محمود المسعدي والإيقاع النثري: قراءة في بنية السجع وقافية الشعر
البشير ضيف الله
يلتصق الإيقاع كثيرا بالشعر، وقلَّ أن تكون هناك إشارات في هذا المضمار تتعلق بالنثر، خاصة في الدرس النقدي العربي ولعلَّ المسعدي (1911 – 2005) من القلائل الذين – إن اقتصرت أبحاثهم على النثر ومقامات الهمذاني والحريري تحديدا، باعتبارهما جنسا أدبيا مسجوعا بالأساس، إلا أنه لا يمكن إنكار ما توصل إليه وإسقاطه على الشعر في النصوص النثرية، على الأقل، وواضح أن المستوى الصوتي كان منطلق المسعدي في دراسته لمقامات الهمذاني، بالفحص العميق لكشف خواصها الإيقاعية وفق منهج استقرائي/تحليلي يتابع مجمل ما تركه العرب من سجع المقامات كشكل فني من أشكال التعبير اللغوي لتحديد أوجه المفارقة والمماثلة، وهو يقف بالضرورة عند الإيقاع الشعري، للوصول إلى نتائج وأحكام يستند إليها في دراسته لسجع المقامات.
وما يهمنا في هذه الدراسة، هو اعتماده السجع كشكل من أشكال الإيقاع، خاصة عملية التكرار المنتظمة في مقامات الهمذاني الذي يتجسد في أبعاد زمنية متساوية أو متناسبة، ولّدت إيقاعا صوتيا معينا ممّا يجعله يشترك مع تودوروف في مفهومه للغة الشعرية بأنها تتجه نحو الكلمة الصواتية.
إنَّ الركيزة الأساسية في دراسة المسعدي هي الإيقاع في النثر وصلته بالإيقاع في الشِّعر، أيْ الكلام الذي له صرفه الخاص ونظامه المقصود به في شكله الكلاسيكي، حيث قسم الكلام إلى مستويات ثلاثة:
الكلام المركَّب في النثر.
الكلام المركَّب في الشعر.
الكلام المركَّب في السجع.
ليقارب بين السجع والقافية في المستوى الثالث، باعتباره نثرا مقفَّى، ما دام السجع تماثلا للحروف في مقاطع الفصول، وهو هنا يقتفي أثر الباقلاني، ما يجعل المسافة بين السجع والإيقاع الشعري قريبة إلى حد ما، غير أنَّ ما يُحسب للمسعدي تأكيده على أنَّ ما جاء به الخليل بن أحمد -على أهميته – يبقى قاصرا، رغم أنه في دراسته لم يتجاوز عنصريْ الازدواج والقافية مع الاشتغال على العنصر الأول من منطلق أنه لا يمكن تصور قافية دون ازدواج، والعكس وارد تماما، فالازدواج وارد دون قافية وهو مكونٌ أساسي للسَّجع. وتخلص هذه المقاربة إلى تحديد أنواع المقاطع الصَّوتية في العربية وعددها، لتركز على أنواع ثلاثة:
أ- المقطع القصير:
يتكون هذا المقطع من حرف + حركة قصيرة، مثل: بَ، بُ، بِ.
ب- المقطع الطويل:
يتكوَّن من حرف وحركة مد، مثل: ما – مو ـ مي.
ج- المقطع الطويل المنغلق:
وهو المكون من ثلاثة أصوات، حرف وحركة وحرف ساكن مثل: لم.
هذه المقاطع تُعتبر أداة التابعة الإحصائية لجمع «السجع».
إنّ مقاربة «المسعدي» لبنية «السجع» ـ في شكله الخارجي- احتكمت إلى ما يُعرف في الأسلوبية بمحور «الاستبدال» ، فرويُّ «الهمزة» مثلا يقع في محاور الاستبدال مع مجموع الحروف الهجائية ، ثم تتسع الدائرة ليدخل الروي في إطار القافية ليكون الاستبدال في منطقة الدوال بمكوناتها الحرفية التي عرض لها العروضيون سابقا، ما يجعلنا نتعامل كنظام مفرد له إمكانية الحلول في الشعر أو في النثر، لكنها في الشعر تحتاج إلى انتظام وتردد مستمر، وليس هذا بضروري في النثر، لكنه يتحول إلى ضرورة عندما يدخل النثر منطقة السجع، فنظام القافية في الشعر يكاد يكون محكما/ مغلقا، عكس السجع في النثر. والقافية بهذا المنظور عنصر إيقاعي وظيفته أن يكون معلماً وعلامة على ما يحدث في سيلان الكلام من منقطعات زمانية تجزئهُ إلى أجزاء، أعدادها وكمياتها الصوتية خاضعة لأحكام الإيقاع العددي، دون إغفال الجانب المتعلق بإنتاج الدلالة، أيْ حتمية وجود علاقة دلالية تربط بين الفقرات المسجوعة، فإذا كانت القافية وسيلة إحكام العلاقة الصوتية بين الفقرات، فإن الدلالة تزيد هذه العلاقة إحكاماً، ما يعني التأكيد على التحام عنصر الإيقاع بالمعنى، وإذا كان المشروع البنيوي للسجع عند المسعدي ـ كما يذهب إليه محمد عبد المطلب – يعتمد ركائز أساسية فإن الركيزة الأولي في هذا المشروع هي «الإيقاع» العددي على نحو ما عرضناه، والركيزة الثانية هي «القافية» أما الركيزة الثالثة فهي إنتاج الدلالة، أيْ المعنى.
لقد قسَّمَ المسعدي في مقاربته التحليلية القافية إلى أقسام ثلاثة:
– القافية البسيطة: وهي التي تعتمد علي التوافق في حرف واحد.
– القافية ذات العنصرين الحرفيين: وهي الغالبة في سجع الهمذاني.
– القوافي المركبة من ثلاثة عناصر حرفية فأكثر: مثل: وطئت أرض المروضة، لأداء المفروضة.
بالفعل، لقد انتهى – كما يؤكده محمد عبد المطلب- الجهد الذي قدمه المفكر الكبير محمود « المسعدي» إلى تأسيس إطار نظري ملازم لإجراء تطبيقي وهذا التأسيس يستمد ركائزه من الموروث اللغوي والبلاغي العربي، مع الإفادة الواعية بالمنجز الأسلوبي الغربي.. مع توسيع الدراسة لتتناول الإيقاع الشعري، وأوجه الموافقة والمخالفة بين نظامي الإيقاع فيهما.. ثمَّ توسيع دائرة السجع ليشمل الازدواج، والموازنة، والمماثلة، بوصفها مكونات مشاركة في إنتاج الإيقاع في السجع، كما تم تعديل مفهوم توافق السـجعات في الحرف الأخير ليستوعب مفهوم القافية.
ولعلَّ من بين أهم النتائج التي توصل إليها المسعدي تفريقه بين الإيقاع في الشعر والإيقاع في النثر، فالأول يغلب عليه الانتظام، أو يجمع بين النسق والخروج على النسق، أما الثاني فلا نسق فيه ولا انتظام له إلا إذا اقترب من الشعر فإنَّه يصبح شعرا منثورا، وهو ما وضع – في نظري على الأقل- أرضية لدراسة هذا الشكل الشعري على الخريطة الشعرية العربية على اختلاف تجاربها.
كاتب جزائري