الرواية والـ«فيسبوك»: تحليل «أهداب الخشية» وتجربة الكتابة الرقمية
فاضل عبود التميمي
ينفتح عنوان رواية «أهداب الخشية» للروائيّة الجزائريّة منى بشلم الصادرة عن منشورات ضفاف ـ بيروت ـ الاختلاف ـ الجزائر 2013. على عالم (الـ«فيسبوك») والشبكة العنكبوتيّة بقوّة انتماء الرواية إلى الحياة الجديدة، حياة ما بعد الحداثة التي تعيشها الشخصيّات، وطرائق بناء الرواية بدءا من العنوان الموازي (عزفا على أشواق افتراضيّة) الذي أخذ المتلقي إلى دلالة خاصّة، فهو مفتاح مداليل النصّ المسهم في تقديم حزمة أشواق: (ياسر) (دريّة) (منى) من خلال القناة (الفيسبوكية) بوصفها عواطف افتراضيّة احتدمت مع تناقضات مركّبة، ومتعارضة صنعها (السرد) وهو يعرف أنّ الاستعانة بقنوات الاتصال الحديثة، تسهم في تقديم صورة جديدة لإنسان جديد فقد براءته الأولى، وصار رقما في ملفّ عالمي افتراضيّ تتّسع أوراقه الشفيفة إلى مئات العواطف، والمصالح، والمكائد والتزييف، والخذلان والصحو والمتعة أيضا.
بُنيت الرواية وفق طريقة تتساوق ومجريات العالم الرقمي، فالاستهلال فيها يبدأ بـ(هنا.. كما يليق بتواترات غيابك) مقرونا بـ(أيقونة) Mouna Bechlem المستلّة من ذاكرة «فيسبوك» وهو جزء ممّا ورد في خاتمة الرواية، وقد جلبته الروائيّة بوساطة تقانة (copy) التي يتمّ من خلالها نقل ملف، أو صورة، أو غيرهما، فهو استهلال (نهاية) صارت بحكم التشكيل (بداية) أي أنّ البناء كان دائريّا وقد تضمّن إخبارا سرديّا أنبأ عن لقاء بين امرأتين كان التنازع بينهما يجري وفق حرب ضروس صنعتها أفكار(سرديّة) جعلت الحب والحرب سمة لقلبي امرأتين تريد كلُ واحدة منهما أن تعيش الحياة كما تشتهي. لقد صار جهاز الكمبيوتر السحري معادلا حضوريّا لحياة يمكن استعادتها، واستحضارها في أي وقت، فكلّ شيء مباح للإنسان الآن: الحبُّ والموت، والنهايات المصطنعة، والثقافة وقشورها، حتى الحياة يمكن التلاعب بسياقاتها بضربة زر لآلة (صمّاء: حيّة) يستعيد المرءُ فيها أحزانه، وأفراحه معا، وهذا ما كان للمرأة التي أغلقت الإرشيف الورقي الخاص بياسر، أعني دريّة لتفتح النت باحثة عن ألعاب تتسلى بها وسط ضجر عصريّ، فإذا بحساب ياسر (الفيسبوكي) ينفتح أمامها تلقائيّا ليكشف عن صديقة له إلى جوار اسمها رمزت لنفسها بـ(نجمة ذهبيّة) كانت ترثي حالها.
يغلق الأرشيف الورقي في الرواية ويفتح جهاز الكمبيوتر في إشارة طباقيّة، أرادت الروائيّة من خلالها أن تؤكّد حضور الشيء ونقيضه في عالم اليوم، الذي ينتصر فيه النقيض الرقمي بقوّة علاماته على النقيض الورقي التقليدي فاتحة الباب أمام لقاء كان مستحيلا في يوم ما كما يقول الناقد فاضل ثامر، ما بين النصّ الورقي والنصّ الرقمي، فضلا عن كشفها التزاحم العاطفي الذي يعيشه إنسان اليوم وهو يستبدل عواطفه بالسرعة التي يستبدل بها أوراق تجفيف كفّيه، لقد صار هذا الجهاز مَعْرِضا للتعارف الاجتماعي الذي كان إنسان القرن الماضي يتقصّد المشاركة فيه من خلال الحفلات، والمناسبات، والمصادفات، وهذا ما غادره ياسر، الذي عثر على صفحة فيسبوكيّة لامرأة صارت له في ما بعد حبيبة كَنّتْ عن نفسها باسم افتراضي رمزي: (سيّدة العشق والكبرياء) فهي لا تبوح باسمها الحقيقي متّخذة لوجهها صورة مستعارة لابتسامة إغواء أخذتها من صورة حقيقيّة لفنانة فاتنة معروفة هي، تشيرلز تيرن عارضة الأزياء التي صارت ممثّلة في أمريكا.
إنّ استعارة الأسماء، والصور في مجالات الاتصال الافتراضي تقاليد عصريّة فيها من السخرية، والخداع، والتعويض ما لا يمكن حصره، لكنّها صارت خداعا مرغوبا فيه، فسيّدة العشق والكبرياء تعيش يومها المأزوم من خلال رموز ابتكرتها حضارة الأرقام التي تحبّذ اللعب على الأسماء، والمعلومات، فربّة البيت تدّعي أمام النت أنّها طالبة جامعيّة، والطالب الجامعي يدّعي أنّه بدرجة أستاذ، وغيرهما كثير، وهم جميعا يبحثون عن فرص الكذب التي تصل إلى قلب الآخر من دون خسائر. وعلى الرغم من انفتاح الـ«فيسبوك» على قضايا الحب التي تشغل قلوب ملايين البشر غير أنّه ـ ويا للمفارقة – صار أداة حرب مشتعلة بين المتخاصمين في السياسة والفكر، والأدب، والعلم، والحب أيضا، وهكذا تُظهر الرواية حيّز لقاء يوميّ بين امرأتين كلُّ واحدة منهما تقرأ صفحة الأخرى متّخذة ممّا تكتب دليلا تخضعه لتأويل أفكارها الرامية إلى تسفيه الأخرى، والحطّ من قدراتها بدوافع الغيرة ليس غير. لقد أخذ الحب الافتراضيّ ياسرا من حبيبة إلى أخرى بفضل تقانات ما بعد الحداثة: من المطربة إلى الأستاذة الجامعيّة، وكأنّه في نزهة ترفيه كبرى، فالعالم الافتراضي الذي شُغف به أسهم كثيرا في عقد الصفقات من خلال الصفحات، وها هو يقع في حبّ الثانية، (منى) التي يعرف عنها أكثر ممّا تسمح به أسوارها العالية، في إشارة إلى تقوقعها في برجها الأكاديمي، الذي لا يتّسع إلا لنشاطها الثقافي، والعلمي، فضلا عن أنّ الصداقة الافتراضيّة التي جمعتهما قبل الزمالة في معهد التكوين الخاص بالأساتذة جعلت ياسرا يقرأ الحبيبة الجديدة (منى بشلم) في أدقّ أسرارها التي يعرفها أكثر ممّا تعرف هي عن مسائلها العاطفية، وهي تدخل نصّ الرواية من باب افتراضي.
تقاليد السرد الحديث
اعتماد الروائيّة (منى بشلم) على عالم الـ«فيسبوك» في الرواية يشبه تماما ما صنعته الروائية السعودية رجاء الصانع في روايتها «بنات الرياض» التي حسب رأي الناقد فاضل ثامر اخترقت بقصديّة تقاليد السرد الحديث لتدفع الرواية إلى الانتماء إلى فضاء ما بعد الحداثة في التجريب، والانفلات من الثوابت، والتقاليد الأدبيّة، والفنيّة المتعارف عليها، مؤسسّة متنا سرديا مغايرا للسائد في اعتماده المنجز الرقمي، وتقانات شبكة المعلوماتيّة، وهو ما ظهر لاحقا في روايات عربية أخرى. لقد غادرت الرواية المعاصرة صيغ البناء التقليدي لتدخل عصر تحولات جديدة تكون اللغة فيها هي البطل، وهذا ما يبدو في روايات كثيرة، لعلّ منها رواية «أهداب الخشية» التي نهضت بلغة مفارقة لنمط الكتابة الروائيّة التقليدية، فهي تعدل بالنص نحو سياقات جديدة تفارق فيها الجمل أنماط الصيغ السرديّة التي تتعلّق بالوصف المحض، والتشبث باصطناع الأحداث المجرّدة من حدود التعالق النفسي، والبنى المتوارثة لتجترح لنفسها أنساقا تشكّل اللغة فيها متنا ثقافيّا ينزع نحو التجدّد، والانفتاح على أعماق النفس اللائبة بين أكثر من خيار في عالم اليوم المبني على رصد الرغبات، والتوق إلى تحقيقها، فهي – اللغة الروائيّة – بتحولها هذا أضحت وجها من وجوه المغايرة التي طبعت روايات ما بعد الحداثة.
تحديث الرواية
إنّ استثمار وسائل الاتصال الافتراضي في بناء الرواية الجديدة، يُعَدُّ إنجازا ملموسا أسهم في تحديث الرواية، وتماسك بنائها، وهدفه خلق سرود ثقافيّة تتجاوز المألوف لتدخل في عوالم العصر، الذي يتبنى التجريب المضاد لكلّ ما هو ساكن ورتيب، فضلا عن أنّ فاعليّة تداخل الأنواع الأدبية في «أهداب الخشية» أسهم في تواتر شعريّتها، ونهوض الانزياحات فيها، وبروز جمال لغتها، وعنايتها بطرائق تقديم السرد، وفق فضاءات التحديث التي تُعنى بالتمايز، والتمرد على القوالب الجاهزة؛ لأنّ التداخل يحيل النص الروائي إلى ديناميّة تسعى إلى تجاوز المألوف، والوقوف عند شرفات التحديث المفضي إلى المغايرة.
أكاديمي وناقد من العراق