ثقافة وفنون

العشق المتأخر: تأملات في رواية «منزل الذكريات»

العشق المتأخر: تأملات في رواية «منزل الذكريات»

حسن داوود

لشدة ما أعجب غابرييل غارسيا ماركيز برواية «الجميلات النائمات» ليوسيناري كاواباتا، لم يستطع إلا أن يكتب ما يماثلها، أي أن يحمل رَجُله العجوز إلى بيت يقدّم المتعة لمن باتوا غير قادرين على تحقيقها. هناك، في إحدى الغرف، يستلقي العجوز إلى جانب فتاة عارية جرى تنويمها ساعيا إلى تلبية الشهوة القليلة الباقية فيه. وحسب البروتوكول الذي وضعته صاحبة ذاك البيت، ينبغي للزبون العجوز أن لا يتجاوز الحدّ الفاصل بينه وبينها. ما هو مسموح به ينبغي أن لا يتعدّى مجرّد إثارة التداعيات والذكريات والأحاسيس العميقة لكن الخافتة والضئيلة.
محمود شقير عاد في روايته إلى الكتابين اللذين حظيا بإعجاب القراء في بلدان العالم كافة، أي أنه أظهر إعجابه بكتابة رواية كاملة علّه يؤكّد بذلك أن موضوع الروايتين المذكورتين أعلاه يمكن أن يتحوّل إلى ثيمة أدبية، أو صنف كتابي على غرار ما نقول رواية بوليسية، أو رواية غرامية، أو رواية حروب.
وها هو يضع بطله (محمد الأصغر) في التجربة. ولم يتركه يقرر خوضها من تلقاء نفسه، بل إنه، في ذلك، أقنعه بما هيّئه له رهوان، الشاب الذي ساءه أن يرى عمّه وحيدا بعد وفاة زوجته سناء. وقد زاد في اقتناع العجوز قراءته للكتابين، هو الكاتب أصلا، التي أضفت على موافقته طابعا أدبيا، آخذة إياه إلى حيث يهوى.
كان عليه، مثل سابقيه بطلي كاواباتا وماركيز، أن يدخل بيت تلك المرأة التي ستوصله إلى الفتاة التي، بعد تجربة أولى معها، تعلّق بها. لكن تجربته معها لم تدم، إذ شغلته مسائل بينها عشقه الباقي لزوجته الراحلة.
فقبل تلبيته لدعوة الكتابين كان يقيم معها، أو مع طيفها، علاقة تامة. لم يتطرّف في وصف ذلك، لكن ارتداءها لثياب النوم الكاشفة واعتلاءها السرير إلى جانبه يوحيان بأن الممارسة الغرامية جاهزة لأن تحصل. كما هناك مشاغل أخرى تحول بينه وبين الإستغراق في تجربته، بينها ظهور جارته أسمهان له ودخولها من دون إذن إلى بيته محاولة إغواءه.
وقد تمكنت هذه الأخيرة من تحقيق مأربها بدفع من أخيها «الأزعر» المتسلّط الذي أجبر محمد الأصغرعلى توقيع عقد الزواج. لم تكن أسمهان تلك في سوء أخيها، إذ أنها، في ما تلى من الأيام، تحوّلت إلى أمرأة قانعة قبل أن تنتهي عازفة حتى عن المتع الشرعية المتاحة. ليس المحيط البيئي مهيّئا إذن للكلام على تجربة مماثلة لـ«الجميلات النائمات» خاصة أن الكاتب محمود شقير ذهب بروايته إلى خارج تلك العلاقة السرّية التي استغرقت كتابيْ كاواباتا وماركيز. لم يشأ كاتبنا أن يبقى هناك، في داخل تلك التجربة الملهمة.
لقد قدّم لها بأكثر مما أبقى بطله فيها. أعني أنه وعد بتخصيص روايته لها، لكنه لم يلبث أن أغرقها بعلاقات جانبية وشخصية لعب فيها جميحان، أخو زوجته «الأزعر» دورا يتعدّى حضور الفتاة سميرة فيها.
تجربة العشق المتأخر، العشق حسب القدرة العاطفية والجنسية لم تكن متأجّجة إلى إلى الحد الذي يملأ صفحات كتاب كامل. لم تكن أكثر من تجربة وهمية عابرة في سيرة حياة متأخرة لرجل غلبه العمر.
كل الطامحين بما بقي لديه تمكنوا من تحقيق مأربهم منه. لقد رضخ للجميع إلى حدّ أنه، في نهاية الرواية، أُخرج من بيته عنوة وراح يشاهد بأمّ عينه كيف تُنزّل كتبه عن رفوفها لتوضع في صناديق. وهو مقرّ بجبنه وخلوّه من أي رغبة شخصية. كيف يمكن لرجل كهذا بلا صفات أن يخوض تلك التجربة التي تتطلّب كل ذاك القدر من الشجاعة.
محمود شقير أقحم بطله، المغرق في ضعفه ومحلّيته، في تجربة كان من الصعب عليه خوضها. ربما لأن من الصعب أن يُستعاد المدهش، أو أن يتكرّر، في وقت ما ينبغي أن تؤخذ موانع كثيرة في الحسبان.
بدا محمود شقير كأنه ممنوع من أن تكون له نسخته من الثيمة التي سعى إلى أن تكون صنفا أدبيا، وذلك بسبب الالتزام الشديد لبطله العجوز بمحلّيته وانخراطه في ما تفرضه من شروط للعيش.
هكذا يكون الكاتب قد أفشل بطله عن قصد. لكن في ما خصّ كاواباتا، وهو مبدع الفكرة، كان التأمل هو ما صنع الرواية، وليس اختبارها في حياة حقيقية.
*«منزل الذكريات» نوفيلا لمحمود شقير صدرت عن دار نوفل في 180 صفحة ـ سنة 2024.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب