
النقد الفني في العراق: بين الإنصاف والبحث عن الترند

مروان ياسين الدليمي
علاقة النقد بالنتاج الفني قائمة على مبدأ تحديد وتوصيف العناصر الفنية والجمالية التي تنهض عليها أي تجربة فنية، وليس ممكنا أن يشهد النتاج الفني تحوّلا واجتيازا لمرحلة معينة نحو مرحلة أخرى أكثر نضجا، من حيث الأسلوب والرؤى والتقنيات، إذا لم يُعر أهمية للحركة النقدية، فالتلازم حاضر بين الاثنين، ومن غير الممكن فك الارتباط بينهما، وهنا لا بد من تجاهل القناعات التي تروج بأن النقد لا ضرورة ولا أهمية له، وأن النتاج الإبداعي بأشكاله وحقوله كافة، يمكن أن يستغني عن النقد ويستمر، وعلى الرغم من توسع النشاط النقدي وتأصيله أكاديميا في المؤسسات الجامعية العراقية، إلاّ أن ذلك لم يحد من النظرة القاصرة تجاهه، والتي تكاد أن تسود مشهدنا الفني والثقافي، ويمكن ملاحظتها لدى عدد كبير من المشتغلين فيه، إلى الحد الذي لا يترددون في أن يختزلوا أي رأي نقدي قد يطلقه ناقد أو فنان لديه رصيد من الخبرة، ليضعوه في خانة الطعن والتسقيط والتشهير، ويعتبرون منطلقه لا يخرج عن قصدية الاستهداف الشخصي، وليس التوصيف والتقييم الفني، المجرد عن أي دوافع شخصية، والأقسى في هذه الاشكالية عندما يتم وضع الرأي النقدي في إطار الاستهداف المناطقي أو الديني أو المذهبي.
عزوف عن قراءة النقد
في هذا السياق من الفهم لطبيعة العلاقة ما بين النقد والعمل الإبداعي، أصبح النقد في العراق هذه الأيام يواجه «ورطة «بالمعنى الشعبي الدارج، و«إشكالية» إذا ما لجأنا إلى التوصيف الأكاديمي، فالمشتغلون في ميدان الإنتاج الفني والأدبي، تجدهم يثنون على الناقد ودوره وأهمية ما يكتبه، إذا ما كتب مقالة احتوت على عبارات المديح لعملهم، حتى إنهم لا يقرأون بقية الملاحظات التي وردت في المقال، فالمهم بالنسبة لهم أن يقتبسوا ويستنسخوا عبارات المديح فقط، لينشروها على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تعنيهم الأسطر الأخرى رغم أهميتها، التي ناقش فيها الناقد، ما تضمنه العمل من عناصر وتقنيات ورؤية انحاز إليها صانعوه.
ليس من الإنصاف شطب تاريخ طويل من الإنتاج الفني والعمل والإخلاص من قبل شخص ما، لمجرد أنه يحمل صفة إعلامي، أو مقدم برامج، ربما هدفه من إطلاق أحكام غير منصفة عبر منصته، أو برنامجه، أن يكون (ترند) في مواقع التواصل الاجتماعي، كما هو شائع هذه الأيام، ومثلما اعتاد أن يفعل مقدم برنامج (قصتي) الذي يعرض على القناة الرابعة العراقية، مع أغلب الضيوف الذين يلتقي بهم، مِن شعراء وأدباء ورجال دين وفنانين، ففي كل حلقة يُصر على أن يثير زوبعة على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب ما يرد من إجابة على لسان الضيف حول سؤال معين وجهه إليه، ليصبح المقدم وبرنامجه «ترند» وهذا جل ما كان يطمح لتحقيقه، وليس مهما لديه ما تم تسويقه من محتوى، وما إذا كان سيؤجج مشاعر ومواقف سلبية لدى المتلقين، لينقسموا في ما بينهم إلى جماعات متصارعة، لا تتردد في استخدام أساليب التسقيط والطعن بالألفاظ البذيئة، لكي تثبت كل واحدة صحة رأيها وبطلان رأي الأخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة.
أسلوب شعبوي
من الواضح أن مقدمي البرامج في الفضائيات والمنصات باتوا يتقصدون وضع أسئلة تكون بمثابة أفخاخ أمام ضيوفهم، وألغام تحت أقدام المتلقين، ورغم أن هذا الأسلوب أمسى شائعا في الفضائيات، لكنه يبقى أسلوبا شعبويا، لا صلة تجمعه مع مهنية العمل الإعلامي، ومثل هذا الموقف لمسته في حلقة كان فيها الممثل محمود أبو العباس ضيفا على أحد البرامج الحوارية الذي يعرض على إحدى القنوات الفضائية العراقية، عندما حاول مقدم البرنامج أن يسحبه إلى هذه المنطقة المعوجة من الحوار، فطرح عليه سؤالا يتعلق بمسلسل عراقي تم إنتاجه مؤخرا في مدينة الناصرية جنوب العراق، شارك في كتابته وإخراجه وتمثيله جمع كبير من فناني الناصرية وأغلبهم من الشباب، وبعيدا عن تقييم العمل فنيا، فإن هذه الخطوة تعد مهمة جدا لكسر احتكار العاصمة بغداد في الإنتاج الدرامي، وبدل أن يذهب الحوار إلى هذه الناحية لمباركتها، فإن مقدم البرنامج في معرض سؤاله للفنان أبو العباس عن هذا المسلسل قال «هل تعتبر العمل انتقالة خطيرة للدراما للتخلص من الدراما العراقية القديمة؟» لكن أبو العباس بما يمتلكه من خبرة متراكمة في الدراما العراقية، ومعرفة بعناصر الإنتاج الناجح والمتميز، كانت إجابته على قدر كبير من الوعي والموضوعية، فلم ينسق إلى منطق التعميم وإطلاق الأحكام المطلقة التي تثني على عمل بمبالغة مفرطة، وتلغي جهود آخرين وشطبها في أعمال أخرى سبقتها خلال العقود الماضية من عمر الإنتاج الدرامي العراقي، فكانت إجابته مختزلة وذكية ومنصفة، حين قال إن «المسلسل (المعني بالسؤال) ليس انتقالة خطيرة للدراما العراقية، إنما هو محاولة فيها اجتهاد كبير». هذه الإجابة، فيها تقدير واضح للجهد المبذول وإنصاف لما تم إنتاجه من أعمال درامية خلال أكثر من ستين عاما. فمنذ أن بدأ الإنتاج الدرامي في منتصف ستينيات القرن الماضي، كانت هناك محطات مهمة وأسماء رصينة، مِن كُتَّاب ومخرجين وممثلين، يمكن استعراض البعض منهم، ففي مجال الكتابة، على سبيل المثال لا الحصر؛ يوسف العاني، عادل كاظم، صباح عطوان، فاروق محمد، معاذ يوسف، أحمد صبري.. وفي ميدان الإخراج: عمانوئيل رسام، كارلو هاريتيون، محمد يوسف الجنابي، حسن حسني، إبراهيم عبد الجليل، عماد عبد الهادي، فاروق القيسي، عزام صالح، هشام خالد. وفي مجال التمثيل: يوسف العاني، سليم البصري، خليل شوقي، سامي عبد الحميد، جعفر السعدي، سامي قفطان، نزار السامرائي، قائد النعماني، محسن العزاوي، فاروق فياض، محمود أبو العباس، مقداد عبد الرضا، جواد الشكرجي، حسن حسني، عبد المطلب السنيد، راسم الجميلي، مي شوقي، زينب، وداد سالم، شذى سالم، أمل سنان، هناء محمد، هناء عبد القادر، سهير إياد، هند كامل، سليمة خضير، زكية خليفة، سعدية الزيدي.
أما قائمة الأعمال الدرامية التي نجحت في أن تستقطب متابعة المتلقين ونالت إعجابهم، فيمكن تعداد البعض منها مثل: «الدواسر، الذئب وعيون المدينة، النسر وعيون المدينة، فتاة في العشرين، أعماق الرغبة، أيلتقي الجبلان، أجنحة الثعالب، الأماني الضالة، رائحة القهوة، تحت موس الحلاق، عبود يغني، وينك يا جسر، لعبة الصبر، ابن عنتكة، إلخ».
أي منصف لا يستطيع أن ينكر الأسماء المهمة التي قدمت هذه الأعمال وغيرها كثير، والتي يقف خلفها كتاب ومخرجون وممثلون كانوا على قدر كبير من التميز في الأداء والحضور، وتمتعوا برصيد كبير من الاحترام والإعجاب لدى الجمهور، ولهذا، لستُ متفاجئا من الآراء والقناعات الثرية والجريئة والموضوعية التي وردت على لسان الممثل محمود أبو العباس في الحوار المشار إليه. فما تحدث به يعكس عمق تجربته الفنية والإنسانية، والمسؤولية العالية التي يتحلى بها إذا ما تناول تجارب الآخرين بالقراءة، أو عندما يوضع في موقع الناقد للحركة الفنية العراقية (مسرح، سينما، إنتاج درامي) سواء كان الأمر يتعلق باسم واحد من العاملين في الحركة الفنية، أو مرحلة تاريخية من عمر المشهد الفني العراقي.
لن أتردد في القول، من النادر أن أتابع لقاء تلفزيونيا مع ممثل عراقي إلى نهايته، لضعف الحوار الدائر بين الاثنين (الممثل ومقدم البرنامج) وفي هذه المسألة لا أُلقي باللائمة على الممثل العراقي أبدا، إنما أحمل الجزء الأكبر من مسؤولية الارتقاء بالحوار على عاتق مقدمي البرامج، لأن غالبيتهم ليس لديهم ما يكفي من المعرفة بالفنون والمشهد الفني، أو أنهم لا يكلفون أنفسهم فيستعدون بشكل مبكر للحوار فيضعوا له محاور محددة، وأسئلة تتعلق بكل محور بناء على ما حصلوا عليهم من معلومات تتعلق بتجربة الضيف الفنية، أو أنهم يستخدمون اللقاء والضيف لتمرير رسائل أخرى لها صلة بأجندة القناة السياسية، ولا علاقة لها بتجربة الفنان.
كاتب عراقي