسرحيات( أهل الكهف) و(شهرزاد)و(بيجماليون)و(براكسا أو مشكلة الحُكم)و( أوديب الملِك ) و( سليمان الحكيم )وغيرها.
هذا..وقد وقع اختياري في هذه الدراسة على مسرحية( أهل الكهف)* الصادرة عام( ١٩٣٣م) للتعريف بها وإلقاء بعض الأضواء التحليلية والنقدية عليها بوصفها مثالاً واضحاً للمسرح الذهنيّ عند توفيق الحكيم.
لكنْ..ما هو المسرح الذهني، وما الذي يميّزه عن المسرح المتعارف عليه؟ يحاول توفيق الحكيم صياغة إجابة على هذا السؤال فيقول في المقدمة التي وضعها لمسرحية” بيجماليون”:
” منذ نحو عشرين عاماً كنت أكتب للمسرح بالمعنى الحقيقي، والمعنى الحقيقي للكتابة “للمسرح” هو الجهل بوجود” المطبعة” .لقد كان هدفي وقتئذٍ في رواياتي هو ما يسمّونه المفاجأة المسرحية…ولكنني أقيم اليوم مسرحي داخل الذهن، وأجعل الممثلين أفكاراً تتحرّك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز.
إنّي حقيقة مازلتُ محتفظاً بروح المفاجأة المسرحية، ولكن المفاجآت المسرحية لم تعد في الحادثة بقدر ما هي في الفكرة”.
يتعلّق الأمر إذاً بنقل الصراع الدرامي- وهو جوهر العمل المسرحي- من الخارج إلى داخل ذهن الشخصيات، ما يؤدّي إلى تعزيز دور الأفكار على حساب الحركة الخارجية، الأمر الذي يقلّل من حيوية الشخصيات ويحوّلها إلى مجرد أصوات تردّد أفكار المؤلّف، فيتحوّل عنصر المفاجأة المسرحية إلى الفكرة بدلاً من الحادثة، ومن ثَمَّ فإنّ هذا النوع من المسرحيات يمثّل وجبة فكريّة دسمة للقارئ، لكنّه لا يثير التفاعل المطلوب حين عرضه على خشبة المسرح، إلّا إذا استطعنا ابتكار عرض مسرحيّ يلائم المسرح الذهني من خلال فنّ الإخراج والإضاءة والموسيقا التصويرية للتعويض عن النقص في عنصر الحركة الخارجية.
واقع الحال يقول إنّ المسرح الذهنيّ عند الحكيم قد جاء تلبية لحاجة ثقافية وفكرية للتفاعل مع التطوّر العالمي في هذا المجال، ولبثِّ الحيويّة والتجديد في الأدب العربي الحديث، فكان هذا النوع من “المسرح المقروء” بمثابة بابٍ جديد في أدبنا الحديث، وقد تمَّ استقباله والإشادة به في الأوساط الأدبية والثقافية المصرية والعربية آنذاك بوصفه كذلك.
نعود إلى مسرحية” أهل الكهف” لنلاحظ أنّ الكاتب قد استمدّ أحداث مسرحيتة من القَصص القرآني( الآيات ٩-٢٦ من سورة الكهف) وكذا من كتب التفسير؛ حيث اعتمد أسماء( ميشلينا) و( مرنوش) وزيرا( دقيانوس) وكذا الراعي(يمليخا) وكلبه( قطمير) كما وردتْ في ( تفسير النسَفيّ)، وأضاف إليهم كلّاً من الفتاة ( بريسكا) ومؤدّبها( غالياس) من مصادر أخرى، هذا..مع استفادته ممّا ورد في” كتاب الموتى” عند الفراعنة، فضلاً عن المصادر الدينية والتاريخية المسيحية، إلّا أنّنا لا نلمس أثراً واضحاً لهذه المصادر في المسرحية.**
من الواضح أنّ الفكرة الأساسية لهذه المسرحية تتمحور حول علاقة الإنسان بالزمن ومعضلة الفناء والموت التي ما فتئت تؤرّق الإنسان عبر العصور. على أنّ الديانات السماوية، بخاصة، قد فتحت للبشرية باباً للأمل من خلال عقيدة البعث، ومن ثَمَّ الخُلود.
تتناول المسرحية إشكالية علاقة الإنسان بالزمن بالتأكيد على الروابط الاجتماعية التي تشكّل جوهر مفهوم الزمن؛ إذ لا معنى للزمن المجرّد من هذه الروابط، وهذا ما توضّحه المسرحية في سلوك أهل الكهف الذين عادوا إلى الحياة بعد قرون من الغياب، لكنْ بعد أنْ تقطّعت صِلاتُهم بأفراد المجتمع وقِيَمه وعاداته وتقاليده،فوجدوا أنفسهم أمام زمن جديد بكلّ ما فيه، فاستشعروا غربةً مطلقة تفصلهم عن هذا المجتمع، فلم يكنْ لهم من خيار سوى العودة إلى الكهف ليموتوا فيه.
ويرى الدكتور محمّد مندور، معلّقاً على ما وصفه بالخيار السلبي لتوفيق الحكيم، أنّه كان من الممكن اقتراح بدائلَ أخرى لصِلات الشخصيات مع المجتمع، بما يجعلهم يتابعون حياتهم في إطار الزمن والمجتمع الجديد. على أنّ المؤلّف لم يكنْ يرى ذلك على الإطلاق؛ إذ هيمنتْ هذه الرؤية على كلِّ مسرحياته الذهنيّة.
أسوق فيما يلي بعض الأمثلة الحوارية من المسرحية للتدليل على ما ذهبنا إليه.
إنّ سرعة اتخاذ القرار بالعودة إلى الكهف يتعلّق بمدى قوة الروابط مع المجتمع، لذا فإنّ الراعي( يمليخا)
كان أسرع أصحاب الكهف في أخذ هذا القرار؛ ذلك أنّ ارتباطه بالمجتمع يقتصر على قطيع الغنم الذي لم يعدْ له وجود. جاء في المسرحية:
ميشلينا: إلى أين ذاهب؟
يمليخا:(ذاهباً في كآبة) إلى الكهف.
ميشلينا:ويحكَ! ماذا تصنع في الكهف؟
مرنوش: إنّ يمليخا يزعم أنّ الحياة مستحيلة بين هؤلاء الناس.
….. ……….. ……… …
مرنوش: تكلّم يا يمليخا!
يمليخا:( في حدّة) قلتُ لكما لا تسألاني الآن شيئاً( بعد لحظة بينما ينظران إليه في وجوم) لقد صرتما أنتما غريبين عني منذ قليل. أنتما البقية الباقية بعد أن مضى كلّ شيء كحلم………. ……………
فلا أستطيع بعد الآن أن أريكما ما أرى! ابقيا إذن ماشئتما في هذا العالم، لقد صرتُ وحيداً فيه. وليس يربطني إليه سبب. ولئن كنتما لم تحسّا بعدُ الهرم فإنّي بدأت أحسُّ وقرَ ثلاثمئة عام ترزح تحتها نفسي….الوداع يا إخوان الماضي!
اذكرا عهدنا الجميل…عهد دقيانوس! والآن أستودعكما الله هانئين بشباب قلبيكما في حياتكما الجديدة…( يذهب في بطء وكآبة عل حين تتبعه أنظار ميشلينا ومرنوش حتى يختفي…) (ص.ص٨٦-٩٠)
أمّا مرنوش فإنّ صلته بالمجتمع تبدو أكثر قوّة؛ إذ إنها تستند إلى العلاقات الإنسانية التي تتمثّل هنا بزوجه وولده ، ولكنّه مايلبث أن يتهاوى ويرغب بالعودة إلى الكهف حالما تتكشّف له حقيقة موتهما البعيدة وانقطاع صلته وأسباب وجوده بالزمن والأسرة والمجتمع.
نقرأفي المسرحية:
مرنوش: لقد صدق الراعي.
ميشلينا: منذ متى؟
مرنوش: ميشلينا! لقد مات قلبي يا ميشلينا ولا فائدة منّي بعد اليوم. تعال يا ميشلينا.!.
ميشلينا: إلى أين؟
مرنوش: ( وهو يجذب يده) إلى عالمنا نحن…
ميشلينا: ( يسحب يده) أمجنون أنت؟
مرنوش: أتدَعني أذهب وحدي؟( ميشلينا لا يجيب) ميشلينا.! أتتركني أذهب وحدي؟
ميشلينا: لا تذهب. ابقَ هنا.
مرنوش: لا أستطيع…
………………………..
ميشلينا: مرنوش! لن تذهب قبل أن تقول لي…
مرنوش: لقد قالها يمليخا.
ميشلينا: ماذا؟
مرنوش: إنّا أشباح..إنّا الآن ملك الزمن.
ميشلينا: ( في تفكّر وشيء من الارتجاف) مرنوش…!
مرنوش:: إنّا ملك التاريخ.. ولقد هربنا من التاريخ لننزل عائدين إلى الزمن..فالتاريخ ينتقم!.. الوداع يا ميشلينا..!( يخرج مرنوش ويترك ميشلينا ذاهلاً).( ص.ص ١٠٧-١١٣)
وعلى الرغم من أنّ صلات ميشلينا أشدّ وأقوى من رفيقيه في الكهف إلا أنّه لا يقوى على بناء روابط وعلاقات جديدة مع المحيط الزماني والمكاني الجديد، فينتهي به الأمر إلى الاستسلام والعودة إلى الكهف؛ إذ تبيّن له استحالة تجاوز الزمن والوقوع في حبّ حفيدة محبوبته وسميّتها( بريسكا).
جاء في المسرحية:
بريسكا: ( تشير إلى جسدها) نعم…هذا الجسد! انظر ياحبيب جدّتي… ألا تعرف كم عمره؟ عشرون ربيعاً فقط.
ميشلينا”( يخفي وجهه براحتيه) يا لفظاعة ما تقولين!…
………….. ……….
ميشلينا: نعم …نعم… الوداع! . يا…يا… لستُ أجسرُ! الآن أرى مصيبتي وأحسُّ عِظمَ ما نزل بي.
لا مرنوش ولا يمليخا رُزِئا بمثل هذا…إنّ بيني وبينك خطوة…… فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها… ….
هو التاريخ. نعم، صدق مرنوش… لقد فات زماننا ونحن الآن ملك التاريخ… ولقد أردنا العودة إلى الزمن ولكنّ التاريخ ينتقم…الوداع!.” ( ص.ص١٤٧-١٤٨).
١-د.زياد العوف، أعلام الأدب العربيّ الحديث-قراءة جديدة، القاهرة، مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع، ٢٠٢٠م، ص ص١٦١-١٧٠
*-توفيق الحكيم، أهل الكهف، مكتبة مصر، القاهرة،د.ت.
**- يُنظَر،
– د.محمّد مندور، مسرح توفيق الحكيم، دار نهضة مصر، القاهرة، ط.٣، د.ت.
– د.محمّد مندور، الأدب وفنونه، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت.دكتور زياد العوف