ثقافة وفنون

العرض المصري «العيلة»: الفساد الفردي وحتمية انهيار المجتمعات

العرض المصري «العيلة»: الفساد الفردي وحتمية انهيار المجتمعات

محمد عبد الرحيم

القاهرة ـ  كتب آرثر ميللر (1915 ــ 2005) مسرحية «كلهم أبنائي» عام 1947، وقد عُرضت في العام نفسه، ولم يزل العالم يعيش وقتها أجواء وتبعات الحرب العالمية الثانية، وبداية تشكّل تحالفات وتقسيمات عالم جديد. ولكن.. ما سمات هذا العالم، وكيف يمكن تفسير ظاهرة (الانتصار) أو الجانب المُنتصر في الحرب؟ هذه الصورة الكبيرة وتفاصيلها يختصرها ميللر ويكثفها في حالة تخص المجتمع الأمريكي ـ نموذج العالم الجديد ـ وهي حالة الفساد الفردي، الذي لا يمكن تصوّر مدى تأثيره على المجتمع ككل. هذه الفكرة التي دارت حولها مسرحية ميللر، لا تقتصر على زمن معين أو دولة معينة، بل امتدت لتعبّر عن مأزق إنساني يتمثل في أزمة الضمير، التي وإن حاول البائس صاحب الضمير المنعدم مواراة تورطه في مآسي الغير، إلا أن هناك لحظة لا بد من استحضارها، وكشف هذا الرجل الطيب اللطيف، الذي يدّعي أن كل أفعاله ومبرراته كانت في سبيل عائلته، هذه العائلة التي لا يتورع ربّها أن يكون أحد أفرادها، ضمن ضحايا هذا الفساد، وهو أبداً.. لا يمكنه الاعتراف بذلك، على أمل أن تنتهي حياته كقديس، وليس كضال تطارده لعنات الجميع.

المثالي الزائف

عن «كلهم أبنائي» جاء العرض المصري «العيلة» على مسرح ستديو (ناصيبيان) في القاهرة، كمعالجة جديدة التزمت إلى حد كبير بالعمل الأصلي، في لغة عامية وتفاصيل عائلة مصرية ثرية من عائلات الأربعينيات. العرض أداء.. سعيد سليمان (حسين) هاجر سيد (تحية) أحمد نادي (يوسف) مارينا صبحي (جميلة) أيمن سرور (رياض) وماري جرجس (نعيمة). ديكور محمد زكريا، إضاءة محمود علاء، ملابس دينا سليمان، ماكياج سهيلة عامر. إعداد وإخراج محمد خلفاوي.

رجل صناعة وتاجر أسلحة، يبدو عطوفاً ومتفهماً لحالة زوجته التي فقدت ابنها الأكبر في الحرب ـ على اعتبار كونه مفقودا ـ وتحيا على أمل عودته، تركهم في سبيل الوطن، كذلك ترك حبيبته، التي تصبح بدورها أكثر واقعية وترتبط عاطفياً بأخيه الأصغر، لتبدو هناك شبه مؤامرة بين الفتاة والأخ الأصغر ورب العائلة، فهم لا يستطيعون مواجهة الأم بفكرة الارتباط بين الشقيق وحبيبة شقيقه المفقود، وإلا سيتم الاعتراف فعلياً بموت هذا الابن. فالجميع يعرف ما عدا الأم. المشكلة من الممكن أن تكون مأساة عادية تحدث في أي بيت، ولكن الرجل المتعاطف مع زوجته، والمتعاطف مع قصة الحب بين ابنه الأصغر والفتاة، والذي يعرف بموت ابنه الأكبر، ويُعاني مرارة هذا الفقد، ولكنه لا يجرؤ على مصارحة زوجته بذلك، مُتحمل لعنة انتظارها. ولكن أن يكون هو سبب موت الابن ورفاقه في الحرب، جرّاء الأسلحة الفاسدة التي قام بتصنيعها وبيعها للجيش، وهو يعلم يقيناً بذلك، رغم أنه طوال حياته يُنكر علمه بما حدث. هنا تتضح المأساة الأكبر، وسبب انهيار هذه العائلة التي حاول الحفاظ عليها وعلى مصالحها، أو هكذا برّر مثاليته المزعومة.
لم يكن العرض ـ رغم الحالة المأساوية ـ قاتماً، بل تخلله الحِس الكوميدي المحسوب، دون الإخلال بالفكرة الأساسية، خاصة دور (الأب) الذي جسده الممثل (سعيد سليمان) من مقام كونه «واخد الدنيا على قد عقلها» رغم ذلك يفعل كل ما يريده، ويعتقد أنه يقود الجميع كما يشاء.. من مباركة علاقة الحب بين ابنه الأصغر وحبيبة الابن الأكبر المقتول في الحرب، أو مجاراة زوجته وأحلامها أو (هلاوسها) بمعنى أدق في اعتقادها الراسخ في أن ابنها لم يزل على قيد الحياة، وأنه سيعود إلى البيت في أي لحظة. كان يظن أنه يحرك الجميع كالماريونيت، تاركهم يظنون أنهم يفعلون ما يحلو لهم، وأنهم يعيشون في حرية تامة. ونظراً لقسوة الرقابة، ومن خلال بعض العبارات التي أمكن تمريرها في العرض، يمكن أن يصبح بسهولة (تاجر السلاح) هذا، وفي مجتمع شرقي (رجل سياسة) أو رأس نظام، في سبيل مجد شخصي (الثروة) أو (السلطة) لا يتورع أن يقتل أحد أفراد أسرته، ويظهر في صورة الأب الرحيم، وما المشكلات والمآسي التي تحدث لهذه الأسرة (الشعب) إلا ضربات القدر التي لا فكاك منها، أو كوارث ليس أمام مَن يواجهونها سوى الصبر والتجاوز. ويبدو ذلك في حديث الأب إلى الابن الأصغر، وكأنه يُلقي خطاباً عاطفياً، وكأن لا حيلة له في كل ما حدث، ويكفي أنه يتحمّل هلاوس الزوجة وفقدان الابن الأكبر، وكِبر سنّه، والظهر المنحني قليلاً، كأي ديكتاتور لا يهمه سوى مجده الشخصي.

المصير

كعادة ميللر وتصويره للمجتمع الأمريكي وشخوصه، ومحاولاتهم المستميتة للتمسك بالحلم الأمريكي الزائف بطبعه، فمصير هؤلاء هو السعي الدؤوب ليس إلى مستقبل مرجو، بل إلى طريق نهايته (مقبرة). نجد هذا في مصير (ويلي لومان) في «وفاة بائع متجول» وهنا في «كلهم أبنائي» وإن اختلفت المقبرة، من فعلية كما في حالة (لومان) إلى مجازية، متمثلة في (الوحدة والعزلة) فالعائلة التي كان يرجوها ويظن أنه يعمل لصالحها، ترحل وتتركه وحيداً في منزله ـ الأم والابن الأصغر ـ عند اكتشافهما جريمته، وتبريره بأنه كان يعرف، وإن لم يفعل ذلك سينهار المصنع ويفقد ثروته/سلطته. مقبرة الرجل هنا هي وحدته، متحملاً وحده نتائج تاريخه السيئ، فما كان منه إلا الفرار من ثقل الحقيقة.. الفرار بالانتحار.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب