مقالات

الأقلمة والترجمة

الأقلمة والترجمة

نادية هناوي

تتنوع دراسات الأقلمة بتنوع الباحثين، وهم إما شرقيون يعملون في جامعات غربية، أو هم غربيون يعملون في جامعات الصين واليابان وسنغافورة وغيرها. وبغيتهم الأقلمة ما بين أدبين، وفي الغالب أقلمة الأدبين الصيني والياباني بالاعتماد على ما لديهم من نظريات وأدوات وتخصصات، وبعيدا عن عقدتي التفوق والتبعية.
ومنذ مطلع القرن الحالي ودراسات الأقلمة تشهد حضورا ملحوظا، لاسيما في مجال أقلمة الأدب الياباني ونقده، سواء على مستوى الورش التعليمية، أو على مستوى كتابة الأطاريح، ومنها أطروحة الياباني نان ما هارتمان الموسومة (من الترجمة إلى الأقلمة: نصوص اللغة الصينية والأدب الياباني الحديث) 2014. وتبحث في بواكير الأدب الياباني الحديث في عهد توكوغاوا، والمتأثرة بترجمات الأدب الصيني وما فيها من سياقات اجتماعية ولغوية وفنية وثقافية، ساهمت في تبلور أساليب الروائيين اليابانيين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر مثل أوكاجيما كازان (1674-1728) وأوجيو سوراي (1666-1728). ومما قامت به هذه الدراسة، مسحها عددا من قواميس اللغة الصينية، بقصد استقراء الترجمات الأدبية لنصوص الأدب الصيني الكلاسيكية، التي أثرت في اللغة الأدبية اليابانية، بالاستناد إلى منظور مقارن لأسلوب الترجمة. ومن ذلك مثلا تحليل قصص كانازوشي، بالمقارنة مع النص المصدر المتمثل بمختارات مينغ الصينية للظواهر الخارقة للطبيعة والتعريف بالتعديلات التي جرت على التقاليد السردية للنص المصدر.
ولعل الفصل الرابع من هذه الأطروحة هو الأكثر أهمية، وهو يدور حول حكايات (تحت ضوء المصباح) التي فيها تتضح أقلمة تقاليد السرد الصيني بالسردين الياباني والكوري. وتقتبس الدراسة كثيرا من نصوص الكاتب الياباني هونان، الذي اتبع تقاليد السرد الصيني وكان سببا في أقلمة الخيال السردي بأعمال خارقة للطبيعة مثل، الحكي عن عوالم تحت الماء، أو عن موتى يتكلمون كالأحياء. وتؤكد الأطروحة أن الكتابة الصينية جزء لا يتجزأ من الخطاب الأدبي الياباني، وأن ما أدى إلى ازدهار الرواية اليابانية هو ما قام به المترجمون من دور إبداعي ومبتكر في إعادة كتابة القصة الصينية، وفق أجواء محيطهم الثقافي مع الحفاظ على التراث البلاغي للقصة الأصلية. وساهم كتّاب ومترجمون من منطقة أوساكا- كيوتو في عهد توكوغاوا مثل، أكيناري أو تيشو بدور كبير في التفاعل الثقافي الصيني ـ الياباني.
أما دراسات الأقلمة التي أنجزها باحثون غربيون عن الأدب الياباني فمثالها دراسة سكوت ميلر الموسومة (أقلمة الأدب الغربي في مي جي اليابان) وافتتح فصلها الأول المعنون (نحو نظرية أقلمة: هو نان في مي جي اليابان) بنص اقتبسه من إدوارد يونغ (1683 ـ 1765 ) وهو ناقد بريطاني وكاتب مسرحيات وشاعر، له كتاب (تخمينات حول الإنشاء الأصيل) 1759 وفيه يقول: (قلم الكاتب الأصيل ينادي من أرض قاحلة: إن ينبوعا يتفجر من ذلك الربيع المزهر فيكون المقلد زارعا لأكاليل الغار التي تموت أحيانا عند إزالتها وتذبل روحها دائما في تربة أجنبية غير تربتها). وشرح ميلر مقصد يونغ وهو التركيز على الأصالة Originality التي لها في بعض الأحيان تقدير نقدي أعلى من التقليد Imitation وأن استعارة (الربيع المزهر) الذي ينبعث من أرض قاحلة لا تعني زراعة الغار الذي هو اللغة بقدر ما تعني إمكانية تقليد هذه الزراعة، وهنا مكمن تفضيل البذرة على الشجيرة، لأن الأولى يمكنها أن تنقل وتزرع في غير تربتها؛ فالبذرة تمثل النشأة والولادة، وهي تلخص تاريخ العبقرية الحقيقية. وجمال الأصالة/ البذرة يجعل لها علاقة كبيرة بقوة سحرية تتولد ذاتيا من نفسها وهو ما يجعل تقليدية المحاكاة متجذرة في أصل، يمكن له أن يكون خارج الحدود المحلية أو الإقليمية.
إن مقارنة يونغ غير المباشرة بين الأصالة والتقليد تنعكس مباشرة في مفهومين موجودين في كل مكان، حددها ميلر بالترجمة المؤقلمة Adapt Transition والترجمة الأدبيةLiteral Transition . وعلى الرغم من أن الباحثين في نظريات الترجمة توصلوا إلى طرق متنوعة لوصف أنماط الترجمة المختلفة، إلا إن الأساليب بشكل عام تميل إلى الانقسام ما بين الترجمة الحرفية التي هي ترجمة كلمة بكلمة، والترجمة التي هي معدلة وبالتصرف. وإذ يمكن للترجمة الأولى أن تتحقق عبر ممارسة «التعديل الدلالي» فإن الترجمة المعدلة أو المؤقلمة تعيد صياغة النص الأصلي من دون أن تضر بمصدريته، وعلى الشاكلة نفسها التي وضحها مثال يونغ السابق حول أصالة وأولوية النص المصدر source text.
وتتبع الترجمة المؤقلمة التقاليد نفسها التي عليها قام النص الأصل وانتقلت معه عبر الزمان والمكان إلى محيط جديد؛ فيتقارب النص المترجم مع الأصل ويقدمه بطريقة ليس فيها التواء أو تشويه. واستشهد ميلر في هذا الصدد بقول جون درايدن: (لقد حاولت أن أجعل فرجيل يتحدث الإنكليزية كما لو كان ولد في إنكلترا وفي هذا العصر الحاضر) فدرايدن أراد أن يزرع جوهر لغة فرجيل اللاتينية في تربة إنكليزية عبر أقلمة الترجمة، فكان ذلك كافيا وضروريا لجعل البذرة شجيرة تتوافق مع بيئتها البريطانية الجديدة.
من الممكن توجيه طيف واسع من الترجمات نحو اتباع هذا النهج الأدبي؛ فاختلاف الثقافات وتباعد العصور يقتضي أن يحتفظ النص الأصل بحقه عندما يترجم إلى لغة أخرى. وبذلك تصبح الترجمة أكثر دقة وصرامة في تجسيد التقاليد والتدليل عليها، وردم ما قد ينشأ عن ذلك من فجوات ثقافية.

كاتبة واكاديمية من العراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب